صحيفة المثقف

مسارب الخروج عن داء السكوت في قصيدة النثر .. قراءة نقدية في ديوان تضاريس ابي محسد

متفوقا وقبل اختراق تداعيات النص علينا التقديم .

 

لقد عدد الدكتور زكريا آبراهيم في كتابه "مشكلة الإنسان"المشكلات التي تتمحور حول مفهوم "الإنسان" بوصفه كائناً إشكالياً، فكتب يقول في واحدة من تلك المشكلات : "أن الإنسان مشكلة لأنه الموجود الذي لا وصف له سوى أنه لا يوصف من هنا بدا الشاعر سامي الاسعد مقارباته النثرية وهو يرصف الواقعية ضمن نقلات مكشوفة لاتغيب عن ذهن القاريء وهو يؤكد لوعة غربة طويلة لاحدود لها ولاموعد ولاحلول في مدينة خربةلاينظر لها ولايهتم بانسانها طوال السنين وهي تحمل براءتها وشروط صدقهاوهو واحد من شواهدها الكثيرة

 

1/المسار الاول منابع الغربة من الولادة بين مرافيء الام ودروس الجد

كثيرا ماينفلت الشاعر من اسار غربة حقيقية داخل الوطن وهي اصعب من الخارج بالتاكيد ولكن غربة الشاعر سامي السعد الحقيقية في عالم غير عالمه لايعرف متى يجد الانسان فالكل لاتفهمه في هذا العمر المنسحق الذي بات ريحا وقد عبر الاربعين وما زال صراخه وجعا بصريا لاطائل بعده وقبله فمتى ينفك الاسر عن هؤلاء الغرباء في داخل وطنهم غربة كتابة وغربة بيت وغربة حقوق وغربة وفاء فكل شيءعند سامي السعد غير متحد، وهو يدرك تماما بان القيم على هذا الأساس تحدد إنماط الحياة الاجتماعية وكيفية التعامل مع الطبيعة واستغلالها استغلالاً واعياً، وتوحد مشاعر الناس وآمالهم وافكارهم، وتمنحهم الشعور بالانتماء والتعاون والعمل المشترك وتهيء لهم سبل الضبط والتكيف الاجتماعي . ولهذا "فأن الطبيعة البشرية ليست مجرد طبيعة أونطولوجية بل هي أيضاً طبيعة أكسيولوجية، وليس يكفي أن نقول عن الإنسان أنه "موجود القيم"أو أنه "كائن تقيميي"، بل يجب أن نضيف إلى ذلك أيضاً أنه "الكائن الأخلاقي"الذي لا يتحدد وجوده إلا من خلال علاقته بالقيم أو بعبارة أكثر ايجازاً وتلخيصاً، "فإذا ما حاولنا أن نفرق بين عالم الإنسان وسائر العالم في كلمة واحدة فلن تكون سوى القيم أو هي "همزة الوصل بين التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري، وبناءً على ما تقدم من أفكار وآراء يمكننا أن نجمل المعنى العام المفهوم "القيم"بأنه منظومة الأحكام والقوانين والمعايير والمعتقدات والأعراف التي تكون بطبيعتها إحكاما بالمرغوب فيه والمرغوب عنه، بما يتلائم وتطلعات الإنسان وطموحاته نحو المستقبل الذي هو أفق مفتوح، سواء أكان ذلك الإنسان فردا أو جماعة،

 

كيف تتلاقح القيم في قوم يسكنون المنجمد على حد تعبيره:

اخذتني رعدة من البرد

ساءلت نفسي

ترى اهولاء القوم يسكنون

المنجمد وتمر ساعة

 

انها تساؤلات ليس الا يبدأ بها السعد مفاتيح غربته وهو يلح على بساطة طفولة مذبوحة محرومة من ابسط حقوقها:

غير ان القابلة لم تفهم ما اريد

دثرتني بخرقة

وربطت يدي ورجلي

ثم طوت حول راسي عمامة من قماش ناعم

 

انها صور واقعية يشهدها الجنوبي الفقير بلا مشفى ولاطبيب ولاقابلة فلم يخرج الشاعر عن حقيقة بل يقول الصواب والمهم ان لحظات الغربة بدأت من الطفولةالمسار الثاني موقف الام والحرمان العاطفي على الرغم من كونه وحيد امه لكنه لايأخذ حصته من كل شيء :

وشممت في صدرها رائحة الجنة

التي جئت منها

وكان قبلها يمطر شفتيه بدعوات امه :

وكانت كلماتها قد انزلت السكينة في قلبي

بني مابك

قلت البرد يا اماه

من هنا بدا الشاعر الوليد غريبا يشعر بالبرد اول ولادته ومازال خيطا من الدخان مازال رهين محابسه كالمعري وهو يبكي ستة اشهر"

لم تكتشف سر بكائي

طيلة ستة شهور

وقد هدهدها الجهد والتعب

 

من هذا التصوير الطفولي يبدا السعد غربته المفاجئة والكشف عن حرمانه الطويل وهو لم يقصر في شيء بالرغم من انشاده الحب ولكنه ضاع في ادراج الرياح وذهب سدى كل شيء والدليل تلك التقاليد والاعراف الخانقة وهي تشغل كاهل ابناء مجتمعه ولامهرب منها ولافرار من مواقعتها :

وقد اتخذوا من كوفياتهم

ثقبا رغم سخونة الجو

على ان ذلك تقليد جرت عليه العادة

 

وقد اتخذ من القمر حجة على الحوار كيف يموت القمر في ارضه وهو قديم قبلهم على اعتراف جده الذي ينير فكره بهذه المدارك فجده صاحب وعي وخبرة فمالذي ينقصه عن الاخرين ولماذا يهمش دائما ولكنه يطرق ويصغي لجده الاكبر سنا وهو يرسم التقليد والقيم التي نوهت عنها في مدخل البحث والاصعب من هذا المفارقة الفضائية بين القمر وفراش جده:

اطرقت لحظة وعيناي تبتدران النظرات

بين فراش جدي وبين القمر

 

2/المسار السياسي الثاني ايدلوجية الانتماء بين احتراق الصمت وفوضوية الكلام

كلنا نعلم بان الشعر لايمتلك غير الشعر رغيفا يوميا وربما يستغني عن الرغيف ويصبر ولكن الشعر قلق يومي والزمن يعصر مشاعره وغبار السلطة تهزم الامل عنده

 

على حد تعبير فوكو(هي قوة تتمفصل في شبكة من العلاقات المعقدة والمتعددة والمتنوعة التي تتمدد على طول نسيج المجتمع وعرضه، "وأيا تكن الأجهزة أو المؤسسات التي تعتمد عليها، تنصرف السلطة بشكل متماثل ومكثف، أنها تعمل وفقا لأجهزة القانون والنهي والرقابة، البسيطة والمتكررة: فمن الدولة إلى الأسرة، من الأمير إلى الأب، من المحكمة إلى العقوبات اليومية الصغيرة، من سلطة الهيمنة الاجتماعية إلى البنى المكونة للذات نفسه فالسلطة، حسب المفهوم (الفوكوي) شبكة واسعة مترامية الأطراف تشمل الفرد من المهد إلى اللحد، أو هي قدر محتوم لا يمكن الفرار من حكومته، ذلك أن "السلطة حاضرة في كل مكان... لأنها تنتج ذاتها في كل لحظة، في كل نقطة

 

وبهذا المعنى قد جعل (فوكو) السلطة والمجتمع على حد سواء، بل أن السلطة كما يفهمها (فوكو) باتت أقرب الى الإنسان من حبل الوريد. فهو يرى "أنبثاث الخطاب السلطوي في مختلف الشبكة الاجتماعية،ونكشف الخطاب الايدلوجي عند السعد كاشفا بوضوح حضورا للسلطة المدمرة والمفجرة عند الشاعر الحقيقي مسارب الابداع ولانسميه هجوما عليها بل ادانة لهاضمن تيار يكشف عن هموم امة وقضية صراع فكري في مطلع الستينات على الاقل فكان الصراع محتدما بين الشيوعية والقومية وقد فجر الزعيم الخالد عبد الكريم تلك الرؤى في ثورة تموز عام 1958 ولكن اغلب المنتمين تركوا الايدلوجية لاغراضهم والمال اصبح همهم الاكبر ولكن بعضهم مات عند فكرته وايمانه ويتخذ من السلطة امثلة على رأسها القاضي:

والقاضي اسقط الحقيقة

من حقيبته

المكتنزة بشكاوى اخرين

فلم يبق عنده

الا ماخف حمله من هراء

 

وقد يكشف الناقد سرا مفضوحا في تراكيب السعد وهو يتعاطف معها مفكرا لامنتميا و يشير الى المنجل رمزا مكررا -رمز العمل وتحقيق المال ورمز لينين قائلا:

ستجدان في حقيبتي قفازين

ومنجلا صغيرا

 

ولكنه تركه مرغما خائفا من تلك السلطة والقيد وهو يعرف ان الخوان فارغ

وانظرا الى خوانكما

وان كان فارغا

ولاتتطلعا الى خوان الاخرين

لقد تركت لكما شيئا يسيرا من التمر

 

قل انها صورة مأخوذة من سورة يوسف وفكرة اخوته ولكنه يعود في سردية واقعية ولم ينس عمتنا النخلة وهو يطلب بالحاح:

ولاتنسيا النخلة

اريقا عليها

من ماء صبركما قليلا كيما تضل سعفاتها خضرا

 

واقف معجبا منحنيا حقيقة لامفر منها ان قصيدته الرائعة من هو الارهابي تسرد خلاصة مترجمة لزمن رديء واناس ردئيين حد انقطاع النفس حين يصفهم انانين الى القحفة جبناء يعتمون على هزائمهم ارضيون لانفحة من السماء عندهم بلهم شلة من العصابات الزائفة يقول:

كل شيء فينا ثقيل

حتى ارواحنا

 

بل يصف بلوحات متنوعة ذوقه للفن ومزج الوانه وكان يتنظر الغيث ولم ينزل ووضع السموم لارضته وقتل جاهدا الصراصر ولم يبق الا تساؤله:

قل لي بربك أي صنيع شنيع

عرض علي ولم افعله

واي وجدان مريض هذا الذي احمله

واي اعتداء على النواميس اشرع فيه

 

هذه الادانة الايدلوجية الفاضحة يبرر اسبابهاولم يشر الى طرف خفي بل يصرخ قائلا:

ثم اعودبعد ذلك

 لامسك المسبحة في شمالي

وخاتمي في يميني

واطلق شعيرات لحيتي وامسدها

 

هذه المسرحة الرائعة للادانة التي يعرفها الجميع وقد لبس الازدواجيون ثوبا قرمزيا جديدا وغيروا ابدانهم كما اشار ولكن المأساة تزداد والامور تتعقد فليس هذه المبررات حلا، وهو يفضح مثل هذه الشخوص ويعلقها في حبل المشنقة غدا ويسميها الارهابيين

 

نعم كان يتماشى مع قصيدتي التي القيتها يوم الغدير مخاطبا الامام علي عليه السلام

لايخدعنك المرء تنظر ثوبه  وتراه يرقص في ثياب حداد

وتراه في ثوب الحسين معمما  وبكفه الاخرى سيوف زياد

ان الحسين عليه السلام قضية ومنهج وفكر وعاصفة وتغيير وتطبيق لايريد الاقوال والالوان فقط

يبقى الحسين مدا التاريخ لافتة  تدق في جبهة الانسان للابد

 

انه هجوم منه ومني على الحرباوات المتلونة في كل زمن يتماشون مع الظروف ويخدمون مصالحهم وينسون حقائقم ونياتهم ويركنون الى الخطا وينسون الصواب ولهم في كل زمن نية وهدف ويدورون كما تدور الرياح وتؤشر العقارب، والشاعر هنا واضح كالشمس في نصه النثري

 

3/ المسار الثالث مساره السردي وقد رأينا الطابع القصي مسيطرا على قدحات نثره وربما نجانب الصواب اذا قلنا ان قصائده سيرة ذاتية تتضمنها الاحداث وتتقاسمها الصور ووتفرد بها الشخوص الواقعية منها:

-منتصبة في بستان شناوة

-اما مناتي فكلما نزل الخطيب من منبره تلقاه بدعابة

- تلك منازلنا في بستان الحاج

- بفعل العم محمد علي حميدي

-لانها عرفتني على الشيخ منصور

-فانظر الى وجه حفيده عصام

 

كل هذه الشخوص لها مواقفها وذكرياتها ضمن اطار قصي واحداث سيرة ذاتية واجد الشاعر موفقا حقا في توظيف السرد في النص تالنثري ونحن نعلم بان القصيدة المنثورة تريد التكثيف ولكن السعد نقلنا الى رؤى جديدة في فن النثرومفاد كلامه انه يرفض الاستسلام دون فهم ودراية ومعرفة وثقافة وايمان قبل الانطواء تحت راية التقاليد العجفاءويثور على الاحبة التي سكتت على جلادها ومستعمرها قائلا:

ولكن في غفلة من الزمن

اه على اثاركم التي اصبحت نهبا بيد الغرباء

تبكيكم عيني دما

 

وبعد هذا كيف لايكون الشعر رغيفا للشعراء بل اهم من الرغيف

 

4/ مسار الرثاء الواقعي بسرد شعري نثري رائع حقا في قصيدة ازهار المحبة

عندما رحلت في ذلك اليوم المطير

 

 وهنا يتناص مع امطار السياب ولوعته وموته في يوم ممطروحرمانه من دواء وهواء وطنه :

الا انا يوم لحظتك وقد شد نعشك على ثبج المركبة

لم استطع ان اروي جوادي الذي كبا

وتهشم ساقه

 

فكيف يقطع الحياة وتهشم ساق حصانه وطموحه وامله:

ايه بنيتي

رميت بنفسي في محيط الاهوال

لاهرب الى حتفي

او الاقيه مغاضبا

ولعلمي بتقاك وزهدك

كنت ابحث بينهم عنك

 

 

بهذه الافكار نسج الشاعر المقتدر سردياته وعبر عن مواقف يكشفها المتلقي المتذوق دون جهد ولعلني اقتربت قليلا من ضفاف حزنه ومسارب غربته واقسم بالله العلي العظيم انني ناقد وشاعر لم التق بالشاعر بل اهدى لي مجموعتيه الشعرييتين رمضانيات وتضاريس

 

ولي جولة قادمة مع رمضانياته، واعود قليلا الى مستهله لماذا تضاريس ابي محسد فلها دلالتان صارختان دون استئذان من احد انها الاوجاع البشرية التي عانى منها ابو الطيب او المحسد قبلنا والتضاريس لايزحزها شي الا القادر المقتدر واقول له ايها الشاعر الكبير سامي السعد اطمئن ياصديقي فان العراق وطن كبير وشعب واع وجوع يخلق الابداع:

 

نعم العراق كثيرة وجميلة   واهمها ياسيدي الاوجاع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1292 الاربعاء 20/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم