شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: ابراهيم ناجي.. شاعر الأطباء وطبيب الشعراء

محمود محمد علييعد إبراهيم ناجي بن أحمد ناجي بن إبراهيم القصبجي.(1898م-1953م) أحد أبرز الشعراء المصريين في النصف الأول من القرن العشرين الذين جمعوا بين إحساس الشاعر وهواجس الطبيب الإنسان، حيث استطاع ببراعته الشعرية أن يُطَوِّعَ ألفاظه، ويجعلها راويةً تقُصُّ على قارئيها في كل قصيدةٍ مناسبة حدثت في يومياته الحياتية، فيرثي من خلالها الخِلَّ والشاعر، ويجعلُ من الطبيعة خليلةً يناديها، فتهبه من بدائع الشعر أسمى معانيها، ولهذا فهو من رواد التجديد وأعلام الشــعر العربي المعاصر وواســطة العقد بين کوکبة الشعراء المصريين المجددين، الذي تأثّر به کثير من الشعراء في العصر الحديث.

وقد لُقب إبراهيم ناجي بعدة ألقاب مختلفة، منها طبيب الشعراء، وشاعر الأطباء، وشاعر "الأطلال"، ولُقّب أيضاً برئيس الرومانسية الشعريّة العربية، فعاش ما عاش متواضعا بلا كبرياء، يملأ فلبه الرحمة والمشاعر، يدعو إلى مرحمة النفوس، ويعالج أدواء المشاعر والآلام، وشعر ناجي متأثر بأحوال الأمة وآمالها وآلامها، وهو من شعراء الوجدان الذي يمثل مرحلة الانتقال من طور الثورة على القديم إلى دور الاستقرار والانطلاق في ظل ثوروية عاقلة تبني مجتمع القيم الإنسانية الخالدة (1).

وقد أزهرت مواهبه الشعرية في مقتبل عمره، وكان شعره فائقًا في الرومانسية الإبداعية بدلًا من الكلاسيكية، ومنغمسًا في بحر الوجدانية الصافي، ناهيك عن حس الوطنية العزيز، الذي تجلّى في كلماته العذبة، والتي سطَّرها بحرقة فؤاده الشّجي على أمته، وآلامها، وآمالها، ومن جانبٍ آخر، فإن لناجي العديد من التجارب الأدبية النثرية؛ وذلك من خلال ترجمته لبعض الكتب من الأدب الغربي، بالإضافة إلى تأليفه لعدد لا بأس به من الكتب النقدية، والقصص

وقد كان إبراهيم ناجي رئيسًا لمدرسة أبولو الشعرية، كما ترأس رابطة الأدباء في الأربعينيات، وقد ترجم العديد من الكتب الإنجليزية والإيطالية إلى العربية، ومن أشهر قصائده "الأطلال" التي غنتها أم كلثوم، وقد يدهش القارئ إذا وجد الأبيات التي تغنيها أم كلثوم " هل رأي الحب سكاري مثلنا ..." في قصيدة "الوداع" لا في الأطلال !

وهناك قواسم مشتركة بين الشعراء تظهر أحيانا في بعض قصائدهم، إذ أنَّ الظروف التي تحيط بهم منـها الاجتماعية والشخصـية متشابهة إلي حـد كـبير، وتعد قصـيدتا "المساء" لشـاعر القطـرين خليـل مطـران والأطلال" لإبـراهيم نـاجي مـن روائـع الشـعر العـريب الحديث، حيث تتشابهان في الوحـدة الأسـلوبية كمـا أنَّهمـا تشـتركان في الكثير مـن المواضيع والمفاهيم الوجدانيـة مثل الشكوى والحزن والأنين والرومانسـية (2) .

وقد عرف عن ناجي ثقافته الواسعة التي ساعدته على النجاح في عالم الأدب والشعر رغم ابتعاد تخصصه العلمي عن هذا المجال، حيث نهل من الثقافة العربية القديمة، ودرس العروض والقوافي، وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من كبار الشعراء العرب، كما طالع أيضًا كبار شعراء الحضارة الغربية، خاصة الرومانسيين منهم أمثال؛ "شيلي" و"بيرون". وقد التقى ناجي بالعديد من أقطاب الأدباء والشعراء في عصره أمثال؛ علي محمود طه، وعبد المعطي الهمشري، وصالح جودت، حيث انضم إليهم في مدرسة أبولو الشعرية التي كان هو أحد رموزها البارزة.

والواقع أن شعر ناجي كله يتميز بوحدة في الروح، أو ما يسمي في لغة النقد الحديث بالنغمة، بحيث تستطيع أن تنتقل بيسر وسهولة من قصيدة إلى قصيدة، وأن تحس ارتباطا باطنا بين الصور والأفكار التي تمثل خير تمثيل ما يطلق عليه البعض بالاتجاه الوجداني في الشعر الحديث .

وشعر ناجي حديث، على رومانسيته المفرطة، لأنه يثور على التقاليد الكلاسيكية في الشعر، فهو يستخدم أشكالا جديدة في النظم، ويستمسك بلغة معاصرة طيعة عذبة تخاطب أبناء هذا الزمان، ويستمد مادته من تجارب مألوفة في حياة كل إنسان ؛ أما رومانسيته فتتجلي بإبداع صورها في إيمانه بـ " الاحساس"، وهو المثل الأعلى للرومانسية، وشغفه بالطبيعة وخصوصا وفكرة الرحلة، وصور البحر ومعاني الزمن، وقبل هذا وبعده إصراره على " التجربة" الشخصية الفردية التي تعينه على تحقيق مثل رومانسي أعلى آخر وهو " الصدق" (3).

لقد كان أحمد ناجي وفيا لنظرة المدرسة الرومانسية في وظيفة الشعر، فوظيفة الشعر عنده تعبيرية ذاتية خاصة، ومصدر الشعر عنده مثله في ذلك، مثل معظم الرومانسيين إلهام ووحي من السماء، واهتمام ناجي بالوظيفة الذاتية للشعر لا يقيس وعيه بالوظيفة الاجتماعية العامة، فالرومانسيون جميعا ينطقون من حب شديد للإنسانية المعذبة، وحب عليها ورغبة حنون في تخفيف آلامها (4).

ولد إبراهيم ناجي عام ١٨٩٨م بحي شبرا في القاهرة، وتدرج في التعليم إلى أن التحق بمدرسة الطب السلطانية، التي تخرج منها عام ١٩٢٢م، وقد عمل ناجي في القسم الطبي لمصلحة السكة الحديد بمدينة سوهاج، وافتتح هناك عيادته الخاصة، التي اشتهرت بعلاج الفقراء من المرضى بالمجان، ثم نُقل إلى وزارة الصحة، ثم عُيِّن بعدها مراقبًا طبيًّا بوازارة الأوقاف.

وقد نهل من الثقافة العربية القديمة فدرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي، كما نـهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي.

ولهذا  كانت بدايته في التجربة الأدبية بترجمة بعض أشعار "ألفريد دي موسييه"، و"توماس مور" ونشرها عام 1962م في جريدة السياسة الأسبوعية كما وانضم للمدرسة الرومانسية "جماعة أبولو" وهي التي انتهج فيها شعرائها على تحرير القصيدة العربية الحديثة من القيود الكلاسيكية.

كذلك كتب إبراهيم ناجي في المجال القصصي ومن أبرز قصصه: "مدينة الأحلام"، و" أدركني يا دكتور" كما وجُمع لهُ أكثر من خمسين قصة كان قد كتبها ناجي ونشرها ما بين الفترة (1933م- 1953م)، وقام باحث بجمع قصائد مجهولة لناجي ونشرها في كتاب.[٤] ترجم إبراهيم ناجي بعض الأشعار لبودلير منها "أزهار الشر" عن الفرنسية، وترجم رواية ديستوفسكي "الجريمة والعقاب" عن الإنجليزية، ورواية "الموت في إجازة" عن الإيطالية

كما إبراهيم  ناجي أصدر مجلة (حكيم البيت) شهرية (1934) ونشأ في نعمة زالت في أعوامه الأخيرة. وعالج النظم زمناً، حتى جاء به شعراً، وهو القائل من أبيات: فيم انتقامك من قلب عصفت به، لم يبق من موضع فيه لمنتقم وفي ديوانيه (ليالي القاهرة - ط) و(وراء الغمام - ط) طائفة حسنة من شعره. وله (رسالة الحياة - ط). (عالم الأسرة - ط) و(مدينة الأحلام - ط) قصص ومحاضرات، و(كيف تفهم الناس - ط) دراسات نفسية، و(ديوان الطائر الجريح - ط) من شعره، نشر بعد وفاته (5).

وهي تمثل شتي اتجاهات تعبير ناجي عن موضوعاته الأثيرة، والأشكال الشعرية الجديدة التي أبدعها، فهو يشترك في ذلك مع زملائه من أصحاب مدرسة أبوللو، وغن كان يختلف عنهم في الدور الفريد الذي يوليه للشعور، مما جعله يلتقي مع مدرسة الديوان في أساس مهم من أسس نظريتهم الشعرية، وهو العودة بمعني الشاعر إلى الأصل الاشتقاقي للكلمة، وتخليصه من دوره التقليدي في حياة القبيلة أو المجتمع، وأقوي دليل على انتمائه لهذه النظرية هو اتهام عباس العقاد له بسرقة " معان" منه هو شخصيا، فبعد ان وصفه بشاعر " الرقة العاطفية"، ونسبه إلى مدرسة الشعراء الظرفاء " ابن الاحنف وابن سهل والبهاء زهير .. الخ" على ما في ذلك من ظلم، نراه يتهمه بسرقة معان منه، بمعني تأثره به، مما يتضمن إقرارا مضمرا بمشاركته إياه في مفهوم الشعر (6).

أما هجوم طه حسين عليه ثم امتداحه إياه فقصة مشهورة وهي تشهد على أهمية الحركة النقدية المصاحبة للحركة الأدبية في تلك الفترة الخصبة، ويهمنا أن نورد أهم ما نذكره من مقال طه حسين الذي يقول فيه إنه " موفق" في المعاني والألفاظ، "وفيما اتخذ من الأساليب معانيه جديدة تصل أحيانا إلى حد الروعة، ونذكر أنه قال عبارته المشهورة عن ناجي " شاعر مجيد تألفه النفس ومن ثم فكان المتوقع أن يتجه الصبي بعد الابتدائية (1911) إلى الدراسة الأدبية، وهذا ما حدث وهو في المدرسة التوفيقية ( الثانوية) غير أنه اتجه في آخر لحظة إلى دراسة الطب، وليس الطب بعيد الصلة بالأدب والأدباء ! ولم يتوقف في أصناء سني دراسته عن القراءة والكتابة، وبدا ينشر بعض القصائد التي تدل على موهبة صادقة مبكرة، وسرعان ما تمكن من الجمع بين ممارسة الطب وكتابة الشعر، وكان مثله الأعلى هو أحمد شوقي ( وغن كان البعض يضيفون حليل مطر، والشريف الرضي ) أما هو فهو يقول إنه أحب وليم شيكسبير والمتنبي، ولا شك عندنا أن جذور شوقي راسخة في كل منهما (7).

وكان ناجي من الأعضاء المؤسسين لجماعة أبوللو، برئاسة شوقي، وكان يتميز باتجاهه الوجداني الغلاب الذي تأكد عندما أصدر أول ديوان له عام 1934، وكان الذي كتب مقدمته هو أحمد الصاوي محمد الذي رحب بانضمامه إلى ركب الشعراء المحدثين، وتلت هذا الديوان المعارك النقدية، ومن أعجب ما يصادفنا في تلك الفترة أن انبري شاعر الشام الأستاذ شفيق جبري ليدافع عن عنوان الديوان " وراء الغمام"، مما زاد من اهتمام القراء على امتداد الوطن العربي بهذا الصوت الشعري الفريد الجديد (8).

ولهذا حاول إبراهيم ناجي في شعره جاهدا التجديد في موسيقي الشعر والتحرر من المألوف في استخدام القافية الموحدة، بالإضافة إلى التجانس في موسيقي الشعر والتحرر من المألوف في استخدام القافية الموحدة، بالإضافة إلى التجانس في الموسيقي والتعبير عن الإحساس، فإن الوحدة العضوية التي دعا إليها العقاد ورواد مدرستي الديوان وأبوللو قد غيرت بناء القصيدة تغييرا كاملا، بحيث ذهب منها الحشو والتفكك والانتقال والاستطراد وخلت من تناقض المعاني واضطراب العواطف والمشاعر النفسية وأصبحت القصدية حية تعبر عن الذات والوجدان (9).

على الرغم من قلّة أشعار إبراهيم ناجي مقارنةً بمُعاصريه، إلّا أنّ دواوينه تذخر بأجمل الأشعار وأكثرها رقّةً وإنسانيّة، وتحمل في طيّاتها الكثير من الحبّ، كما تظهر روحُ التجديد في شعره، ومن أشعاره: يقول الشاعر إبراهيم ناجي في قصيدته "يا فؤادي رحمَ اللهُ الهوى": يا فؤادي رحمَ اللهُ الهوى كان صرحًا من خيالٍ فهوى اسقني واشرب على أطلاله واروِ عني طالما الدمعُ روى كيف ذاك الحبُ أمسى خبرًا وحديثًا من أحاديثِ الجوى وبساطًا من ندامى حلمهم تواروا أبدًا وهو انطوى ومن شعره أيضًا: وانتحينا معًا مكاناً قصيًّا نتهادى الحديثَ أخذًا وردّا سألتْني مللتنا أم تبدلتَ سوا نا هوىً عنيفًا ووجدا قلتُ: هيهات كم لعينيك عندي من جميلٍ كم بات يُهدى ويسدى أنا ما عشتُ أدفع الدين شوقًا وحنيناً إلى حماك وسهدا وقصيداً مجلجلًا كل بيتٍ خلفه ألف عاصفٍ ليس يهدا ويقول الشاعر إبراهيم ناجي في قصيدة له أيضًا: أيكون ذنبي أَن رفع تُك وارتفعتُ إلى السماء وعلى جناحك أو جنا حي قد رقيتُ إلى الصفاء إن كان حقاً أو خيالاً فهو وَثبٌ للضياء (10).

وقد توفي إبراهيم ناجي وهو يداوي أحد مرضاه في 25 من شهر آذار/ مارس في عام 1953م،، لذا أطلق عليه القول القائل: "ظل يمارس الطب حتى توفي وهو يمارسه"، وفي آخر حياته تعرض لوعكة صحية اضطرته للاستقالة من منصبة في وزارة الصحة والعمل في عيادته الخاصة، وبعدها سافر إلى لندن لتلقي العلاج، وهناك تعرض لحادث سيارة نُقل على إثرها المستشفى وبقي كذلك حتى توفي عن عمر يناهز 55 عامًا تاركًا إرثًا شعريًا.

كان الدكتور إبراهيم ناجي أشهر الأطباء والشعراء في زمانه حيث تمكن بقلمه أن يسطر أرقى الكلمات، عشق الطب والشعر وتوفي وهو يمارس الطب في عيادته الخاصة، وكان ملاذًا للمرضى والمحرومين.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

الهوامش

1- د. كامل محمد محمد عويضة: إبراهيم ناجي شاعر الأطلال، دار الكتب العلمية، 1993، ص 3.

2- نعيم عموري وصلاح سالمي: مقارنة أسلوبية بين قصيدتي "المساء" لخليل مطران و"الأطلال" لإبراهيم ناجي على ضوء المدرسة الأمريكية، مجلة اللغة العربية وآدابها، السنة 16، العدد 4، شتاء 2021، ص 523.

3-المرجع نفسه، ص 434.

4-د. كامل محمد محمد عويضة: إبراهيم ناجي شاعر الأطلال، دار الكتب العلمية، 1993، ص 172.

5- المرجع نفسه، ص 199.

6- أنظر إبراهيم ناجي"، ديوان العرب، المقدمة، 2021، ص 12-22.

7- ناجي، إبراهيم. رومانتيكيات. كتاب الثقافة الجديد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2995، ص 55.

8-  كامل محمد محمد عويضة، إبراهيم ناجي شاعر الأطلال، 2019، ص 56.

9- نعيم عموري وصلاح سالمي: المرجع نفسه، ص 530.

10- إبراهيم ناجي: شعر إبراهيم ناجي، الأعمال الكاملة، مكتبة هنداوي، 2012، ص 334-345.

 

 

في المثقف اليوم