شهادات ومذكرات

عبد الرضا عليّ: شهادة في الذي تنبَّأ بشاعريّتِهِ عليّ جواد الطاهر

عبد الرضا عليصديقي الشاعر الكبير يحيى السماوي (1)
كان قسمُ اللغةِ العربيّة في آداب الجامعةِ المستنصريّةِ – نهاية الستينيّات- يمورُ بمجموعة من الطلبةِ اليساريين المثقّفين الذين أصرّوا على الجمعِ بين العملِ والتعلّمِ، وكان أساتذةُ هذا القسمِ (تحديداً) من الرموزِ العلميّة، والمعرفيّة، وأساطين الثقافةِ الرصينة التي أسّست للشأن الثقافيّ، والتأليفِ العلميّ الجاد تأسيساً لا يختلفُ فيه منصفان، وهم الخالدون: مهدي المخزومي، وعليّ جواد الطاهر، وحسين عليّ محفوظ، وباقر عبد الغني، وهادي الحمداني، وابراهيم الوائلي، ومحمود غنّاوي الزهيري، ويوسف عزّ الدين، وجلال الخيّاط، وعناد غزوان، ومحسن غياض، وكامل مصطفى الشيبي، وعليّ عباس علوان، وغيرهم ممّن شكّل وجودهم في الجامعة أثراً في بناء ثقافةِ المجتمع، وإشاعة قيم الحريّة في أوساطهِ.
وكانَ هذا القسمُ يُقيمُ أُمسيتينِ شعريّتينِ على مدارالعام الجامعيّ الواحد: الأولى في منتصفِ العامِ الدراسيّ، والثانية في نهايتهِ يُشارك فيها شعراءُ القسم، وبعضُ الضيوفِ من شعراءِ العراقِ المبرّزين، وتكون تلك الأماسي برعايةٍ رمزٍ ثقافيّ، أو شاعرٍ معروف، كالجواهري، أو شفيق الكمالي، أو لميعة عباس عمارة، أوغيرهم، مع حرصٍ شديد من لدن أساتذة القسم على حضورها تقييماً لتحكيم تلك النصوص، وتقويماً للتي تحتاجُ إلى تقويم يُجرى في أيامٍ تاليات.
ولعلّ أبرزَ من شارك في تلك الأماسي شاعراً، أو عريفاً مقدّماً، أو داعماً: عبد الوهاب كريم ، وحسين الرفاعي ، وصبري مسلم، وعليّ جعفر العلاق، وعلوان الياسري ـ الذي غيّر اسمه فيما بعد من (علوان) إلى عليّ الياسري بأمرٍ قضائي ـ وحسين العلاق، وحميد سعيد، وطارق عبد عون الجنابي، ومحسن أطيمش، وكاتب هذه السطور، وغيرهم ممّن لمن تعد الذاكرةُ تتذكّرهم للأسف.

 3420 عبد الرضا والسماوي

وفي منتصفِ العام الأخير من دراستنا، وتحديداً في العام الجامعي (1970م) صعد إلى منصّةِ الإلقاءِ في قاعةِ ساطع الحَصريِّ (في المبنى القديم لكليّة التربية) شابٌ وسيمٌ ، ذو وجهٍ صبوح، وقوام رشيق، وشعرٍ ذهبيّ ، كأنّه رمحٌ سمهريٌّ نقيٌّ، يزيّنُ عارضي وجهه عِذارانِ خُطّا على نحوٍ جميل، فقرأَ قصيدةً دلَّ بها على أنّ الله قد حباهُ موهبةً فطريّةً عظيمة،أو طبعاً (استكملتْ به نفسُه فهم أسرارِ الكلام)⁽²⁾ واكتساباً معرفيّاً واسعاً، فألهبَ القاعةَ إعجاباً ، فصفّقنا له كثيراً، واستعدنا بعضَ أبياتِ قصيدتهِ تلك منتشينَ، وحين سألْنا عنه زملاءَنا أعْـلِمونا أنّه من طلبةِ المرحلةِ الأولى.
ولم يمضِ يومانِ، أو ثلاثةُ أيّامٍ على المهرجانِ الشعريّ إلا وقرأنا مقالةً أدبيّةً لأستاذِنا العلامةِ الدكتور عليّ جواد الطاهر (أستاذ النقد الحديث آنذاك) يُبشّرُ فيها بولادةِ شاعرٍ واعدٍ هو الطالب يحيى عبّاس السماوي، ومنذُ ذلك الحين، وحتى هذه الساعة لم تستطعْ محنُ الزمانِ، ولا أيّامُ الخوفِ، ولا معتقلاتُ البعثِ، ولا المنافي العديدة، ولا غيرها من المنغّصات أن تفرّقَ بين ما آمنتْ به روحانا من أفكارٍ، أو فلسفاتٍ، أو انحيازاتٍ استدعتها مواقفُ معيّنة، (وإنْ فرّقتنا فضاءات هذه الدنيا الشاسعةِ الأطراف مكانيّاً)، لكنّنا كنّا نلتقي بين الحينِ والحينِ في فضاءاتٍ جميلة، هي فضاءاتُ الأدبِ وما إليه، وماحوله، لكونِ كلٍّ منّا قد أدركتْهْ حرفةُ الأدبِ، ومن أدركتْهُ تلك الحرفةُ بات أسيرَها طوالَ العمرِ راضياً مرضيّاً.
***
ظلَّ السماوي يحيى وفيّاً لقضايا شعبهِ، بالمستوى نفسهِ الذي ظلَّ فيه وفيّاً للفلسفةِ التي آمن بها، ولعلَّ ما كان يُعانيه شعبهُ من استلابٍ ثقافيٍّ، وفكريٍّ، واقتصاديّ هي بعض الأسبابِ التي عمّقتْ ذلك الوفاءَ، فكانَ أميناً مع ناسِه قبل أنْ يكونَ أميناً على مبادئهِ في حريّةِ الفكرِ والتعبير، والعملِ، فكان لابدَّ للدكتاتوريّةِ من أن تبعدَهُ عن مهنةِ التعليمِ التي اختارها، وتنقَلَهُ إلى مكتبِ بريدٍ في مدينة السماوة، عقوبةً لرفضهِ الانتماء لحزب المنظّمةِ السريّةِ الذي كان يحكمُ العراقَ بقبضتهِ الحديديّةِ بداءةً من نهايةِ ستينيّاتِ القرنِ الماضي، وحتّى سقوط الدكتاتوريّة في سنة 2003م.
وعلى الرغم من هذا الإبعادِ القسريِّ، فإنّ تقاريرَ أزلامِ هذهِ المنظّمة لاحقته، فاعتُقلَ مرّاتٍ ، وعُذِّبَ أخرى، لكنّه بقيَ شديدَ الشكيمةِ قويّاً، ينتظرُ موعدَ شروق الشمس، وما أن توقّدتْ نارُ الانتفاضةِ الشعبانيّة المباركة (في أوائل تسعينيّات القرن الماضي) إلا وكان واحداً ممّنْ حملوا السلاحَ فيها أملاً في تحقيقِ خلاصه، وخلاصِ جماهير شعبهِ من حكم جمهوريّةِ الطغيان، وجبروتِها الفاشيِّ، لكنَّ الرياحَ جرتْ بما لا تشتهي سفنُ الثوّار، إذ سرعانَ ما تمّ قمعُ الانتفاضةِ ، فكان لابدَّ له من الفرارِ مع من تبقّى من المنتفضين (ممّن حملوا السلاح، أو أيَّدوا الانتفاضة) صوبَ صحراءِ رفحاء في الأراضي السعوديّةِ خلاصاً من موتٍ محقّقٍ كاد يطالُهم جميعاً.
وحين سمحتِ السعوديّةُ له بالإقامة فيها عمِلَ في إذاعةِ صوت الشعب العراقيِّ التي أسّستها المقاومةُ العراقيّةُ هناك، ومن مذياعِها كانت قصائدُه النضاليّةُ المقاومةُ تجدّدُ آمال العراقيين في انتظارِ الخلاص من حكم الطغيانِ الذي جثم على صدورِهم أكثر من ثلاثين عاماً ، ولعلَّ أرشيفَ تلك الإذاعة سيبقى شاهداً عمليّاً حيّاً على ما كان للسماوي من أبجديّةٍ إبداعيّةٍ وإعلاميّةٍ في تأجيجِ روحِ المقاومة، وتحريضِ المكبّلين (من العراقيين )على الثورةِ على قيودِهم.
***
إنَّ هذه الشهادةَ القصيرةَ التي رويتُها هنا عن صديقي الشاعر يحيى السماوي كان مقرّراً لها أنْ تُقدّمَ بين يدي جمهورهِ في مهرجان النور الثامن الذي تمّ إطلاق اسم السماوي عليه في العامِ 2014م، فالتزمتْ بما يُتاحُ لمثلها من وقتٍ قصيرٍ، وهي لا تفيه حقّهُ، لكنَّ تأجيلَ المهرجان بسبب ما عاناهُ الوطنُ آنذاك من هجمةٍ المجرمين الدواعش جعلني أسمحُ بنشرها ضمن الكتاب التكريميِّ الذي تعدّهُ الشاعرةُ الذكيّةُ رفيفُ الفارس، فأبقيتُها على صورتِها الأولى دون تغيير، لتكونَ واحدةً من صور السماوي الحيويّة التي قد لا يعرفُها الكثيرون، منبّهينَ إلى أنَّ قيامَ بلديّةِ السماوةِ مشكورةً بتسميةٍ شارعِ الكورنيشِ باسمِ مبدعِها البار، وشاعرِها الكبير يحيى السماوي قبلَ أيّامٍ جعلَنا نردِّدُ، (ونحنُ فرحين) قولنا:


ومـا جـادَ الزَّمانُ بمثلِ يحيى
وليــسَ بمـثلِهِ أبـداً يجـودُ
*
رعـى اللهُ السـماوةَ كلَّ حينٍ
ففي يحيى(ابنها) سَمقَ القصيدُ
*
فإنْ ســألتْ عن التجديدِ يوماً
(أقولُ لها: القديمُ هـو الجديدُ)⁽³⁾

***

أ. د. عبد الرضا عليّ
.............................
إحـــــــالات
(1) فرزة من كتابنا الذي صدر في بغداد هذا اليوم عن منشورات (دار المتن).
(2) يُنظر: حازم القرطاجنّي (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) تح: محمّد الحبيب بن الخوجة، 200، دار الكتب الشرقيّة، تونس، 1966م.
(3) الشطر الأخير تضمينٌ من قصيدة الجواهري (فتيان الخليج). 

في المثقف اليوم