شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: جلال الدين الرومي.. فيلسوف الحب وامبراطور العشاق في زمن العولمة (2)

محمود محمد علييحمل التاريخ في طيّاته كثيراً من الأحداث والأشخاص الذين عاشوا لغيرهم، أو لربّهم. وكثيرون هم الشعراء الذين تغنّوا بالحياة وجمالها. وكثيرون من المتصوّفة غنّوا للحُبّ. لكن، ما من شاعر غنّى للحُبّ والحياة والجمال، والنُور والوجود، مثلما غنّى، صاحب هذه الأبيات. وما من شاعر صوفيّ غاص في أعماق النَفْس البَشَريَّة، أو ألهب قلوب العشّاق، كما فعل وألهبها جلال الدين الرومي والذي ظل دراويشه يسلكون من العشق دربا يقوده فيهم ، قصائد شعرية ودواوين ورباعيات وكتب، كنزا خلفه جلال الدين الرومي لعاشقيه على مدار قرون طويلة، فزهدوا بالعشق مثله، وباتوا يفتشون في السطور على كلمات خطها تلمس بروحهم سكرة تجعلهم يترفعون عن دنيا اختصرها في نهر عشق، ناصحا إياهم هم بالانغماس فيها ، إنه جَلال الدِّين الرُّومي: شاعر، عالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، ثم متصوف (ترك الدنيا والتصنيف) كما يقول مؤرخو العرب ،وهو عند غيرهم صاحب المثنوي المشهور بالفارسية، وصاحب الطريقة المولوية المنسوبة إليه، ولد في بلخ في بلاد فارس وانتقل مع أبيه إلى بغداد، في الرابعة من عمره، فترعرع بها في المدرسة المستنصرية حيث نزل أبوه، ولم تطل إقامته فان أباه قام برحلة واسعة ومكث في بعض البلدان مددا طويلة، وهو معه، ثم استقر في قونية سنة 623 هـ في عهد دولة السلاجقة الأتراك، وعرف جلال الدين بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، فتولى التدريس بقونية في أربع مدارس، بعد وفاة أبيه سنة 628 هـ ثم ترك التدريس والتصنيف والدنيا وتصوّف سنة 642 هـ أو حولها، فشغل بالرياضة وسماع الموسيقى ونظم الأشعار وإنشادها (9).

وجلال الدين الرومي هو أبرز وأشهر شعراء التصوف على مستوى العالم، وهو الذي لم ينظم الشعر أبدًا في حياته، لكن فراق شمس جعله ينظم الشعر دون وعي منه. ترك شمس قونية بعد البلبلة التي أحدثها تقربه من الرومي، فقرر الرحيل عن قونية دون أن يبلغ عن وجهته، هذا الرحيل الذي كشف عن الرومي الشاعر زاد في إصراره على العثور على رفيقه، فأرسل بولده سلطان ولد ليبحث عنه، وبعد بحث مضن عثر عليه وأعاده إلى رفيقه، لكن القدر شاء أن يحل الفراق الأبدي مرة أخرى ليرحل التبريزي عن هذا العالم إلى الأبد بعد أن مات مقتولاً بحسب الروايات المختلفة التي أكدت أن حياته انتهت بعد أن قرر أعداؤه - الذين كرهوا تقربه وتأثيره الكبير على الرومي- أن يسفكوا دمه ، هذه الحادثة كانت سببًا في تدفق ملكة الشعر عند الرومي بعد أن ساهم فراقهم الأول في الكشف عنها (10).

وليس في المستطاع أن نحيط بفكر جلال الدِين الروميّ، عبر كلمات قليلة. فهو ثالث المثلّث الصوفيّ الفارسيّ، بعد سنائي وفريد الدِين العطّار. لا بل إنّه قمّة هذا الهرم الثلاثيّ. وقد أجمع البحّاثة من الشرق والغرب معاً، على أنّه أعظم شعراء الصوفيَّة بدون منازع، لا بل إنّه واحد من شعراء الإنسانيَّة الأفذاذ. وقد امتاز جلال الدِين الروميّ بقوّة البيان وبراعة التصوير، إذ كان ذا خيال فيّاض. فهو يقدّم لنا الفكرة الواحدة بصور متعدّدة، مغنياً إيّاها بالأمثلة الكثيرة، فتأتي القصّة الصغيرة بمئات ومئات من الأبيات الشعريَّة، ويدعم فيها آراءه ونصائحه لتكون كاملة متكاملة... وإنّه ليقول عن كتابه "مثنوي" إنّه أصولُ أصولِ الدِين..

إنّه ليستطيع بأسلوبه الشعريّ الفذّ أن يجسّد الفكرة، فيجعل القارئ يتنقّل ما بين المعنويّات والمحسوسات. إنّه بمهارته الشعريَّة، يمزج بين الطبيعة والحياة والنَفْس الإنسانيَّة، فيضع لقارئه صورة متكاملة، تنقله إلى عمق أعماق التأمّل في النَفْس البَشَريَّة والعزّة الإلهيَّة.

امتاز جلال الدين الرومي بمقدرة عجيبة على تناوله موضوعاً ما لا يكون جديداً بالضرورة، يعرضه بقالب جديد وأسلوب فنّيّ أدبيّ، فيأتي الموضوع وكأنّه يُعرض على القارئ لأوّل مرّة. والأمثلة كثيرة على ذلك. فمثلاً، نجد حضوراً مكثّفاً لبعض قصص "كليلة ودمنة"، وكذلك لبعض أفكار الشاعرين الصوفيّين سنائي وفريد الدِين العطّار.. وتتطرّق أفكاره وموضوعاته إلى أمور الحياة اليوميَّة بمختلف مستوياتها، فبراعته الفنّيَّة وعبقريّته وأسلوبه في فنّ الحِوار، استطاعت أن ترفع بكثير من الموضوعات البسيطة إلى مستوى فنّيّ أدبيّ في غاية الروعة، حيث يضعها في موضع التأمّل النَفْسيّ والإلهيّ.. وهو يتّخذ من الحِكم والأمثال مادّة في عرض فلسفته الصوفيَّة، ما زاد من أهمّيَّة الموضوعات التي تطرّق إليها. فجاءت أفكاره واضحة ونافذة إلى عمق النَفْس البَشَريَّة، مع أنّها وُضعت في القرن السابع الهجريّ (الثالث عشر الميلاديّ).. ويمكن القول إنّ الفكر والشعر عند جلال الدِين الروميّ يتطرّقان إلى حالات الوجد الصوفيّ والفناء عن الذات الإنسانيَّة. وحاله بذلك هي حال جميع المتصوّفة الذين نظموا الشعر في حالات الوجد الصوفيّ، الذي نستطيع أن نسمّيه "بأدب اللاوعي":تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر.كلّ سطحها وبابها شعر وألحان. فمَن وجد سبيلاً فيها فهو سُلطان الأرض وسليمان الزمان " (11).

وقد توفي جلال الدين الرومي سنة 1273 م، تاركًا ديوان شعر ضخمًا يضم نحوًا من خمسة وأربعين ألف بيت، مقسَّم على ستة أجزاء. وقد جاء اسمه "المثنوي" من الوزن العروضي الخاص المستعمَل في نظمه، ويتألف من أبيات مفردة مقسمة على شطرين مقفَّيين، ينطوي كلٌّ منهما على عشرة مقاطع. ومضمون المثنوي حكايات وأحاديث نبوية وأساطير وموضوعات من التراث الشعبي ومقتبسات قرآنية، وهو ملحمة صوفية (12).

كما ترك الرومي ديوان شعر بعنوان شمس تبريزي (13)، وله كتاب نثري عنوانه فيه ما فيه (14) يتألف من أحاديثه التي دوَّنها ابنُه الأكبر سلطان وَلَد؛ وهو على قدر كبير من الأهمية لفهم فكر الرومي والتصوف عمومًا. ومن مؤلَّفاته الأخرى: المجالس السبعة (15) وهو مجموعة من النبوءات الشهيرة. وله كذلك خوابنامه، وهو كتيب في تفسير الرؤيا، بالإضافة إلى رسائل الرومي التي تكشف عن حياته الخاصة والمرحلة التي عاش فيها.

وقد تمحورت فلسفة جلال الدين الرومي على فكرة المحبة المطلقة للذات الالهية والعشق الابدي، ومحبة الله تعني محبة جميع مخلوقاته ونبذ كل ما من شأنه ان يمس كرامة الانسان بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه فلا ضغينة ولا حقد ولا نبذ لأي انسان..

كما سعى جلال الدين الرومي إلى الانتقال بـ التصوّف إلى مستوى اللغة والفكر، حيث الحقيقة لا يصل إليها الإنسان في عالم اليقظة من خلال الإيمان باللايقين ونسبية العقل، لذلك من الأجدى له البحث عنها في العالم الآخر في قراءة عرفانية للعالم. وقدّم الشاعر المتصوّف رؤيته في مرحلة شهدت غزو المغول للعالم الإسلامي، ما تسبّب في هجرة عائلته من مسقط رأسه، مدينة بلخ التي تقع داخل حدود أفغانستان اليوم، متجهاً إلى نيسابور ثم بغداد، ومنها إلى مكّة المكرمة لأداء الحج، ليقصد بعدها بلاد الشام، ثم قونية التي كانت إحدى حواضر الدولة السلجوقية التركية (16).

كان جلال الدين مسلمًا مؤمنًا بتعاليم الإسلام السمحة لكنه استطاع جذب أشخاص من ديانات وملل أخرى وذلك بسبب تفكيره المرن المتسامح، فطريقته تشجع التساهل اللا متناهي مع كل المعتقدات والأفكار، كما كان يدعو إلى التعليل الإيجابي، ويحث على الخير والإحسان وإدراك الأمور عن طريق المحبة، وبالنسبة إليه وإلى أتباعه فإن كل الديانات خيرة وحقيقية بمفاهيمها، لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيين واليهود معاملة سواسية .

وككل الصوفيين آمن جلال الدين الرومي بالتوحيد مع حبه لله عز وجل، هذا الحب الذي يبتعد عن الإنسان، والإنسان في مهمة إيجاده والعودة إليه، وبطلب من مريديه وضع الرومي أفكاره ومبادئه في كتاب سماه المثنوي الذي استعمل في حياكته خيوطًا من قصص يومية وإرشادات قرآنية وحكمة من خبرته لينسج كتابًا ثمينًا ممتلئًا بمعانٍ عميقةٍ منتقاةٍ بحذرٍ وعناية (17).

كان جلال الدين الرومي يستعمل الموسيقى والشعر والذكر كسبيل أكيد للوصول إلى الله عز وجل، فالموسيقى الروحية بالنسبة إليه تساعد المريد على تعرف الله والتعلق به وحده لدرجة أن المريد يفنى ثم يعود إلى الواقع بشكل مختلف، ومن هذا المنطلق تطورت فكرة الرقص الدائري التي وصلت إلى درجة الطقوس، وقد شجع الرومي على الإصغاء للموسيقى فيما سماه الصوفية السماع فيما يقوم الشخص بالدوران حول نفسه فعند المولويين الإنصات للموسيقى هي رحلة روحية تأخذ الإنسان في رحلة تصاعدية من خلال النفس والمحبة للوصول إلى الكمال، والرحلة تبدأ من الدوران التي تكبر المحبة في الإنسان فتخفت أنانيته ليجد الحق الطريق للوصول إلى الكمال. وحين يعود المريد إلى الواقع، يعود بنضوج أكبر ممتلئًا بالمحبة، ليكون خادمًا لغيره من البشر دون تمييز أو مصلحة ذاتية (18).

يعود الاهتمام الغربي بجلال الدين الرومي إلى فترةٍ مبكرة، ونجد من أوائل المهتمين بأعماله المستشرق الإنجليزي "رينولد نيكلسون" الذي ترجم مختارات من ديوانه "شمس تبريز" عام 1898، وقد تزايدت الدراسات والكتابات والأعمال المترجمة عن الرومي خلال القرن العشرين، وكان أهم من اشتغل على ترجمة وتفسير أشعاره المستشرق الإنجليزي "آرثر جون آربري"، والمستشرقة الألمانية "آنا ماري شيميل" التي خصصت كتابها الضخم (815 صفحة) "الشمس المنتصرة" لدراسة وتحليل أشعاره. وفي عام 1973، في ذكرى وفاته السبعمئة، عقدت لقاءات ومحاضرات دولية عديدة ونشرت دراسات علمية، حول الرومي وفلسفته وشعره (19).

ولكن هذا الاهتمام بقي محصوراً في الإطار الأكاديمي وأوساط المختصّين. وفي عام 1976 جاءت نقطة التحول، عندما أعطى الشاعر الأمريكي "روبرت بلاي" المترجم "كولمان باركس "كتاب شعر للرومي، وقال له: "ينبغي إخراج هذه القصائد من أقفاصها". بدأت عندها محاولة إعادة ترجمة القصائد وتحريرها من صيغتها الأكاديمية الجامدة بحيث تصبح أقرب إلى طراز الشعر الأميركي الحرّ. وكانت ترجمة باركس الجديدة العامل الأهم في بلوغ أشعار الرومي مستويات الشعبية والانتشار التي وصلت إليها لاحقاً (20). في عام 1995، نشر الشاعر الأمريكي (من أصل إيراني) "شهرام شيفا" كتاب "إزاحة الحجاب: تراجم الرومي"، قام فيه بترجمة عدد من القصائد مباشرة من الفارسية وأخرجها في قالب شعري مبسّط، وفي عام 1998، اختار الطبيب والكاتب الروحاني الأمريكي "ديباك شوبرا" قصائد كتبها الرومي ونشرها بعنوان "قصائد العشق"..(21).

وغنّت بعضها فنانات أمريكيات مثل: "مادونا" و"غولدي هاون" و"ديمي مور"، اشتهرت منها أغنية مادونا "قوة الوداع" (The Power Of Good- Bye). وساهمت هذه الأعمال بتعزيز انتشار أعمال الرومي ووصولها إلى فئات وأوساط جديدة (22) .

تحية لجلال الدين الرومي الذي مزج آلام الطبيعة بآلام البشر ، وحظي باهتمام بالغ شرقا وغربا ، فكان أحد أهم المتصوفين العظام في تاريخ الفكر الإسلامي ، وأكثر الشخصيات الصوفية إثارة للجدل .. ولن أنسي كيف اختلف الكثيرون حوله بين مكفر ومعارض ومحب ومبجل ، فصعب علينا تحديد هويته وفهم أفكاره وأشعاره التي تجمع الدين والأخلاق والفلسفة .. المتناقضات التي قل ما يستطيع أحد جمعها ، حتى ولادته جاءت في أوج احدي أشرس حقبات التاريخ الإسلامي، فترة الغزو المغولي الوحشي للعالم في القرن الثالث عشر حين تعمد "جنكيز خان" تدمير الحضارة الإسلامية ودمر بلدانهم وأحرق مكتباتهم ومساجدهم وأعدم شيوخهم في تلك الفترة تحديدا عام 1207 والتي شهدت ميلادي جلال الدين الرومي.

 

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

الهوامش

9- خالد أبو الروس: الفلاسفة المسلمون: صاحب الطريقة المولوية... زهد في الدنيا وعَبَدَ الله بالموسيقى.. الفيلسوف العاشق جلال الدين الرومي، النهار ، الاثنين 13 يوليه 2015

10- المرجع نفسه.

11- الأب جوزيف شابو: المتصوف جلال الدين الروميّ ونتاجه الفكري، نشر الخميس، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٣.

12- انظر: مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، 6 مجلدات، بترجمة وشرح وتقديم إبراهيم الدسوقي شتا، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 1996- 1997.

13- انظر: يد العشق: مختارات من ديوان شمس تبريز لجلال الدين الرومي، بترجمة وتقديم عيسى علي العاكوب، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 2002.

14- انظر: كتاب فيه ما فيه لمولانا جلال الدين الرومي، بترجمة عيسى علي العاكوب، دار الفكر، دمشق/دار الفكر المعاصر، بيروت، 2002.

15- انظر: جلال الدين الرومي، المجالس السبعة: آفاق جديدة ورائعة في الرمزية الإسلامية، بترجمة عيسى علي العاكوب، دار الفكر، دمشق، 2004.

16- إيڤا دي ڤيتراي ميروڤيتش: المرجع السابق، ص 16.

17- المرجع نفسه.

18- المرجع نفسه.

19- خالد بشير : ما سرّ شهرة جلال الدين الرومي في الغرب؟، حفريات 16/09/2018

20- المرجع نفسه.

21- المرجع نفسه.

22- المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم