شهادات ومذكرات

نجيب طلال: محطة روشوشوار.. تلك باريس

نجيب طلالقريبا من محطة الشمال للقطار؛ في اتجاه منطقة (باربيس/barbés) مرورا بالمستشفى الجامعي [لاريبواسير/ Lariboisière ] والذي يُعد معلمة تحكي عن صولة الطب الباريسي . نصادف محطة [ روشوشوار/ Rochechouart ] هي محطة لمترو؛ تقع في مفترق منطقة (الشابل/ chapelle) و(باربيس/barbés) ولقد عمرت طويلا (1903) ولازالت قوية ومتينة ! ولكنها تدخلك في عالم آخر؛ عالم يغسل دماغك بسرعة البرق لحظة المواجهة الأولى أو الزيارة الأولى. لكي تنسى أنك في باريس. (تلك) المدينة التي يقال عنها عاصمة الأنوار؟ ولكن حينما يتكرر مرورك؛ أو زيارتك؛ تكتشف ما لم تتوقعه في باريس !

أي نعم محطة [روشوشوار] ''هي'' محطة "المترو/ metro" ولكن تقحمك في فضاء آخر؛ فضاء ما هو باريسي ولا إفريقي ولا عَربي ولا أسيوي؛ إنه فضاء مكتظ بالعباد ويعُج بالراجلين الذين يصنعون كثافة وعرقلة في حركة المرور ، ناهينا عن الضوضاء والفوضى واختلاط الأصوات النابعة من خليط البشر المتمركز هناك أو من المارة !! شباب وشيوخ ورجال وعجزة ونساء يحتلون أغلبية الأرصفة هنا وهناك؛ وخاصة قرب قاعة سينما (الأقصر/ Le Louxor) التي لها تاريخ الحضور ابتداء من سنة 1921 ولازالت تشتغل لحَد (الآن) وتستقبل عشاقها ومشاهديها؛ عكس أغلبية الدول العربية؛ التي هَدمت كل القاعات السينمائية (و) المسرحية؛ إنه التفكير الإسمنتي؛ في أوطان'' اقرأ'' ياسلام ! أما رجال الشرطة والقوة المحلية؛ فيتمركزون تحْت جسر المترو؛ وذلك حَسب الظرفية اللوجيستيكية؛ مع مرور دورية راجلة للشرطة أمام المحطة ، وحتى دورية الدرك الوطني في بعض الأحيان. فكلا الطرفين يتربَّصان فيما بينهما؛ شرطة تتحين فرصة الانقضاض على الشباب الذين يبيعون السجائر المهرّبة بطريقة غير شرعية وأصناف المخدرات والخمور وأنواع الحبوب المهلوسة والشمة الجزائرية ، من أجل العَيش وتوفير قوتهم اليومي، في ظل وضع قاس يعيشونه منهم : الحراكة؛ والعاطلين؛ والمتشردين؛ والمطاردين والمبحُوث عنهم جنائيا. ناهينا عن عملية النشل والسَّرقة بطرق فنية واحترافية؛ خاصة (الهواتف النقالة) لأن سوقها قريب .إضافة لتحويل العملات بسعْر السوق السوداء. التي لاتعرف من يحركها ومن يقوم بها هل الباعة المنتشرين على الأرصفة؛ الذين يبيعُون ما لا يخطر على بال من الأواني والآليات والملابس والمتلاشيات والإلكترونيات؟ أم الرجال المنتشرين بين جنبات المحلات المجاورة للسينما أو الرصيف المؤدي لأكبر سوق ممتاز (طاتي/ Tati) في المنطقة؟ أم الشيوخ الذين تراهم يتحاورون ويعيدون ذكريات الهجرة والحروب الجزائرية / الفرنسية؛ والحرب العالمية الثانية؟ إنها محطة [ روشوشوار/ Rochechouart ] من أكثر المحطات شعبية في باريس، ومن أكثر المناطق صخبا وغرابة؛ إذ تشعر تلقائيا ، أنك إما في محطة أولاد زيان الدار البيضاء/ المغرب؛ أو أنك في باب الواد بالجزائر العاصمة أو سوق لاباستي بوهران؛ أو أنك في سوق سيدي بومنديل بتونس؛ بحيث لا تكاد تسمع للغة الفرنسية صوتا، بل السائد أصوات ولهجات مغاربية؛ وأغلبها جزائرية . إذ الملاحظ من حُدود هاته المنطقة مرورا بمنطقة (كوت دور/ cotte Dor) ثم (باربيس/ barbés) إلى مداخل منطقة (سان دوني/ Denis- saint) كلها مغاربية وأغلبها جزائرية كما أشرت؛ هل هذا يعَد استعمارا بديلا وغير مباشر لمدينة باريس؛ وإن كان البعض مقيما بدون وثائق إقامة؛ ولا شرعية قانونية؛ فالأغلبية تحميهم من المطاردة والإعتقال ثم الترحيل. هل هو إحساس بالغربة أم بالجذور الترابية أم بالقرابة العرقية والدموية؟ أم إيديولوجيا لاشعورية ضد الفرنسيين؟ هاته التساؤلات تفرض نفسها حينما ترى صفا من المشعوذين والفقهاء والسحرة؛ منتشرين عن يسار الرصيف المتجه إلى منطقة (الطاحونة الحمراء/ moulin rouge) يكتبون الأحجبة للنساء المغاربيات؛؛ والمصادفة أنني تحاورت مع العديد منهم؛ ووجدت أن أغلبيتهم مغاربة؛ موطنهم مدينة فاس ونواحيها؛ والذي يزيدك غرابة أولئك العجائز الجالسين على كراسي مختلفة الأشكال، وهم يترصدون للعابرين !وفي أيديهم عيدان يستعملونها للكي؛ وإزالة (العين الحاسدة) إنه عالم النساء الأكثر اعتقادا وإيمانا بالطب البديل وعلاج السحر والعَين ! لكن في محطة [روشوشوار] كذلك الرجال يلتجؤون إليهم بدون خجل؛ لكن المعْتاد في الأعراف الأولوية للفتاة والمرأة المغاربية؛ وخاصة إن كانت ابنة بلد الفقيه أو الكاوي ! تلك هي باريس؛ عالم فنتازي؛ غرائبي؛ أرخبيلي، خليط ومزيج من العادات والثقافات والهويات والعقليات والسلوكات؛ ولكن المحطات سر من أسرار هاته التركيبة السيكولوجية والسوسيولوجية التي هي جد معقدة (هناك).

 

نجيب طلال

 

 

في المثقف اليوم