شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: ميخائيل بولغاكوف.. رائد الواقعية في الأدب الروسي المعاصر

محمود محمد علييعد الأدب الروسي من أهم الأعمال الادبية العالمية، وقد ساهمت أعمال الكتاب الروس بشكل كبير في تطور الأدب الروسي والعالمي في ذات الوقت، فهو في غناه بالروايات والشعر والكتابات المسرحية ينافس الأدب الانجليزي الذي يعد أهم الآداب العالمية، فقد ظهر العديد من عظماء الأدب الروسي الذين رفعوا مستوى الثقافة الروسية بشكل كبير خاصة في القرن التاسع عشر الميلادي والقرن العشرين، وفي هذا المقال نقدم لكم قائمة من أفضل الكتاب الروس الذين أتحفوا بأعمالهم الأدبية القارئ الروسي والغربي والعربي .
وفي هذا المقال نقدم ميخائيل بولغاكوف (1891 – 1940)بوصفه أحد ابرز الكتاب الروس في القرن العشرين، وربما يعتبر من اكثر الشخصيات غموضا في الادب الروسي . ولا يضاهيه في ذلك سوى نقولاي غوغول الذي تأثر به بولغاكوف كثيرا حتى اعتبره بعض الباحثين " غوغول الثاني". وحياته العجيبة المترعة بتقلبات الاقدار يمكن ان تؤخذ نفسها كموضوع لرواية كبيرة. فقد عانى من العوز والتشرد في شبابه بسبب قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية وهروبه من مدينته كييف الى الاورال، واراد كل طرف من اطراف الحرب الاهلية في روسيا تجنيده لخدمة اغراضه بحكم كونه طبيبا يحتاجه كافة المحاربين في جبهات القتال. وعندما وضعت الحرب الاهلية اوزارها قرر التخلي عن مهنة الطب والتفرغ للإبداع الادبي. وهكذا لمع نجمه فجأة منذ العشرينيات من القرن الماضي بعد نشره روايته الملحمية " الحرس الابيض" ومن ثم مسرحياته . وكان آخر اعماله الادبية تأليف رواية " المعلم ومرغريتا" وهي من أعظم رواياته التي مزج فيها قصة المسيح وبولات والي القيصر بقصة الشاعر الذي طاردته السلطة . ولم تنشر هذه الرواية والكثير من أعماله الا بعد وفاته . ومما يؤسف له ان غالبية أعماله لم تترجم من الروسية بدقة وبنزاهة.
ولذلك معظم أعماله لم تلقَ الرواج اللائق، إلا بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي (1991)، ثمة من يعتبره واحداً من أهم رواد "الواقعية"، فيما يعتبره آخرون تجسيداً لـ "مصير محزن لفن رفيع كان يبحث عن الاعتراف العادل". وكان الكثيرون من متابعيه اعتبروه في حينه طبيباً موهوباً أبلى أحسن البلاء خلال عمله في المستشفيات الميدانية على الجبهة الجنوبية الغربية في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك طبيباً في الأرياف، قبل تحوله إلى عالم الأدب بكل ما حفل به من هموم ومتاعب، ليسجل بداياته وما تلاها من سنوات الثورة والحرب الأهلية في "مذكرات طبيب شاب"، وهي كانت أقرب إلى السيرة الذاتية. وفي رواية "مورفين" سجل الكثير من لحظات تجربته مع الإدمان. ولم تقتصر إبداعاته على عالم الأدب، حيث تجاوزها إلى عالم المسرح ليقدم العديد من المسرحيات التي كان منها مسرحية "الإخوة من عائلة توربين" التي تحولت لاحقاً إلى "أيام عائلة توربين"، فضلاً عن " موليير" و"شقة زويا"، وغيرهما من الأعمال المسرحية.
ولد ميخائيل بولغاكوف في عام 1891 في كييف لأب يعمل بروفيسورا في الأكاديمية الدينية في كييف. كان والداه أفانسي وفارفارا يعيشان في شقة مستأجرة في شارع فوزدفيجنسكي. وقد وقع اختيار الزوجين على هذه الشقة لكونها رخيصة، وقريبة من الأكاديمية الدينية حيث يعمل أفانسي. في عام 1906 ينتسب ميخائيل إلى كلية الطب بجامعة كييف، ويتخرج عام 1916 طبيبا بدرجة امتياز.
وتوفي والده في 1907، وبدأ ميخائيل بولغاكوف في البحث عن عمل، لمساعدة والدته، حيث كان يعمل في التدريس خلال أيام ‏الدراسة، وفي الصيف كان يعمل في هيئة السكك الحديد، وفي عام 1909، التحق بكلية الطب، بجامعة كييف، وكان يعمل خلال ‏تلك الفترة مع عدد من الأطباء مساعدا.‏
وشارك ميخائيل بولغاكوف في الحرب العالمية الأولى، حيث أرسلت الحكومة الروسية في تلك الفترة، الطلاب الملتحقين بالتخصصات ‏الطبية، لمساعدة القوات الطبية في علاج المصابين في المعارك، وحاول في عام 1915، التطوع للذهاب للصفوف الأولى، لكنه لم ‏يقبل بسبب إصابته بالفشل الكلوي.‏
وخلال الحرب الأهلية، شارك ميخائيل بولغاكوف في جيش جمهورية أوكرانيا الشعبية، ثم في الجيش الأحمر، ثم جيش جنوب روسيا، ‏ثم الصليب الأحمر، وخلال هذه الفترات، عمل مراسلا، وفي عام 1919، نشر كتابا بعنوان آفاق المستقبل.‏
بعد انتهاء الحرب، قرر ميخائيل بولغاكوف العمل كاتبا، وحصل على وظيفة في لجنة فلاديكافكاز الثورية، حيث أسند إليه القسم ‏الأدبي والمسرحي، وكان دوره تنظيم الأمسيات الأدبية، والمحاضرات التثقيفية وغيرها، وكان يكتب المسرحيات أيضا التي كانت ‏تقدم على المسارح.‏
وفي تلك الأثناء اتجه إلى الجبهة الجنوبية خلال استعار أتون الحرب العالمية الأولى، ليتطوع مع فرق الصليب الأحمر. وبعد ذلك جرى تعيينه طبيبًا ريفيًا في وسط غاية في البؤس والتخلف والبساطة، وقد صور بولغاكوف هذه المظاهر وانطباعاته في تعامله مع المرضى في كتابه الأول “مذكرات طبيب شاب” (صدر عام 1925). لتظهر بعدها روايته المبكرة “مورفين” التي تمثل نتاج تجربته الشخصية الواقعية مع إدمان تعاطي المورفين، حيث يقول بأنه لجأ إلى ذلك تحت ضغط آلاف الحالات الصعبة التي عالجها، لتقنعه زوجته التي تعمل ممرضة معه في نفس البلدة بضرورة العودة إلى كييف متخوفة من انكشاف أمر إدمانه ومنعه من مزاولة المهنة. وهكذا عاد إلى كييف سنة 1918، وهناك ساعده زوج أمه وزوجته الثانية (لأنه سيطلق زوجته ويتزوج مجددا) للتخلص من إدمانه. وتفصح كتابات الكاتب في “مذكرات طبيب شاب” عن الدور الكبير لأحداث ثورة أكتوبر 1917 التي يصر بولغاكوف على تسميتها بالانقلاب، في إدمانه وتدهور حالته.
ولهذا نجد حياته الشخصية عامرة بالمطبات والمفارقات. ينقلون عنه نجاته من السقوط ضحية ما شهدته البلاد من أحداث درامية، إبان ثورة أكتوبر 1917، وما تلاها من تطورات إبان سنوات الحرب الأهلية التي صب عليها لعناته، في الوقت نفسه الذي لم يتوقف فيه عن رصد ما أصاب "الحرس الأبيض" من هزائم وإخفاقات كانت موضوعاً للكثير من إبداعاته ومسرحياته التي كانت الرقابة لها بالمرصاد، فلم تجد أي منها طريقها إلى النشر أو العرض.
ويقال إنه كان أدمن تعاطي مخدر "المورفين" منذ سنوات عمله في المستشفيات الميدانية، ما يبدو تفسيراً لارتباك حياته وما اتسمت بها من عنف وعدوانية انعكسا على زيجاته الثلاث، وكانت الأولى مع تاتيانا لابي التي اضطرت إلى إجهاض حملها لعدم تحملها تصرفاته، فضلاً عما كانت تعانيه الأسرة من فاقة وارتباك في أحوالها المالية. ومن المفارقات في هذا الصدد أن بولغاكوف كان من تولى القيام بعملية إجهاض زوجته ليفقد استمرارية الذرية.
لقد كان الموضوع الرئيسي للمقالات الهجائية والقصص والحكايات عند بولغاكوف في عشرينيات القرن الماضي حسب تعبيره هو بالذات " تلك الفظاعات والتشوهات التي لا تحصى في حياتنا اليومية" - تلك التشويهات الكثيرة للطبيعة البشرية التي حدثت تحت تأثير الانقلاب الاجتماعي الذي أصبح حقيقة واقعة (" عرض شيطاني " عام 1924، " البيوض القاتلة " عام 1925). وفي نفس الاتجاه يسير العقل الساخر للكاتب في روايته الساخرة " قلب كلب " عام 1925، التي نشرت لأول مرة في عام 1987). كل هذه الإشارات – التحذيرات كانت بالنسبة للبعض من معاصريه إما دافعاً للإعجاب (لقد رأى غوركي في قصة " البيوض القاتلة " –شيئاً ظريفاً ) وإما سبباً لرفض النشر (فقد رأى كامينيف في رواية " قلب كلب " : ” هجاءًً لاذعاً للحقبة، ولذلك لا يجوز نشرها بأي شكل كان). ففي تلك القصص المذكورة اتضحت فرادة الأسلوب الأدبي الساخر لبولغاكوف.
أما بمثابة الحد الفاصل بين بولغاكوف الباكر وبولغاكوف الناضج فقد كانت روايته "الحرس الأبيض"، التي قام ي. ليجنيف بنشر جزئيها في مجلة " روسيا " عام 1925 (تمت طباعة الرواية بشكل كامل لأول مرة في الاتحاد السوفيتي عام 1966 وقد كانت هذه الرواية أحبُّ الأعمال لقلب الكاتب. وفيما بعد قام بولغاكوف وبالتعاون مع مسرح موسكو الفني MKHAT بإعداد مسرحية " أيام آل توربين " بالاعتماد على نص رواية " الحرس الأبيض " (عام 1926). وهذه المسرحية بالضبط (يمكن اعتبارها عملاً أدبياً مستقلاً) هي التي جلبت الشهرة لبولغاكوف. وبالفعل، لقد لقيت المسرحية نجاحاً باهراً لدى الجمهور. إلا أن النقاد انهالوا على المسرحية وكاتبها متهمين الكاتب بالعداء للسوفييت وبالتعاطف مع حركة البيض.
وفي روايته “الحرس الأبيض” ومسرحية “أيام آل توربين” وقصة “مغامرات طبيب غير عادية” عام 1922 يمكن أن نستشف الأثر الكبير للتبدلات الاجتماعية على تجربة ميخائيل بولغاكوف الشخصية والأدبية. فبعد استيلاء قوات “الجيش الأبيض” بقيادة الجنرال دينكين على كييف سنة 1919 استدعي بولغاكوف للخدمة في منظمة الحرس الأبيض، ونقل بصفته طبيبًا عسكريًا إلى القوقاز، وفي تلك الفترة ظهر مقال له بعنوان “آفاق المستقبل” فيه يعبر بولغاكوف عن رفضه للثورة، التي يتهمها بالتسبب بالمآسي والنكبات للشعب والبلاد، ويحذر من مخاطرها البعيدة. لقد رأى بولغاكوف سقوط القيصر مترافقًا مع سقوط كل ما هو عزيز على قلبه في روسيا، كان المجتمع ينهار!.
وبين عامي 1920-1921 تخلى ميخائيل بولغاكوف عن ممارسة الطب واتجه نحو العمل الأدبي، فكتب خمس مسرحيات عرض منها ثلاثة على خشبة المسرح المحلي. وحققت له مسرحية “أيام آل توربين” الصادرة سنة 1926 شهرة واسعة، وشاهدها ستالين على مسرح موسكو الفني عدة مرات. لكن أعماله المسرحية عموما، عرضته لهجوم ونقد لاذع من قبل الكتاب الشيوعيين والبرولتاريين، واتهم بتمسكه بتقاليد تشيخوف وبوشكين. وقد تكلم الكاتب عن تلك الفترة من حياته في مدينة فلاديقوقاز في قصته الطويلة ” مذكرات على الأكمام ” عام 1923.
وفي عام 1924 كتب رواية “بيوض القدر” وهي رواية خيال علمي ساخرة تحتوي نقدا لاذعا بشكل ضمني للقادة السوفييت ومغامراتهم السياسية غير محسوبة العواقب، وتسخيرهم للعلم والمعرفة لغايات سياسية سطحية، وفي هذه الرواية التي يمكن وصفها بالتنبؤية، بعد نظر كبير لما ستؤول إليه عواقب تلك السياسات الهوجاء.. ففيها يتنبأ بولغاكوف بالكارثة التي سنراها تتكلل لاحقا بانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه. حظيت هذه الرواية بتشجيع مكسيم غوركي، في حين جوبهت بنقد حاد واتهم على إثرها الكاتب بتبني “مزاج برجوازي جديد”، فمنعت العديد من أعماله من النشر وتعرض هو نفسه للمضايقة. وفي نفس العام كتب رواية “نشيد الشيطان” وهي لا تختلف كثيرا عن مضمون “بيوض القدر” النقدي.
وكان "بولجاكوف" قد كتب أول مخطوطة للرواية ثم أحرقها، وهى تدور حول زيارة مفترضة يقوم بها الشيطان إلى الاتحاد السوفيتي، واكتملت الرواية فى 1940، وصدرت في 1967 بعد موت مؤلفها بسبعة وعشرين عاماً، واعتبرها النقاد واحدة من أهم الروايات الروسية في القرن العشرين، وإحدى أهم المقطوعات الهجائية التي وجهت للنظام السوفييتى، وأثرت في العديد من الأعمال الفنية اللاحقة.. هاجم رجال الدين رواية بولجاكوف بقسوة، ومنع النظام السوفييتى نشرها لما تضمنته من نقد شديد للنظام والتجربة الماركسية.. وما إن ترجمت الرواية إلى لغات عالمية أخرى حتى صنفت واحدة من أعظم الروايات الروسية في القرن العشرين، وتحوّلت إلى أعمال سينمائية ومسرحية وتلفزيونية.. ويستمد بولجاكوف رؤيته في مواجهة تلك الأيام الشديدة الوطأة على الناس في الاتحاد السوفيتى، التي انتشرت فيها الاتهامات بالعمالة، وكراهية الأجانب، والشك فى كل شخص، والتعرض للاعتقال لأدنى سبب، وحيث تعيش عدة عائلات في شقة واحدة، ويسعى الناس عن طريق التزلّف والخداع لتحسين أوضاعهم.. وتتحدث الرواية عن زيارة مفترضة يقوم بها الشيطان "فولند" إلى موسكو فى أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، ووقائع هذه الزيارة، وتبدأ من مشهد يتجادل فيه الشاعر بزدومنى والأديب برليوز رئيس رابطة الماسوليت الأدبية حول وجود المسيح والشيطان، ليظهر لهما "فولند" ويثبت وجود المسيح والشيطان بحكاية مشهد لقاء بيلاطس البنطى مع المسيح، ثم يتنبأ بموت برليوز، وإصابة بزدومنى بالشيزوفرينيا.
وفي عام 1940، توفي ميخائيل بولغاكوف في موسكو بمرض تصلب الكليتين، بعد أن أحرق مخطوطة رواية “المعلم ومرغريتا ” التي أنقذتها فيما بعد زوجته لترى النور متأخرة حوالي ثلاثة عقود عن تاريخ ميلادها الحقيقي، والتي أمتعت ملايين القراء في العالم. وحتى بعد نشر مسرحياته وروايته “المعلم ومرغريتا ” فإن بولغاكوف لم ينل حقه من الاهتمام من قبل النقاد والصحف والمؤسسات الرسمية السوفيتية. وتم التعتيم على إبداعاته وإنجازاته الفذة لعقود طويلة لاحقة بشكل مستغرب. ولم يفرج عن أعماله في الاتحاد السوفييتي السابق بشكل رسمي قبل انطلاق البيريسترويكا، باستثناء العرض المتكرر لمسرحية “أيام آل توربين”. ولم تقرر السلطات الرسمية الروسية افتتاح متحف الكاتب سوى في آذار من عام 2007، بعد وفاته بسبعة وستين سنة. إذ صدر قرار عن حكومة موسكو بتحويل البيت الذي كان يقطن فيه بولغاكوف إلى متحف يضم مقتنياته وتذكاراته. حيث تبرعت سيدة روسية بالأشياء التذكارية والوثائق التي تعود للكاتب.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
.....................
المراجع:
1- علي سوسو: ميخائيل بولغاكوف، كاتب شجاع لم يلق التقدير!.. 22 عربي .
2- علي سعيد: «حياة السيد موليير»: سخريةٌ وسردٌ مبتكر في رواية بولغاكوف.. الرياض.. الأربعاء 18 صفر 1436 هـ - 10 ديسمبر 2014م - العدد 16970.
3- محمد عبد الرحمن: طبعة منقحة من رواية "المعلم ومارغريتا" لميخائيل بولجاكوف عن دار المدى، اليوم السابع، الأحد، 06 سبتمبر 2020 03:00 ص.
4- محمد متروك : في ذكرى وفاة ميخائيل بولغاكوف.. لماذا منع ستالين أعماله المسرحية من النشر؟، القاهر، نشر بتاريخ الخميس 10/مارس/2022 - 07:22 م

 

في المثقف اليوم