صحيفة المثقف

في سيكولوجيا الناخب العراقي (1-2) .. قراءة نفسية ـ سياسية

فلقد تحرر الفرد العراقي من عمليتين نفسيتين احدثتا تخلخلا" في حياته النفسية والاعتبارية هما : الخوف من السلطة الذي كان يفضي الى الرعب ان لم ينفذ اوامرها، وآلية ممارسة الزيف على نفسه التي ينجم عنها الشعور بالذلّ واحتقار الذات .

واللافت ان سيكولوجيا الناخب العراقي دخلت، بعد التغيير، في مراحل كانت على النحو الآتي :

 

المرحلة الاولى: سايكولوجيا الضحية.

  مارس النظام السابق اضطهادا" بشعا" ضد مكونين كبيرين بالمجتمع العراقي هما " الشيعة "و "الكرد" . وحين انهار النظام صارا هما المكونان الرئيسان بالسلطة الجديدة، وساد بين اتباع هذين المكونين شعور انفعالي عارم، فصار ولاء الشيعي لرموزه الشيعية في السلطة، وولاء الكردي لرموزه الكردية في السلطتين . وتوحد من كانوا محسوبين على "الجلاّد" او حسبوا على سلطته في مكوّن "سنّي" .. اخذ يلّم اتباعه ضد خطر " الضحية " التي استولت على سلطة "الجلاّد" ونأى بنفسه عن ممارسة حقه الانتخابي، في وضع وجد حاله فيه انه قد تحول الى " ضحية " .. وتخوفا" من بطش "ضحية" رأى فيها انها تحولت الى " جلاّد " .

 

المرحلة الثانية: سيكولوجيا الاحتماء .

ان اولى وظيفتين لأية حكومة هما : حماية المواطنين قاطبة، وفرض نظام الأمن والسيطرة على الأفراد بالشكل الذي يجّنب المجتمع من الفوضى والعنف . وبانهيار الدولة العراقية (وليس نظام الحكم فقط) في نيسان 2003، انهار الأمن وساد العنف والفوضى .. وصار خطر " الافناء " يتهدد الجميع .. وتحول الى فعل بشع ومرعب لدرجة ان عدد المذبوحين والمقتولين زاد على المئه في اليوم الواحد . ولأن اولى الحاجات لدى الانسان هي "البقاء" فقد توزع العراقيون على من يحميهم، وصار ولاء العراقي للقوة التي تحميه، وصارت الحماية مشروطة "بعقد اجتماعي" غير معلن بين الطرفين (احميك مقابل ان تكون معي).

   هاتان السيكولوجيتان هما اللتان تحكمتا في الانتخابات العراقية التي جرت في العراق بعد السقوط . فقد تصدرت القائمة الشيعية المرتبة الأولى في انتخابات عام 2005، وحصلت على 131 مقعدا"، وصوت لها 48 % من المشاركين .. بحدود اربعة ملايين من مجموع ثمانية ملايين شاركوا في عملية التصويت .. تلتها القائمة الكردية .. فشكّل الضحيتان الغالبية المطلقة في نتائج تلك الانتخابات .

  وبرغم الانقسامات التي حصلت في الاحزاب الدينية الاسلامية، وبرغم انحسار تأثير الفتاوى الدينية التي أدان أو لام اصحابها فيما بعد اداء الحكومة والبرلمان في الأمور المتعلقة بخدمة الناس، فان هاتين السيكولوجيتين ستظلان متحكّمتين في الناخب العراقي بين اتباعها، لقوة تأثير المعتقد المذهبي في الاوساط الشعبية، ولأن الاحزاب المتنفذه منها تمتلك المال والسلطة ايضا"، ولأن فيها اشخاصا يتمتعون بالكفاءه والنزاهة والتاريخ الوطني المشّرف،

 

 المرحلة الثالثة: سيكولوجيا المسؤولية الرخوه

  ان ادلاء الفرد بصوته بشكل حر حق كفله الدستور العراقي، ولكن حريته في اعطاء صوته في الانتخابات التشريعية أو المحلية ينبغي ان تكون مصحوبة بــ " المسؤولية "، لأن الانتخابات (لاسيما مجلس النواب) تقرر مستقبل الوطن وتحدد نوعية الحياة للناس بشكل عام .

  والذي حصل في الانتخابات السابقة (2005 ) ان العراقيين، بشكل عام، لم يمارسوا "المسؤولية" الوطنية ولا حتى الشخصية في اعطاء اصواتهم التي منحوها لولاءات طائفية وقومية ودينية . ومارس كثيرون منهم نفس الزيف على الذات الذي مارسوه في النظام السابق، وبنفس ألية "سيكولوجيا الحمايه" .. ولكن بدلا" من ان يحمي نفسه من غضب السلطة عليه تحول الى الحمايه من خطر مكوّن اجتماعي . واذا كان قد اعطى صوته مكرها" في الانتخابات التي اجراها النظام السابق فأنه ايضا" اعطى صوته مكرها"، أو مضطرا"، في الانتخابات الجديدة .. ولا فرق بين الحالين، لأن في كليهما لم يمارس " المسؤولية " في اعطاء صوته الانتخابي .

  وكانت النتيجة الناجمة عن انتخابات 2005 هي شعور معظم العراقيين بخيبة الامل وفقدان الثقة في الاشخاص الذين كانوا يعتقدون انهم يمثلونهم . والشيء الايجابي الذي حصل هو : ادراك العراقي ان الانفعال والعاطفة عليه ان يستبعدهما الآن في اعطاء صوته . وهذا يعني ان " العقل الانفعالي " الذي تحكّم في الانتخابات السابقة سيتراجع لصالح " العقل المنطقي " في الانتخابات المقبلة، وهو تحول يبشّر ان الوعي " بالمسؤولية " قد بدأ ينمو لدى العراقيين، غير ان هذه " المسؤولية " ما تزال في بداية تكوينها .. بمعنى انها لينّه أو رخوه أو هشّه .. تتأثر بانتماءات أو ولاءات أو حاجات أو مصالح أو علاقات .

   وعليه فأننا نتوقع أن كثيرا من هولاء سيعطون اصواتهم للاحزاب المتنفذه بالسلطة (لقناعة أو لحمايه) فيما سيعطي الآخرون اصواتهم لولاءات عشائرية، أو علاقات شخصية، أو لمن تكون اللقمة معه أدسم، أو بيعها لمن يدفع أكثر(يبررونها بقولهم : وشحصلنه من الوطن، اشو تحدينه الموت ورحنه انتخبنه وتاليها هم بنوا قصور واحنه بقينه بخرايبنه، والراح يجي ما راح يختلف ) . وسيشيع في هذه المرحلة .. النفاق بنوعيه : السياسي والاجتماعي .

 

المرحلة الرابعة: سيكولوجيا الوعي بالمسؤولية

  الشيء الجيد في الانتخابات المقبلة هو نظامها الجديد الذي لم يعد التصويت فيها مقتصرا" على الاحزاب، بل سمح للافراد بالترشيح ايضا" .. ويأتي هذا لصالح ارقى وانضج شريحة في المجتمع العراقي وصلت الى مرحلة الوعي "بالمسؤولية" التي تعني ان الفرد فيها سيعطي صوته للمرشح (المرشحة) الذي تتوافر فيه عناصر الكفاءة والنزاهة والقدرة على خدمة  الوطن والمواطن، بغض النظر عن قوميته أو طائفته أو دينه أو جنسه،وما اذا كان معمما أو أفنديا . ولأن القوائم الكبيرة عمدت الى تنظيف نفسها من أشخاص غير كفوئين وغير نزيهين، وطعمت نفسها بأشخاص يفترض أن تتوافر فيهم الكفاءة والنزاهة.

  غير ان هذه الشريحة (المثقفة) سوف لن تستطيع الفوز بعدد من المرشحين يكون بامكانهم تغيير موازين القوى، لأمور كثيرة اهما ان القوى العلمانية واليسارية والديمقراطية والقومية التقدمية والمستقلة .. غير موحّدة، وانها ضعيفة ماليا" ودعائيا" ..ازاء مكونات تمتلك السلطة والمال وتأيد المرجعيتين الدينية والعشائرية.

والمرجّح ان نتائج الانتخابات المقبلة ستأتي لصالح قوى علمانية ووطنية مستقلة، ولكن ليس بالحجم الذي تتمناه أو تتوقعه تلك القوى من حيث عدد الفائزين . ستفوز هذه القوى بعدد من المقاعد كانت من حصة قوى دينية، ولكن ستبقى الاغلبية لهذه القوى. فما تزال سيكولوجيا الضحية والحمايه تحكم سلوك الغالبية من الجماهير الشعبية .وستبقى حظوظ القوى اليسارية التي تخوض الانتخابات دون تحالفات مع كتل وطنية ضعيفة ازاء مكونات كانت متباعدة وتوحدت في ائتلافات لسببين: لمواجهة ائتلافات كبيرة تحصد غالبية الاصوات في حالة بقائها مشتتة، ولضمان فوز قادة هذه المكونات وفقا لشروط  اتفق عليها المرشحون الكبار في القوائم المؤتلفة.

  وثمة آلية سيكولوجية اخرى، هي ان الناخبين العراقيين كانوا قبل سنة يعزفون عن المشاركة في أية انتخابات مقبلة، بسبب ما اصابهم من احباط ناجم عن الانتخابات السابقة، وشعورهم كما لو أنهم "خدعوا" حين تبين لهم ان كثيرا من الذين اوصلوهم الى مقاعد البرلمان، وتحدّوا الموت البشع الذي كان يترصدهم في الشوارع .. قد خذلوهم واهتموا بمصالحهم الشخصية وصار كثيرون منهم عوامل فتنة طائفية وقومية في البرلمان.

 غير ان معظم العراقيين قد بدأو يتعافون من هذا الاحباط، فضلا" عن ادراكهم لحقيقتين هما: ان العزوف عن المشاركة في الانتخابات يعني تدهور احوالهم الى ما هو اسوأ، وانهم عنصر التغيير وعليهم ان لايضيعوا الفرصة. وعليه فاننا نتوقع ان يكون اقبالهم على الانتخابات المقبلة بنسبة تزيد على 50 %، والأمر مرهون بنزاهة عملية الاقتراع، ووضوح برامج المرشحين، وضمان حق الترشيح لكل عراقي له موقف سليم من القانون .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1292 الاربعاء 20/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم