صحيفة المثقف

الثابت والمتحول في المجتمع العراقي المعاصر (3-5) ثقافة الولاءات .. وسيكولوجيا الانتخابات

والولاء يكون على نوعين : صادقا ناجم عن ايمان الفرد وقناعته بالجهة التي اختار الانتماء لها تلقائيا، وغير صادق ناجم عن حاجة اضطرته او تحقيقا لهدف شخصي . وأصغر حالات الانتماء هي انتماء الفرد الى أسرة وأوسعها انتماؤه الى مجتمع . ولا يمكن للانسان أن يستغني عن حاجته النفسية والاجتماعية الى الانتماء لأنه بدونها سيعيش حالة اغتراب نفسي واجتماعي قد تفضي به الى الانتحار.

والولاء يأتي بعد الانتماء . وليس شرطا في المنتمي أن يكون ملزما بالولاء للجهة التي ينتمي لها، فقد يكون الفرد منتميا الى عشيرة وليس ملزما نفسه بتنفيذ قراراتها. ومع تعدد الولاءات في المجتمع الواحد الا أن كل أفراده يجمعهم، في حالة الاستقرار، ولاء واحد هو الولاء للوطن.

غير ان الولاء يتأثر بالحالة العامة للمجتمع ..فحين يعيش المجتمع حالة استقرار تكون ولاءات أفراده الذين ينتمون الى جماعات متعددة سلوكا اجتماعيا طبيعيا،غير انها تكون مؤذية وعدوانية حين يحدث صراع سياسي او طائفي او قومي ..بين مكونات المجتمع الواحد..تؤثر سلبا في الشعور بالانتماء للوطن.

ويمكن للباحث النفسي تحديد عام 1980 بداية لتخلخل الشعور بالانتماء للوطن حين شنّ النظام السابق حربه على ايران . فلقد شعر معظم العراقيين أن تلك الحرب ما كانت مبررة، وأنها لم تكن من أجل الوطن، انما لأهداف أخرى تخص النظام، ولكره شخصي بين الخميني وصدام حسين، بالرغم من أن ايران كانت لها فعلا أطماع في العراق. وتعمق هذا التخلخل أكثر حين زج بالناس،بمن فيهم المعلمون وأساتذة الجامعة،رغما عنهم في هذه الحرب . ووصل هذا التخلخل الى أقصاه حين ساوى النظام بين الولاء لشخص رئيسه والولاء للوطن..بعد الغزو غير المبرر للكويت، ولأسباب كانت، في فعلها السيكولوجي، شخصية ايضا.

 

الولاء ..والحاجة الى البقاء

لنبدأ التحليل بفرضية سيكولوجية نصوغها على النحو الآتي :

" اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى ..شاع الخوف

بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة الى

البقاء ..فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما

يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ".

كان هذا هو التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع

بين معظمهم بالخلاص من الدكتاتورية. فبعد أن سقطت خيمة الدولة التي كانت تؤمن لهم " الحاجة الى البقاء " تفرّق الناس بين من لجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.

والذي زاد من مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على مرجعيات اجتماعية لا حصر لها، أن مزاج الفرح بسقوط الدكتاتورية امتزج بمشاعر الألم والمرارة التي تدمي القلب بتعرض بغداد الى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة، وصار الوطن ينهب من قبل أهله.

 

من هنا بدأت "ثقافة الاحتماء" وحدث تحوّل سيكولوجي خطير، وهو أن الشعور بالانتماء صار الى المصدر أو القوة التي تحمي الفرد. وتعطّل الشعور بالانتماء الى العراق وتحول الى ولاءات لا تحصى. ومما سهّل على العراقيين التخلي عن انتمائهم الى العراق، هو أن النظام السابق ساوى – كما أشرنا - في الانتماء بين العراق ــ الوطن، ورئيس النظام " صدام حسين هو العراق ". وثقّف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الإعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة. وانه عندما سقط رئيس النظام واختبأ في حفرة تحت الأرض، انهارت تلك المعادلة نفسيا". فتوزع الــ " 27 " مليون عراقي الى ما قد يزيد على المليون انتماء، وصاروا أمام واقع نفسي جديد، هو:

إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد، الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا" أو قسرا" لا بد أن تتصارع فيما بينها على السلطة، حين لم يعد هناك دولة أو نظام.

 

 

ثقافة الولاءات: من الشعبي الى الرسمي

مع أن العراقيين، أو معظمهم، كانوا مضطرين لا مختارين الى اللجوء لجماعة أو قوة تحميهم بعد سقوط خيمة الدولة التي كانوا يشعرون فيها بالأمان مدفوعين بــ " سيكولوجية الاحتماء " من خطر يتصاعد في حاضرهم، أو تهديد بخطر مستقبلي يتوقعونه بيقين، فأن تأسيس "مجلس الحكم" كرّس رسميا" حالة تعدد الولاءات الى طوائف واديان واعراق وأحزاب وتكتلات .... على حساب الانتماء الى العراق.

ومن هنا،نشأ تحول سيكولوجي جديد لدى الناس. فبعد أن أطيح بالدولة (وليس النظام فقط ) وافتقدوا الأمان، ودفعهم الخوف الى قوة تحميهم " العشيرة بشكل خاص ... اكثر الولاءات تخلفا" .. بدأ مجلس الحكم يأخذ في وعيهم أنه الوسيلة الى السلطة.. ثم الدولة. فتقدمت لديهم سيكولوجية "الحاجة الى السيطرة " التي تؤمن لهم بالتبعية " الحاجة الى البقاء " .

وكان الغالب في تشكيلة مجلس الحكم أنه قام على ثنائيتين سيكولوجيتين، هما:

1.     المظلومون مقابل الظالمين.

2.     عراقيو الخارج مقابل عراقيّ الداخل.

 

وكان أن نجم عن الثنائية الأولى: (ثقافة المظلومية ) التي شاعت بين الشيعة و" الكورد " مقابل: (ثقافة الاجتثاث) التي استهدفت من كان محسوبا" على النظام السابق لا سيما في أجهزته العسكرية والأمنية والحزبية والمسؤولين الكبار في الدولة، وغالبيتهم من السّنة. فشاعت " ثقافة الضحية " عبر صحف ومجلات صدرت في حينه بالمئات. وتولى هذه المهمة مثقفون أو من أخذ دورهم ممن لم تكن لهم علاقة بالثقافة، نجم عنها تهميش الولاء للعراق، وتكريس الولاءات الكبرى : الطائفية والاثنية والدينية.... والولاءات الصغرى: حزب أو تكتل أو عضو نافذ في مجلس الحكم، أو شخصية اجتماعية مستقلة ومتمكنة ماديا"، أو مسنودة خارجيا". وكان اكثر تلك الولاءات تخلفا" ظهور ما يمكن أن نصطلح على تسميته بــ (شيوخ التحرير) الذي يذكرّنا بــ (شيوخ أم المعارك) .

ولقد زرت مدينة الناصرية في صيف العام الماضي(2009) و تجولت بشوارعها وتحدثت مع ناسها . وبرغم أن الاعمار بدأ فيها الا أن شوارعها كانت مهملة . ولما استفسرت عن سوء الخدمات فيها أجابوني أن الذين تولوا أمرها أبناء عشائر يفتقرون للخبرة والكفاءة . ووجدت أن (ثقافة العشيرة) هي السائدة على الصعيدين الحكومي والشعبي، فأنت ما أن تتحدث مع أحدهم حتى يبادرك بالسؤال : " من ياعمام جنابك؟..يقصد العشيرة "..

 

فالذي حصل أن الديمقراطية جاءت بأبناء عشائر فيما المحافظة تحتاج الى حكومة محلية من تكنوقراط وكفاءات تخصصية، وأحلّت الولاء للعشيرة محل الولاء للوطن، وصارت الأحزاب تسعى لكسب ودّ شيخ العشيرة دعما لها في الانتخابات . فمن المفارقات أن أحد الشيوخ زاره موفدان من حزبين دينيين، ولكي "لا يكسر بخاطر أحدهما " قال لهما: "عندي مية فلاّح راح أقسمهم لكل واحد خمسين صوت !". ووصلت ثقافة العشيرة للجامعة، فأحد الأساتذة هدد مسؤولا بها ..أن وراءه عشيره! .

والعشيرة تتحكم فيها عصبيات : الولاء لها، والتحالف العشائري، والتقاليد . .وتلك كانت أسبابا في نشوب معارك دامية بين العشائر،يضاف لها عامل (التسيس) بعد التغيير،ولا ضمانة من نشوبها ما دامت المصالح تتحكم بالانتخابات، ولم تترسخ بعد دعائم الديمقراطية التي لن تستطيع زحزحة عصبية الولاء للعشيرة والتباهي بها الذي أشاعه السياسيون، وحتى المثقفون، بعودة الألقاب في المخاطبات الرسمية بعد ان كاد يقضى عليها حين أصدر الرئيس احمد حسن البكر أمرا بالغائها أعادها سلفه بعيد انتفاضة عام 91.

 

الانتخابات ..وسيكولجيا الاحتواء

يعني " الاحتواء " في السياسة العالمية : تحجيم دور دولة أو منعها من تحقيق هدف معين باستخدام الوسائل السلمية بدلا من تغيير نظام تلك الدولة بالقوة او

ولا فرق في الآلية النفسية لـ"الاحتواء " أن يكون بين دول أو بين قوى سياسية داخل الدولة الواحدة ما دام القاسم المشترك فيما بينها هو الصراع على المصالح . لكن المفارقة في الشأن السياسي العراقي أن " الاحتواء " حصل بعد استخدام القوة بين الفرقاء السياسيين !. فبعد فشل احتراب الطائفتين وعدم تمكّن احداهما من افناء الأخرى، وفشل الاحترابات الدينية والقومية، "ارتدّ " الفرقاء السياسيون الى سياسة (الاحتواء) ليجرّبوها في انتخابات (2010). فالذي وحّد القوى السياسية في الانتخابات السابقة، حاجتها الى (البقاء) حين واجهت كل الأطراف خطر الافناء، الذي ألجأ الفرد العراقي الى عشيرته أو طائفته أو قوميته ليحتمي بها، وأعطى صوته الانتخابي مدفوعا بهذا العامل السيكولوجي الانفعالي الذي أفرزه اصطفاف "جاهلي" .أما الذي يوحّد الانتخابات الحالية فهو الحاجة الى "المصالح" بعد أن أدركت هذه القوى أنها عاجزة عن افناء خصومها، وحتى تهميشهم . ولا يعني هذا انعدام شعورها الوطني، ولكنها تغلّب المصالح الفئوية على المصالح الخاصة بالوطن والناس، لكونها ما تزال مسكونة بهواجس الخوف وبارانويا السياسة . وستتحكم " سيكولوجيا الاحتواء"بالتحالفات . فالكتل الكبيرة التي ستتوحد على أساس طائفي، ستعمل على احتواء منافستها الكبرى من نفس الطائفة، وتتحد مع أخرى تختلف في توجهاتها وفق مبدأ (منافس منافسي ..حليفي) للحيلولة دون تحقيق هدفها في الوصول الى رأس السلطة .ومع اقتراب موعد الانتخابات قد تتحد تآلفات كبيرة يجمعها شعور وطني بحس طائفي .وستحتوي الكتل الكبيرة كتلا صغيرة في عملية نفعية تبادلية : زيادة في قوة الكتلة الكبرى وضمان بقاء ونمو الكتلة الصغيرة . وستنسلخ كتل من كتل أكبر تطرح برامج وطنية،معلنة ضمنيا تبرؤها من أخطاء المرحلة السابقة بما فيها جرائم الطائفية، وهي حالة ايجابية..ستعمل على تثبيت دعائم الديمقراطية في المجتمع العراقي المعاصر بزمن أقصر مقارنة بالمجتمعين البريطاني والأمريكي التي احتاجت فيهما الى عقود.

 

ان ما يجري في الشأن السياسي العراقي بعد التغيير خضع وسيظل يخضع لقوانين اجتماعية – نفسية . فأسباب المرحلة السابقة انتفت اوضعفت بتحقيق نتائجها التي أفضت الى أسباب جديدة للمرحلة المقبلة،ستضعف في نهايتها لتؤدي نتائجها الى أسباب جديدة للمرحلة التي تليها، وهكذا في عملية تطور مستمر ما لم يحصل انقلاب يطيح بالنظام القائم، وهو أمر صار مستبعدا في المستقبل المنظور. وكما تحكّمت " سيكولوجيا الاحتماء " في مرحلة الانتخابات السابقة، تتحكم الآن "سيكولوجيا الاحتواء" في مرحلة الانتخابات الحالية . ومع أنها ستشهد تحالف كتل بوجه يبدو وطنيا ولكن "برئة" طائفية ضد كتل أخرى بنفس الصفتين، فان البرلمان المقبل سيكون أفضل من سابقه، ممهدا الطريق الى مرحلة انتخابية أنضج تحكمها " سيكولوجيا المواطنة " ..أطال الله في عمر الجميع ليعيشوها ..اذا ما صار شي!.

 

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1287 الخميس 14/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم