شهادات ومذكرات

محمد حسين النجم: يحيى المشهداني.. مشروع عالم رحل

محمد حسين النجمفي عام 1986 جمعتنا الدراسة على کبر. فبعد أكثر من نصف عقد من اشتعال الحرب الضروس بين العراق وإيران، والتي أبعدتنا عن مواصلة طموحنا، تم قبولنا للدراسة في مرحلة الماجستير، كنا خمسة، ومن حسن حظنا أننا جميعا كنا في العقد الثالث من العمر .

من بين رفقتنا كان ثمة رجل يبدو عليه أثر السنين، يمتطي دراجة نارية، يتحدث باسترسال في كل شيء، يناقش ويحلل ويقترح، إلا أنه غالبا ما يتوقف عند نقطة واحدة يلوذ فيها بالصمت والحذر . بعد مدة من الزمن، وبعد أن اطمأن قلبه، عرفنا أنه يمارس عملا حكوميا في الليل ويدرس في النهار، وموجبات الحذر كانت اشتراط وتشديد الأنظمة المعتمدة للدراسات العليا  حصول الموظف على إجازة دراسية من دائرته؛ ليمكنه الاستمرار في الدراسة، وحين استعصى عليه الحصول على هذه غامر بالدراسة بصفته غير موظف، لكي يتجنب المطالبة . كان مصرا على تحقيق طموح ساوره سنين .

كان يحيى محمود أحمد المشهداني (ولد في بغداد 1952)، وهذا اسم رفيق دراستي، قد تقلبت به الأيام والسنون، فيوما ما دخل الجيش بصفته جنديا متطوعا، وحين لم يرق له الأمر عمل المستحيل للخلاص من هذا السلك، لينخرط في الدراسة من جديد، واحتضنته كلية الآداب في جامعة بغداد وقسم الفلسفة تحديدا لدراسة البكلوريوس، وبعد أن حصل على شهادتها (عام 1983)، جرفته الحياة ثانية فابعدته بضع سنين ليعود ثانية ونلتقي معا في الدراسات العليا .

كان أبو زكريا، وهذه كنيته واسم أحد أبنائه، شخصية تألفها حالما تلقاها، بل ويسحبك إلى دائرته في الحوار حالما تحين منك بادرة فكرة تستحق النقاش والحوار، كان نقيا، بل وتعجب أحيانا أن تجد إنسانا بمثل هذا النقاء، طيب السريرة إلى الحد الذي يخطأ في فهمه الآخرون؛ بل وأحيانا ينفذ له من في قلبه مرض من خلال طيبته .

شكلنا معا فريقا دراسيا متألقا، وكانت طيبة أبي زكريا إحدى مشاكلنا مع بعض زملائنا أو أساتذتنا، فآراؤنا الشخصية ومواقفنا الخاصة يحكمها فهمنا لمن نتحدث، كان المحيط موبوء بشتى موجبات الحذر، ولكن حين ينساق أبو زکریا مرددا عبارته الشهيرة التي اعتدنا عليها (بصراحة، بصراحة) ينسى الحذر، تنسيه طيبته طبيعة من يحدث، فتأتي أحيانا أمام من لا يستحقها فتكون المشكلة، لنبدأ جميعا البحث عن مخرج منها. كان احد زملائنا يقول له : حين تتحدث ادخل في حالة انذار .

يصعب كثيرا الحديث عن يحيي بعيدا عن هذا الفريق الدراسي الذي جمعنا؛ فبين الدراسة، وبين المكتبة، وبين الحوارات التي لا تنقطع في حدائق المجلس الثقافي البريطاني في الوزيرية في بغداد، حيث كنا نزجي وقتنا، كانت ذكرياتنا مشتركة. كان ديدننا البحث والدرس، بل وكان إعجاب أساتذتنا بنشاطنا العلمي يزداد، وهو ما استحق أن يطلق على دورتنا اسم (الدورة الماسية) على حد تعبير أحد أساتذتنا الأجلاء.. كان يحيي واحدا من هذا الفريق المبارك، وكانت قسوة الظروف التي يمر بها لا تزيده إلا حرصا على البحث والمتابعة، فبين الساعات المطلوبة للحضور في السنة التحضيرية، وبين عمله الليلي، وبين ملاحقة حاجات عائلة مكونة من زوجة وثلاثة أبناء (ولدان وبنت)، ليصبحوا لاحقا خمسة مع مجيء الولد الأخير، كان يحيى مهموما بالبحث والدراسة، يفكر بصوت عالي، يعيش الفكرة ويتفاعل معها بل ويعشقها، كانت افكاره مختلطة مع قراءاته وتحليلاته، مؤمنا أن الفكر ملك مشاع، ومائدة مزجاة تتسع للجميع. كان يقابل قسوة الحياة وشحها بكرم الفكر والخلق، وكم من أيام قاسية مرت علينا معا، فمن حسن حظنا كانت تجمعنا محلة واحدة في مدينة الحرية مما عمق الصلة بيننا وربطنا بصلة عائلية جعلتنا نفهم بعضنا بشكل أفضل، ونطلع على معاناة أحدنا الآخر..

في فترة الحصار الذي فرض علينا من قبل الأمم المتحدة لم نكن قد دخلنا بعد إلى السلك الجامعي، ولكننا بعد ثلاث سنوات اصبحنا ضمن كادر تدريسي في قسم ناشئ للتو . انتقل يحيى من دائرته التي كان يعمل فيها إلى التعليم العالي، وعاش معاناة زملائه من شظف العيش والفاقة.  كان الحماس والإخلاص و الجدية من أهم أسباب نجاح خمسة، أربعة منهم يحملون شهادة الماجستير فقط، من تخريج ثلاث دورات جامعية استطاعت أن تكون الأولى على أقرانها في الامتحانات المركزية على مستوى العراق  لثلاث سنين متوالية، وكان يحيى أحد أولئك الخمسة، ينهض بالعبء مع زملائه بما يملك من حرص وإخلاص لا يمكن أن يقاس بالمردود المالي الذي لم يكن يقيم الأود. كانت رواتبنا محل سخرية إذا ما قورنت بقوتها الشرائية، وهو ما يدفع المرء للبحث عن أي وسيلة للخروج من الخانق، كانت فتنة وكنا نسأل الله أن يقينا شرها .

كان شعور يحيى  بشرف المهنة قاسيا لا يسمح له أن يحيد، ففي يوم من الأيام، وكانت مكاتبنا ليست متجاورة، زرت يحيى في مكتبه، وقبل وصولي سمعت زئير أسد جريح. كان يحيى يزبد ويرعد والشرر يتطاير من عينيه، هرولت نحوه مستبينا الحال، رأيته، عرفت الامر، نعم انه يحيى، كعهدي به مثال النقاء والشرف ونظافة اليد والقلب .

 كان الأمر أن طالبا عاثر الحظ قدم هدية إلى يحيى، وهي عبارة عن مبلغ من المال يعادل راتبه لنصف سنة، فكانت ثورته.. (لو كان هذا ثوبي لتركت محطة الوقود)، كان يردد هذه العبارة بأعلى صوته مشفوعة بتقاسيم منوعة من الإهانات، التي يوجهها إلى ذلك الطالب الخائب الذي أعتقد أن یحيى من الممكن أن يشترى .

ومحطة الوقود هذه هي إحدى الوسائل، التي استعان بها يحيى للتغلب على مصاعب الحياة اثناء الحصار حين عمل فيها بصفة عامل تجهيز، يزود العجلات بالوقود، وقد اتخذ من الليل جملا، لابسا يشماغه  لكي يخفي شخصيته، يقف ليالي الشتاء القارسة البرد، ينتظر أن يملأ الوقود لإحدى السيارات المارة مترقبا أن لا يراه أحد، حدثني كيف انه تحاشى رؤية العميد له حين دخل المحطة متزودا بالوقود .شدة البرد دفعت العميد ان يكتفي بفتح شريط من النافذة دفع منه ثمن الوقود، مثلما حجبته العتمة . برد وسهر وتعب، يعقبه في الصباح دوام جامعي يتألق فيه يحيي بمحاضراته، التي تنساب من فمه متدافعة كالشلال، كمن يسابق في البحث  عن مزيد زمن ليوصل ما يريده . كان منهوما، عاشقا، ولهانا بقراءاته، يعيش ما يقرأ، ويحدث الآخرين به، فالمعرفة ضالته يلتقطها أينما وجدها، تشعر في أحاديثه دقة الملاحظة ورجاحة العقل وتنظيم الأفكار وكأنه يقرأ لك في كتاب ..

اهتمام يحيى الأكبر الفلسفة الإسلامية باتساعها، إلا أن تخصصه الدقيق تكرس في علم الكلام الإسلامي، والفكر الاعتزالي تحديدا، ناظرا إليه من زاوية العصر، ساعيا لأن يكشف عما ينطوي عليه من درر مخبئة، رافضا مسعى البعض لأن يجعل بين الفلسفة وعلم الكلام أخدودا يحرم الأخير أن يكون من دائرة الأول؛ فالفكر الكلامي جهد عقلي يتوسل العقل لأجل الوصول إلى ما يريد، منكرا ما يرفعه أولئك البعض من هدف الدفاع عن الدين مهمازا ضد هذا الفكر، مؤكدا أن الموضوعية مطلوبة في محاكمة الأفكار، رافضا السلوك الفظ للكيل بمكيالين؛ فإذا كان مسعى علماء الكلام الإسلامي للدفاع عن الدين ذريعة لعزلهم عن الجهد الفلسفي فإن هذا المقياس ذاته لابد أن يحرم الكثير من الفلاسفة الغربيين من أن يتصفوا بهذه الصفة أيضا، فضلا عن الفلاسفة المسيحيين الخلص، الذين أعلنوا صراحه بان هدفهم القيام بمهمة الدفاع عن الدين ويصنفون في خانة الفلسفة من قبل أولئك المعترضين أنفسهم .

إن يحيى ينظر إلى الجهد الفكري الذي حققه علماء الاعتزال على وفق المنهج الفلسفي و ترسیماته، بأنه إسهام يدفعك وأنت تقرأه، أن تجد جهدا فلسفيا أصيلا، يتوسل أدوات العقل في المحاكمة والمحاججة وصولا إلى تقرير النتائج متخذا أسلوب (الفنقلة) العقلية، التي كثيرا ما أغرم فيها يحيى بتأكيدها (فإن قالوا قلنا) أسلوبا عقليا قلما يرتكن إلى الإيمان بديلا عن البرهان العقلي، فهو يرى في رجال الاعتزال طاقة فكرية تضاهي الكثير من عمالقة الفكر والعلم في عصورنا الحديثة، مقارنة ببساطة ما كانوا يملكون من وسائل بما يملك المحدثون، ففي رسالته للماجستير (أصالة الفلسفة الطبيعية لمدرستي بغداد والبصرة) ما يكشف عن مقدار ما وصل إليه الفكر الاعتزالي من أصالة وتقدم، بالإضافة إلى شذرات مما بزوا به المحدثين من أفكار ونظريات علمية، وقد دفعه هذا لأن يكرس أطروحته في الدكتوراه في جامعة الكوفة لأحد رجال تلك المدرسة، يجمع فيها شتات ما تناثر في بطون الكنب مما يتعلق بشخصيته وفكره وفلسفته، ليدبج ما نجده في اطروحته حول فلسفة (أبو القاسم الكعبي) .

إن الحديث عن يحيى حديث عن مشروع عالم كان يمكن لو امتد به العمر، أن يرفد المكتبة العربية بالكثير والعميق من الدراسات والبحوث، والمؤسف أن الهم المعرفي عنده كان الغالب، والثقة بذاكرة  متقدة كان السائد، وهو ما حرمنا من الكثير مما يمكن أن نتعلمه منه، ففي كل يوم تجد جديدا عند، يحيى، وكثيرا ما نبهته بان يدون افكاره، ولكنه لم يستمع لي مما جعل خسارتنا به مضاعفة ..

كان يحيى ابنا بارا بوطنه وأهله، ففي أيام محنة الحصار استطاع أن يحصل على عقد دراسي في اليمن، وقد عاش هناك خمس سنين شعر أثنائها بان ما لديه سوف يقيم اوده، فعاد لوطنه فرحا بزوال الدكتاتورية، التي طالما هاجمها، بحمل في عقله الكثير من المشاريع العلمية التي تمنى أن يطول به العمر ليحققها، وعلى الرغم من الصداقات التي عقدها في اليمن مع زملاء هناك، وعلى الرغم من طلبات اصدقائه بالبقاء، وعلى الرغم من الإغراء المالي الذي يحققه وجوده، ابي إلا أن يعود ليرفد أبناء وطنه بما يختزنه عقله من فكر، إلا أن الإرادة الإلهية أرادت أن يروي تراب وطنه بدمه الزكي، ففي ظروف الفوضى التي أعقبت سقوط الدكتاتورية، والنشاط السلفي الهدام الذي طالما اصطدم به يحيى ابان الدكتاتورية التي اشاعته واحتضنته، وتحول الى نشاط إرهابي اجرامي بعد سقوطها، ساد الظلام عقول بعض الطائشين، الذين لم يجدوا متنفسا لأمراضهم النفسية إلا الجريمة وهكذا امتدت يد الجريمة لتطال شمعة من شموع وطننا، قارعت الدكتاتورية، واستبشرت بسقوطها، وكأنها تستبشر بالشهادة.

 

د. محمد حسين النجم

 

في المثقف اليوم