صحيفة المثقف

الظواهر الكبرى في المقدسات الثلاث – الله، الدولة، الانسان

 الذي ما ان شعر بالحركة تدب في جسده، حتى استلّ خنجره وزجر الاله قائلاً: ابتعد عن طريقي ايها العجوز" (نيكوس كازنتزاكي - من رواية زوربا)

هل يمكن الحديث عن وجود مقدسات من دون وجود الانسان وسيرورته التاريخية؟

الدولة هي الاكتشاف الاعظم الذي عرفه الانسان، تلك هي المقولة التي اقرها الكثير من علماء الاجتماع والانثربولوجيا والتاريخ، فتلك المؤسسة بما مثلته ومارسته، كانت الحّد الفاصل في السيرورة البشرية، بين ماسمي بعصور ماقبل التاريخ حيث الانسان البدائي ساكن الكهوف وصائد الطرائد الحيوانية التي كانت المصدر الوحيد لمعيشته، ذلك الكائن البشري الذي كانت قوته العضلية وقدرته على الصيد، هي اداة السيطرة وواقع النفوذ في ذلك القطيع المتنقل حيث الامكنة الاكثر دفئاً والاوفر صيدا،وبين عصر الحضارة حيث مسار الحياة سيتخذ منحى آخر ولتبرز من ثم أداة أخرى للسيطرة تكون هذه المرة اشد فتكاً وقسوة وأكثر تنظيماً وقوة .

كانت القطعان البشرية قد وجدت طريقاً للتعاون في وسائل عيشها، في وقت بدأت فيه بتشكيل جماعات تتآلف وتتوزع مهام العمل بعد ان اكتشفت مستجداً آخر لحياتها عدا صيد الحيوانات، مكتشف سيكون له الاثر الاكبر في التحول نحو مجالات للعيش اكثر استقرارا، وفي بقعة جغرافية معينة وجدتها الانسب في سياق صراعها مع القطعان الاخرى للاستئثار بتلك البقعة، كان الانسان قد دخل مرحلة انتاج القوت وتخزينه بدل الاكتفاء بجمعه واستهلاكه .

التجمعات البشرية الاولى، انشأت قرى زراعية اخذت بالتوسع تدريجياً مهيئة الظروف الملائمة للتحول الى مجتمع "بعد ان ولدت عناصر الحياة في شكل تجمعات بشرية، كانت أعظم ثورة اقتصادية في تاريخ البشرية - الزراعة- التي نقلت البشرية من عصر جمع القوت الى عصر انتاج القوت قبل أكثر من عشرة الاف سنة"

 (راجع: تقي الدباغ – العراق في عصور ماقبل التاريخ – ص16، عبد الوهاب حميد رشيد –حضارة وادي الرافدين ص15) .

ومع تلك الانتقالات في طبيعة الحياة البشرية، اوجد الانسان وسيلته الخاصة للتفاهم، محولاً الاصوات المبهمة والاشارات المساعدة في اطراف الجسد، الى كلمات مفهومة ورموز يمكنه الاستدلال بها في اطار تعاملاته اليومية مع الاخرين .

التحول في وسائل العيش، اوجد بدوره تحولاً اجتماعياً موازياً حتمته طبيعة الحياة الجديدة التي تطلبت نمطاً آخر للتعاون، فلم تعد المرأة لكل الرجال والرجل لكل النساء كما في عصرالكهوف (راجع – أصل العائلة والملكية والخاصة والدولة – فريدريك انجلس ) فقد كان الرجل يبحث عن نسل يخصه كي يورثه ما انتجه وماهو ملكه،وكانت المرأة تبحث عن حقها في ان تكون في كنف رجل مسؤول عن حمايتها وماسوف تنجبه من ذرية، كانت تلك المقدمات الاولى لتكوين الخلية التي ستكون اساس التشكل الاجتماعي اللاحق اي الاسرة .

في تلك المراحل، كانت هناك سلسلة من الاعداء يهددون مصير الانسان، أعداء يكمنون داخل جسده ولايستطيع محاربتهم كما يفعل في مواجهة خصماً خارجياً، الألم والمرض والموت، تلك الافات مجهولة المصدر، كانت المنطلق الثاني للانسان في البحث عن المسبب وطرق العلاج، لقد كان محتماً على الكائن البشري ان يواجه الطبيعة في عوامل غضبها وتبدلاتها غير المفهومة، في تلك العصور التي سبقت التاريخ .

القوة المجهولة المتميزة بالتعالي والخلود والقدرة الكلية على تسيير الكون والتحكم بأقدارالبشر، لابد ان تكون في مكان خارج متناول الانسان وخارج فهمه كذلك، قوة لايستطيع الانسان من فعل شيء حيالها الا الطاعة لها وسماع اوامرها .

لكن كيف سيتلقى الاوامر منها؟ وماهي وسيلة الاتصال بتلك القوى الخارقة وطرائق ارضائها كي لا يزداد غضبها عليه؟

طقوس العبادة التي تطورت من محاولات استرضاء فردية ومنزلية لتلك القوى المتعالية الغاضبة على البشر تارة، والراضية عنهم تارة أخرى - حيث يتجلى ذلك في تقلبات الطقس العنيفة - الى طقوس جماعية خصصت لها المعابد التي اكتسبت قدسية متزايدة وكرس لخدمتها اناس سيكتسبون بدورهم مكانة خاصة وتأثيرات كبيرة في المجتمعات البشرية التي اوكلت امر ادارتها وتنظيم شؤونها الى من يملك القدرة والقوة على فعل ذلك، انها المؤسسة التي ستتحول فيما بعد الى الاكتشاف الاكبر في حياة البشر على امتداد الازمنة اللاحقة - السلطة - .

في وادي الرافدين، حيث شيدت اولى المستعمرات الزراعية التي تطورت لاحقاً الى مدن لها نظامها وسلطتها وسلالة ملوكها وآلهتها الخاصة كذلك، ومنها عرف الانسان اولى النصوص والتراتيل الدينية وطبقات الكهنة، الذين هيأوا للملك مشروعيته المستمدة من الالهة كما جاء في المعتقدات القديمة لأقوام وادي الرافدين،حيث وضعوا تصوراً لعمل الالهة وادوارها ومسؤولتيها عن الجنس البشري، ابتداء من اساطير الخلق والتكوين، مروراً بمنظومة الثواب والعقاب بمعنييه: الدنيوي الذي تكفلت به السلطة الحاكمة بما وفرته من مصادر القوة - واخروي وهو ما تتكفل به الالهة بعد موت الانسان الذي اطاعها سراً وعلانية وتقرب منها عبادة وشعائر وتضحيات، وحسّن سلوكه تجاه السلطة والمجتمع، عندها تذهب روحه الخيرة الى النعيم المتخلص من كل شرور الارض وآلامها، والوصول من ثم الى ماخص به الالهة أي الخلود الدائم، أو الى الجحيم حيث العذاب الابدي لمن عصى اوامر الالهة القادمة عبر اقوال الكهنة واوامر الحكام .

"اعبد الهك كل يوم

وقدم له القرابين والصلوات

قدم قربانك طائعاً لالهك

قدم له الصلوات والضراعة والسجود كل يوم

وسوف تثاب على ماتفعل

عنئذ سيكون بينك وبين الله اتصال كامل"

(المعتقدات الدينية لدى الشعوب – ص29- نصائح الحكمة)

علاقة الانسان بالاله، هي المرتكز الاهم الذي يمكن من خلاله تتبع المسارات اللاحقة في تطور المعتقدات الدينية، من تعدد الاله الى وحدانيتها ثم الى توحيدها .

 وفي الاديان السماوية، تمحورالتصورالديني حول فكرة الخطيئة التي على الانسان ان يسعى الى طلب غفرانها، فقد عصى آدم أوامر الله ما ادى الى حرمانه من الجنة ونزوله الارض حيث الألم والعذاب، ثم وقعت على الارض الجريمة الاولى التي ارتكبها قابيل – المرفوضة قرابينه – بقتله اخيه هابيل – المقبولة قرابينه – حسب التوراة، وهكذا قتلت البراءة ومعها الرضى الالهي عن البشر، وبقيت الجريمة ومعها الغضب الالهي .

وفيما اختفى هابيل من حياة الانسان ولم يعد يذكر سوى في النصوص المقدسة والموروث الاجتماعي المستمد من تلك النصوص، حضر قابيل عبر ذريته في خطاياهم، وفي اسمه الذي تسمى به بعض البشر، ربما اعترافاً رمزياً من الانسان بفكرة كونه خاطئاً، وبالتالي ضرورة سعيه لطلب المغفرة "اللهم اغفر لي ولوالدي ما تقدم من ذنبي وما تأخر" كما في دعاء المسلم، أوفي تضحية السيد المسيح بنفسه، قرباناً للبشر ودفعاً لخطيئتهم حسب المعتقد المسيحي، أما في اليهودية،فهناك عيدخاص يسمى (عيد الغفران) تؤدى فيه الصلوات والأدعية وتقام الطقوس الدينية طلباً للمغفرة .

واذا كان العقاب الالهي للانسان الفرد، يظهر في المرض والمصيبة وماشابه، فإن العقاب الجماعي يكون في حصول الاوبئة والكوارث الطبيعية والطوفان وسواها .

أما السلطة، فعقابها ضد الفرد يتمثل بالسجن والقتل والتعذيب الجسدي ومصادرة الاملاك والنفي الخ، فيما عقابها الجماعي يتخذ شكل الحروب والغزو والابادة الجماعية والحصار والاحتلال مصادرة الارض، و"كما في السماء كذلك على الارض" حسبما ورد في الانجيل .

في البدء اتخذ كل انسان تصوره الخاص عن القوى العليا التي تتحكم بمصيره في حياته وموته، والموت عالم غامض، الحياة فيه كئيبة قاتمة :

"الى البيت الذي لايغادره من يدخله –

الى الطريق الذي لاعودة منه

الى المكان الذي لايرى سكانه النور

حيث الغبار طعامهم والطين قوتهم

يعيشون في الظلام فلايرون النور"

             (ملحمة جلجامش)- المصدر السابق ص27

لكن ولما كانت الظواهر التي يواجهها البشر هي واحدة، فقد رافقت تطور الجماعة التدريجي الى مجتمع ومن ثم بناء المستعمرات الزراعية، تطور النظرة الى الالهة، التي اصبحت تتمركز في هيئة اله حام للجماعة، ومن ثم كلما ازدادت الحياة البشرية تعقيداً وتنوعاً نتيجة التكاثر وتنوع مهمات العمل وتعقيدها، كلما تعددت بدورها مهمات الالهة وتدخلها في الحياة اليومية .

لقد اعتبرالانسان ان الالهة تتمتع بسلطات مطلقة تتحكم في مصائر البشر على مختلف مستوياتهم، فلا سلطة تعلو على سلطة الإله التي تطبق على جميع المخلوقات، ولما كانت سلطة الملوك او الحكام مستمدة من الله مباشرة، لذا عدّ الخروج عن طاعة الحاكم، خروجا عن ارادة الله تستوجب العقاب "الخليفة لايخطىء وليس معرضا للحساب، فكلمته من كلمة الله" و "الناس على دين ملوكهم" كما جاء في بعض الفتاوى الفقهية أيام الخلفاء الامويين .

النصوص التي دونها السومريون والبابليون – وهي اقدم النصوص المكتوبة التي عرفتها البشرية – تشير الى مسؤولية الالهة عن البشر ثواباً وعقاباً، فالامراض هي العقاب الالهي الذي ينزل بالانسان الفرد، والشفاء هو الثواب الذي يناله، كذلك فأن جميع مايقوم به الانسان من اعمال، انما موحى به من عند الاله كما جاء في مقولة الملك الاشوري آشور بانيبال "لقد قطعت اوصال اعدائي وألقيت بهم الى الوحوش الكاسرة، وحين انتهيت من ذلك، انشرح قلب الآلهة العظام – آلهتي" –

(عبد الوهاب حميد رشيد – حضارة وادي الرافدين – ص203)

وفي عصور المدن السومرية، كان معبد الاله الحامي – أو كبير الاله – يعد بمثابة المقر الحكومي الذي تتخذ فيه القرارات الكبرى كإعلان الحرب وعقد المعاهدات وسواها حيث تبدأ عادة (بالبسلمة) إن صح التشبيه، أي بذكر اسم الالهة قبيل الشروع بالعمل المنوي انجازه، وهو ما سيصبح تقليداً عاماً مازال سارياً  .

ونظير تلك الاهمية التي يحتلها المعبد، كان القائمون على خدمته يلعبون دوراً محورياً تزداد اهميته بازدياد اهمية الاله الذي يخدمونه في سلسلة مراتب الالهة .

كان كبير الهة السومريين آنو - السماء - حامل ميزان العدل، يصور على شكل اله رحوم محب للبشر ومثله انكي اله الحكمة، لكنه اوكل امر الرياح والمطر والعواصف، الى اله آخر اكثر قسوة وجبروت – انليل – الذي سينتقم من البشر بإرسال الطوفان كما جاء في ملحمة جلجامش، لتتشابه من ثم مع الطوفان الذي ورد ذكره في الكتب السماوية المقدسة .

لقد تصور السومريون ان هناك صراعات ومنافسات تقع بين الالهة على السيطرة والنفوذ، في وقت كان فيه ملوك المدن يفعلون ذلك على الارض حيث نشبت صراعات دامية انتهت بسيطرة الاكاديين وملكهم الجبار سرجون الابن السري لكبيرة كهنة معبد عشتار من طبقة

 (إينتم) وهي الطبقا العليا بين الكهنة "أنا سرجون الملك العظيم، ملك أكد، كانت أمي كاهنة عليا، ولم أعرف أبي، حملت أمي بي ووضعتني سراً وأخفتني في سلة مقيرة من الحلفاء ورمتني في النهر، فلم يغرقني النهر بل حملني الى آكي سقاء الماء فانتشلني بدلوه ورباني واتخذني ولداً" : عبد الوهاب حميد رشيد - المصدر السابق ص51 .

تلك هي قصة الفاتح الاول، الذي سيقوم بتوحيد بلاد مابين النهرين ويؤسس اول امبراطورية في التاريخ،امتدت من الخليج العربي جنوبا، الى جبال طوروس شمالا، ومن عيلام شرقاً، حتى شواطيء المتوسط غرباً.

ذلك كان على الارض، أما في السماء، ففتوحات سرجون وغزواته رافقتها فتوحات لنظير الهي وتقلبات في السماء، فلم تعد آلهة المدن تصلح لرعاية الامبراطورية الاكدية مترامية الاطراف، لذا اندلعت ثورة في السماء قادها اله شاب جبار اطلق عليه اسم (مردوك) فقهر الالهة القديمة واستوى على عرش السماء ليكون الاله الاوحد دون منازع، كما هو سرجون الملك الاوحد دون منازع، عندها انتقل اسم العاصمة بدوره ليصبح – باب ايل – بابل، أو باب الله، التي تحولت الى مقصد طالبي العلم والرزق والباحثين عن المجد والنفوذ – وقد تكون المصدر الاول لكلمة (على باب الله) التي مازلت مستخدمة حتى اليوم - خاصة بين المسلمين - لمن يسعى في طلب رزقه .

يذهب بعض الباحثين في علم الاجتماع، ان الدولة مصطلح حديث ظهر الى الوجود على اثر التغييرات الهائلة التي شهدتها اوربا مترافقة مع الثورة الصناعية الكبرى وتمكن الطبقة الصاعدة من زحزحة السلطة القديمة للطبقات السائدة المكونة من ثنائية الملك / الكنيسة .

ويضع جوزيف شتراير أربعة شروط لنشوء الدولة الحديثة هي : الديمومة في الزمان والمكان لجماعات بشرية معينة – قيامها بتشكيل مؤسسات سياسية لادارة شؤونها - اكتساب المؤسسات التي أنشأتها صفة الديمومة – الاحساس بالولاء لتلك الجماعة والشعور بالانتماء اليها. – راجع: علي وتوت – الدولة والمجتمع في العراق المعاصر – ص202 .

وعلى ذلك، فالدولة الحديثة هي التي انبثقت من رحم تلك الثورة التي شملت تغيرات جذرية في الفكر والبنى المجتمعية والسياسية على السواء، قد توفرت لها الشروط اعلاه، لذا اصبحت الدولة بهذا المعنى، مصطلح يطلق على (دولة الرفاه والعقد الاجتماعي) ابتداءاً من نهايات القرن التاسع عشر .

ربما كان ذلك التعريف ضرورياً للعلمانية المنتصرة التي نادت بفصل الدين عن الدولة، ذلك لأن الدولة كانت على امتداد التاريخ البشري هي (دولة الدين أو المعتقد الالهي) فلم ينشأ (دين) ويتطور الا مع نشوء وتطور الدولة بعناصرها الاولية التي اعتبرها (روبيرت لووي) موجودة في جيمع المجتمعات حتى البدائية منها .

كان الاله السماوي والملك الارضي يتبادلان الادوار في الحضارات القديمة، فديموزي وتعني (الابن الشرعي) أو تموز، هو إله الخصب كما عرف في الحضارة السومرية البابلية، لكنه ايضاً كان احد ملوك اوروك، فالملك لايموت، انما يتخذ صفة أخرى ليكمل دوره في السماء، لأن الخلود صفة الالهة وكذلك الملوك العظام، لذا كانت حاشيتهم وأموالهم تدفن معهم بطقوس جماعية احتفاء بذلك الانتقال .

كان جميع ملوك حضارة وادي الرافدين هم آلهة (تموز- آشور) أو انصاف آلهة (جلجامش – أور نمو – نارام سين) أو يتلقون التعاليم من الالهة مباشرة (حمورابي) – الذي ربما كان نبيا كما تشير بعض الاراء - .

 كانت الهة المدينة تلائم شخصيتها، فقد اشتهر ملوك آشور بأنهم محاربون اشداء، تماما مثل كبير الهتهم آشور الذي نُسبوا اليه، و(نينورتا) إله الحرب والصيد - ويعني اسمه ( سيد الارض ) - وهو إله سومري / بابلي اسبغت عليه صفات حربية خارقة، في الوقت الذي كانت فيه المدن - السومرية / البابلية - تتعرض لتهديد من سكان الجبال والصحارى المجاورة، ثم انتقل الى آشور بانتقال العاصمة الى نينوى مع الابقاء على صفاته الحربية، وتذهب بعض المصادر الى اعتبار إنه قد يكون (النمرود)، الملك الجبار الذي سيرد ذكره لاحقاً في الاديان السماوية .

وكما في العراق القديم، كذلك في مصر القديمة،حيث كان الفرعون يعامل دائماً باعتباره إله أو من نسل آله، كما ان زوجات كبار رجال الدولة، كن يعتبرن في الوقت عينه (زوجات) لكبير الالهة – رع أو آمون - وقد انتشرت عبادة (اوزوريس) الاله الشاب الذي يقتله اعداؤه فتجتمع اشلاؤه ويعود الى الحياة من جديد، وقد يكون ذلك بمثابة تكوين اسطوري لتدمير عاصمة مصرالقديمة (ممفيس) على يد الآشوريين .

كان اعادة احياء تلك الاسطورة على مايبدو، يتم كلما تعرضت مصر الى غزو آخر، وهومايشير الى ترابط مثير للوقائع الارضية، ومن ثم اعادة تشكيل المعتقد الديني أو احيائه بما يتناسب والحدث الارضي

 "المنطقة الواقعة جنوب الدلتا، لم تكن سوى واد طويل يمتد حوالي الف كيلومتر، ومع التوحيد السياسي للبلاد، أصبح إله المدينة العاصمة، قائداً لجميع الالهة واتجهت ديانته لاستيعاب الديانات المحلية الاخرى، وقد ظهر الإله (حورس) مصوراً انتصار مصر العليا على مصر السفلى بوصفه حدثاً تم بفضل الاله وبتوجيه منه، وفي الواح اخرى، يبدو الاله وهو يقود احدى العشائر متحداً مع رئيسها" – المعتقدات الدينية لدى الشعوب ص44-

 قرون طويلة ستمر على تلك المعتقدات، ليصرخ بما يشبهها مذيع مصري طالبا من الله ان ينصرهم على الجزائريين في مباراة لكرة القدم جرت في نهاية عام 2009، مؤكدا ان الله لن يتخلى عنهم – أليس في ذلك استعادة لفكرة الاله الخاص الذي ينصر مدينته أو مملكته دون غيرها؟

الجدير ذكره في هذالصدد، ان كهنة مصر القديمة، كانوا يحملون في طقوس العبادة، المباخر ذاتها من حيث الشكل، التي سيحملها في مابعد، القساوسة والرهبان في الطقوس المسيحية التي تؤدى في الكنائس، كما ان المذبح المعد في الكنيسة لتقديم القرابين (أو الذبيحة الالهية) يبنى بالشكل ذاته الذي كان عليه المذبح في معبد (أوزوريس) .

حينما ظهرت (اليهودية) اولى الديانات السماوية الثلاث، استلهمت او تأثرت بالمعتقدات التي سبقتها في الكثير من وجوهها التعبدية والطقوسية، فمعظم ملوك بني اسرائيل هم من الانبياء أو من ذوي القداسة، لكن الاختيار الخاص بالسيادة والملك الموعد به سماوياً، لم يتجسد سوى ممالك صغيرة لم تستطع ان تمارس نفوذاً واسعاً على شعوب أخرى كما فعل غيرها من الأمم التي سبقتهم اوتلك التي عاصروها أو عاشوا في كنفها.

كانت (دولة الدين) تكيف معتقداتها وفق قوانينها المنبثقة من ارادة الحاكم ومباركة الكهنة، وبالتالي فقد تطورت فكرة المقدس من رحم تلك التفاعلية بين الثنائيتين المقدستين – الله والدولة – اما الانسان، وهو المقدس الثالث كما يفترض، والمدنس الاول والوحيد كما تشير اليه الاديان، فقد بقي ذلك الآثم الذي عليه دائماً اثبات ولائه بتقديم فروض الطاعة للدولة بشكلها الواقعي، ولله عن طريق العبادات وطلب المغفرة .

تلك المستويات في اطراف المعادلة، كانت متماسكة بما يكفي لضمان الطاعة، لكن الثواب والعقاب الذي تختص به الالهة، قد يتأخر الى مراحل مؤجلة من حياة الانسان بصيغته الفردية والجمعية على حدّ سواء، اما عقاب وثواب الحاكم، فمعجل وملموس، ذلك لأن طاعة الملك تجلب الطمأنينة والسلام للانسان، فيما معصيته تستجلب المآسي .

كان على الدولة ان تتخذ شتى الاساليب في ضمان طاعة رعاياها، ولما لم يكن متوفرا مراقبة السلوكيات الفردية لكل انسان، لذا فوجود رادع ذاتي يرافق الانسان بشكل دائم ويدعوه الخضوع الى السلطة واطاعة اوامرها، كان الحل الذي يمثله المعتقد الالهي والايمان المتولد من امتزاج ثنائية الله / الدولة .

وهكذا نشأت تلك المعادلة بخلاصاتها القائمة على : لا دولة من دون الانسان، ولامعتقد ديني دون دولة، لكن خلق الانسان في أحسن تقويم، لم يشفع له ان يكون في أحسن اعتبار، لابنظر المؤسسة الاقوى في الدولة - أي السلطة - ولابنظر الدين كما ارادته الدولة .

ذلك مافعلته جميع الحضارات القديمة .

ومع ظهور الاديان، اضطهد اتباع الدين الاول (اليهود) لانهم لم يؤمنوا بالالهة المنتصرة لآشور وبابل وأعلنوا التمرد بدعم من الفرعون (خفرا) الذي طمح كذلك بتوسيع نفوذ آلهته الخاصة، أما الامبراطورية الرومانية، فقد اضطهدت المسيحيين الاوائل لأنهم هددوا مكانة آلهة روما، لكن الاباطرة الرومان اعتنقوا المسيحية بعد ذلك عندما رأوا قوة الاله الذي يؤمن به اولئك المسيحيون ويستعدون للتضحية بأنفسم طواعية من اجله – وهو ما سيتكرر لاحقاً عند ظهور الاسلام الذي حاربته قريش لتهديده مكانة آلهتها، ثم اعتنقته، بعد أن رأت قوة الايمان لدى المسلمين الاوائل – .

الاسلام الذي جمع خلاصة المعتقدات الدينية التي سبقته، كان بإمكان رجاله في بداية عهده،ان يقيموا انموذجاً متقدماً للفكر السياسي واشكال الممارسة السياسية، لو تعاونت ثلاثة اساليب كانت متزامنة ومتعايشة : واقعية عمر بن الخطاب – استراتيجية مروان بن الحكم – قانونية الامام علي إبن ابي طالب .

كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رجل التكتيك الذي أرسى قواعد مازالت صالحة للعمل، ففي الدول الديمقراطية الحديثة، تسعى الاحزاب والقوى التي تتنافس على كسب اصوات الناخبين، الى الامساك بما يسمى (المفاتيح الانتخابية) وهي تلك الشخصيات ذات التأثير في مجتمعاتها – كالزعامات المحلية ورؤساء العشائر والعلماء والشعراء واصحاب رؤوس الاموال وما شاكل- وقد قرّب (عمر) كبار الشخصيات في قريش أولا وفي بقية القبائل العربية ثانياً بما فيهم خصومه السياسيين، الامر الذي ارسى دعائم حكمه واستقرت الامور في عهده حيث لعبت تلك (المفاتيح المجتمعية) دوراً بارزاً في حالة الاستقرار التي شهدتها خلافة عمر، لكنه في الوقت عينه، لم يجعل تلك الشخصيات تقف سّداً يحجب عنه حقيقة الحياة التي يعيشها بقية المسلمين، لقد ارضاهم أو حيّدهم، لكنه لم يسر وفق رغباتهم ولم يغلبوه على أمره .

وفيما خصّ مروان بن الحكم، فهو السياسي الاستراتيجي الذي خطط في وقت مبكر لاستلام السلطة، جامعا بين اساليب عديدة للوصول الى ذلك الهدف بإناءة ودهاء .

لقد لعب مروان ابن الحكم دوراً خفياً في معظم الاحداث التي وقعت منذ اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب – ولايستبعد نظراً لدهائه وبعد نظره – ان يكون قد ساهم بشكل ما، في الدفع باتجاه حادثة الاغتيال،أما في عصر الخليفة عثمان بن عفان، فقد اظهر نفسه في دور محوري فيما ادى الى قيام الثورة – أو الفتنة - ومقتل الخليفة الثالث في داره، ثم عاود الاختفاء في الاحداث الدامية اللاحقة الى ان ظهر بعد سنوات، وهوعلى رأس الدولة الاموية بعد سلسلة من الحوادث المدبرة التي ادت الى ازاحة منافسية واحدا تلو الآخر، ومن ثم ليبدأ عصر جديد للخلفاء الامويين بورثته من أولاده وأحفاده.

اما الامام علي ابن ابي طالب، فقد وضع الاساسات الاولى لما ستتبعه الدول العريقة في الديمقراطية شعاراً جامعاً "دولة القانون"

فقد أراد بناء مواطنة يتساوى فيها الجميع ويخضعون لقانون واحد يتشاركون في الاستفادة منه والعمل بمقتضياته .

ذلك هو الدستور الذي سوف تصله المجتمعات البشرية بعد قرون طويلة سادتها حروب طاحنة ومآس وويلات لحقت بأمم وبلدان كثيرة .

 لقد قدمت الحضارة البشرية اثماناً فادحة من أجل الوصول الى دولة يحكمها القانون وسلطة تقوم بوظيفتها في خدمة المجتمع لا التسلط عليه : "الناس نوعان : أخو لك في الدين أو نظير لك في الانسانية" ذلك ما نادى به الامام قبل الاعلان العالمي لحقوق الانسان بما يقرب من اربعة عشر قرناً.

لكن التاريخ العربي والاسلامي، فقد تلك الفرصة الثمينة، فواقعية عمر السياسية، بقيت تجربة فردية، فيما تحولت استراتجية مروان ابن الحكم الى تآمرية، أما قانونية الامام علي ابن ابي طالب، فكانت استشرافية .

حينما جاء الامويون الى السلطة، لم يتخلوا عن محاولة الامساك بالمشروعية الدينية، فقد حرصوا على اسباغ تلك المشروعية على حكمهم، بمجموع الفتاوى التي اطلقها رجال الدين التي تؤكد على وجوب الطاعة للخليفة الذي قويت شوكته وامتلك زمام الامر فاصبح لازم الطاعة انطلاقاً من الآية الكريمة "واطيعوا الله ورسوله واولي الامر منكم" .

وحينما تنافس الطالبيون والعباسيون على الحكم، انطلقوا كذلك من الحق الالهي في الخلافة، وبعد ان حسمت لبني العباس، ساروا في بداية عهدهم على ماسار عليه الامويون من قبلهم، ثم اتخذ خلفاؤهم اللاحقون، القاب تشي بتمثيلهم لله - المعتصم بالله – المتوكل على الله – المتنصر بالله – الخ -.

وفيما اوجد سلاطين الدولة العثمانية، مؤسسة دينية خاصة اسمها

(مشيخة الاسلام) كانت مهامها تقتضي ايجاد الفتاوى اللازمة لعمل السلطان، ثم اطلقوا على دولتهم (بيضة الاسلام) والبيضة هي الواقية المعدنية التي توضع على الرأس لدرء الضربات، كذلك حذا المماليك حذو من سبقهم، فأطلقوا على انفسم (حماة الاسلام) .

 وفي كل المعارك التي خاضها المسلمون منذ غزواتهم الاولى ضد المشركين، مروراً بالفتوحات الكبرى، وصولاً الى يومنا هذا، كان الهتاف: الله اكبر، هو المعتمد - حتى عند الارهابي المقدم على تفجير نفسه في مجموعة من الابرياء،كما يبدأ به القاتل وهو يهم بذبح طفل لايتجاوز الاشهر عمراً- .

استمرت (دولة الدين) تهيمن على العراق حتى بداية الغزو البريطاني للعراق عام 1914، عندها تطوع الالاف من العراقيين وعلى رأسهم علماء دين من طائفة معينة (الشيعة)، للدفاع عن الدولة العثمانية، رغم انها قد مارست اضطهادها عليهم طوال قرون، لكن المسألة لم تكن تتعلق بالسلاطين وظلمهم، بل بالدفاع عن (الله) ضد إله آخر يحاول ان يفرض نفسه بواسطة دولة تتبنى عبادته اسمها بريطانيا، رغم ان الاخيرة جاءت بدافع عوامل اقتصادية ولحسابات دنيوية، وليس لفرض دينها .

وبعد هزيمة العثمانيين واستسلام جيوشهم امام الغزاة الجدد، اندلعت ثورة كبرى بقيادة علماء دين من الطائفة ذاتها، ضد هذا الغازي الكافر، وبالشعارت الجهادية ذاتها التي حملت لواء الدين .

وهكذا استعيد التصادم الذي طالما تكرر عبر سيرورة البشرية منذ نشوء معتقداتها الاولى .

الدولة العراقية التي نشأت بمساعدة دين آخر)، فقدت غطاءها الديني، فوقعت في اشكالية التكون منذ البداية، فلم تسطع ان تكون دولة الرفاه والعقد الاجتماعي كما فعلت الدول الاوربية الناهضة – رغم دمار حربين عالميتين – ولم تقدم نفسها باعتبارها دولة الدين) لعدم امكانيتها فعل ذلك ضمن ظروف النشأة الملتبسة والحيثيات التي رافقتها، وهكذا استمرت بالتأرجح حتى الاطاحة بها عام 1958.

لكن تلك الاشكالية لم تقف عائقا في تشكيل الدول، فقد جرى تجاوزها في الزمن عينه، من قبل كيان مجاور كان يشاد كذلك بمعاونة البريطانيين، لكنه استطاع ان ينشىء مشروعيته الدينية الخاصة بواسطة دعاوى مذهبية اطلق عليها (الوهابية) ستصبح هي الركيزة الأساس لبناء مملكة آل سعود التي سيعرفها العالم بإسم (المملكة العربية السعودية) .

حين تسلم (بناة) الجمهورية في العراق مقدرات السلطة، حاولوا الاستعاضة عن الشرعية الدينية بايجاد شرعية من نوع آخر (المشروعية الثورية)، الا انها لم تسطع بدورها ان تصمد من دون دعم ديني، فانهارت بيد قوى حاولت ايجاد بديل للدين بدعوى القومية والوحدة، لكن المحصلة لم تكن مختلفة، فقد إزداد الانفصال اكثر من ذي قبل بينها وبين المجتمع الذي تحكمه .

في السنوات الاخيرة من حكمه، ادرك (صدام حسين) انه لايمكنه الاستمرار من دون العودة الى البحث عن شرعية دينية، وهكذا اطلق ماسمي يومها (الحملة الايمانية) وادعى لنفسه اصولاً تعود الى النبي وآل بيته .

بعد السقوط المدوي لصدام، دخل العراق مرحلة جديدة في البحث عن (دولة الدين) – على رغم ان الكثير من دساتير الدول العربية والاسلامية تحوي مادة تشير الى ان الاسلام هو دين الدولة، لكن قد تكون تلك صيغة مخففة لواقع تاريخي ملتبس .

الخلاصة، ان العراق الجديد مازال يبحث عن خيار في موضوع الدين والدولة ومن ستكون له الكلمة الراجحة، وهو ماقد يفسر حرص الاحزاب الاسلامية على الايحاء بدعم المرجعية الدينية لتوجاهاتها السياسية، لكن المرحلة تشي بان مصطلح (الاسلامي) بحاجة الى اعادة نظر في الاستخدام السياسي، ذلك لأن المصطلح بحد ذاته، انما يطلق على المنتمين الى تنظيمات واحزاب تنتهج الاسلام في السياسة، وبالتالي فللمصطلح معنى سياسي بالدرجة الاولى، ولايحمل في معناه ان كل مسلم هو اسلامي بالضرورة، لكن الاحزاب التي شاركت في بناء العراق الجديد، جعلت من كلمة (اسلامي) تعادل في الممارسة والحصول على الامتيازات، ما مثلته سابقاً كلمة (بعثي) - بهذا المتجه تحديداً- لكن وعلى الرغم من المسارت المتشابكة للعراق الجديد، الا ان هناك مصطلحاً واعداً بدأ يتلمس طريقه وقد يكون اساساً في ما ستشهده طبيعة العلاقة بين المقدسات الثلاث – الله – الدولة – الانسان – اذ قد يعبرعن الدين بمدلوله السياسي مصطلح (الدينوقرايطية) حيث يمكن المؤامة بين الدين كناظم روحي للبشر، والديمقراطية كناظم سياسي للدولة .

 

.........................

 (*) من كتاب ( العراق الجديد – قلق التاريخ وعقدة القوة )

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1295 السبت 23/01/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم