شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: إبراهيم عبد القادر المازني.. أديب مدرسةَ الديوانِ الساخر

محمود محمد علي"وجهت قلبي إلى المعرفة، وبنيت لنفسي آمالاً، وغرست أوهاماً وأحلاماً من كل نوع، وكان نصيبي من كل ما بقي.. قبض الريح".. هكذا تكلم عن نفسه، إنه أحد مؤسسي مدرسة الديوان، وأحد رواد النهضة الأدبية العربية، هو الأديب والشاعر المجدد، "إبراهيم محمد عبد القادر المازني" الذي عُرف كواحد من كبار الكتاب في عصره، كما عرف بأسلوبه الساخر سواء في الكتابة الأدبية أو الشعر، واستطاع أن يلمع على الرغم من وجود العديد من الكتاب والشعراء الفطاحل، حيث تمكن من أن يجد لنفسه مكانًا بجوارهم، على الرغم من اتجاهه المختلف ومفهومه الجديد للأدب، فقد جمعت ثقافته بين التراث العربي والأدب الإنجليزي كغيره من شعراء مدرسة الديوان.
امتاز المازني بأسلوب حلو الديباجة تمضي فيه النكتة ضاحكة من نفسها، وتقسو فالجملة صاخبة عاتبة، فهو الطبيب الذي أغمى عليه خلال محاضرة تشريح فترك الطب، وهو المحامي الذي ترك الحقوق لارتفاع مصاريف الكلية، وهو المعلم الذي ضاق ذرعا بقيود المهنة، لتتلقفه مهنة القلم، فعمل مع عمالقتها مثل "أمين الرافعي، وعبد القادر حمزة"، كل هذا بجانب براعته الأدبية، ورشاقة قلمه الساخر شعرا ونثرا، كما أسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري "مدرسةَ الديوانِ" التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب.. انتخب وكيلا لنقابة الصحفيين عام ١٩٤١م، وعضو بالمراسلة بالمجتمع العلمي العربي في دمشق، واختير عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة ١٩٤٧م، أصدرت هيئة البريد طابع بصورته في مئوية مولده، كما أطلق اسمه على أحد شوارع مدينة ٦ أكتوبر، وتوفي في ١٠أغسطس ١٩٤٩مبعد انتشار الباولينا في الدم.
قال عنه أنيس منصور في كتابه "هؤلاء العظماء ولدوا معاً":" الفرق بين الأربعة عباس العقاد، طه حسين، وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازني.. العقاد: يحاضرك، طه حسين: يحدثك، توفيق الحكيم: يداعبك، إبراهيم المازني: يسخر منك ومن نفسه.. فكان المازنى أسوأهم حظاً وأقلهم اهتماماً من النقاد والمؤرخين.. مع أن المازني كان أرقهم وأعمقهم واسبق زمانه.. فإذا كان في أدبنا الحديث كله واحد يمكن أن يوصف بأنه الأديب الوجودي دون أن ينازعه أحد في ذلك".
وُلدَ "المازني" في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس.
كان المازني يفضل أن يكون طبيبًا وعلل ذلك ساخرًا بقوله «الطبيب ليس كمثله أحد، يقتل الناس ويأخذ مالاً، ثم التحق بكلية الطب ولم يلبس بها أشهرًا حتى تم طرده من ناظرها لأنه أصيب بإغماءة حين رأى جثة، فالتحق بمدرسة الحقوق ولم يكمل بها حين فوجئ بزيادة أجور التعليم بها فاتجه إلى مدرسة المعلمين العليا إلى أن تخرج سنة 1909 م.
اتجه المازني إلى الصحافة لما وقعت ثورة 1919 وعمل مع أمين الرافعي في جريدة الأخبار ومع عبدالقادر حمزة في صحيفة البلاغ كما رأس تحرير جريدة الاتحاد وكان يعالج الموضوعات السياسية بروح الكاتب المستقل.
يذكر الكثير من الباحثين أن المازني لم يكن روائيًا عاديًا يسعى إلى استنساخ الواقع أو محاولة إصلاحه، إنه كان يتطلع الى أبعد من ذلك، فالأسئلة الشاملة التي تمسّ الوجود والموت وإعطاة معنى للحياة كلها – عند المازني – تمرّ عبر المرأة التي تغدو، في رواياته، أفقاً مطلقاً لتحقيق الذات، ومادة لتحديد المواقف وضبط صورة متحررة للتواجد داخل المجتمع.
كما قرَضَ "المازني" في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.»
تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة.
وقد حاول "المازني" الإفلات من استخدام القوافي والأوزان في بعض أشعاره فانتقل إلى الكتابة النثرية، وخلف وراءه تراثا غزيرا من المقالات والقصص والروايات بالإضافة للعديد من الدواوين الشعرية، كما عرف كناقد متميز.
وكما قلنا فقد صاحب "المازني" عدداً من القامات الأدبية في زمانه وكانت تربطه بهؤلاء الشعراء والكتّاب والأدباء علاقة صداقة متواترة، ومنهم أمير الشعراء "أحمد شوقي" و"العقاد" و"عبد الرحمن شكري"، حيث كانوا يلتقون في مجالس النقاد والأدباء، وقد اشترك مع "العقاد" في عملهما الشهير "الديوان" والذي صدر في جزئين عام ١٩٢١م، لتولد به مدرسة تجديد متأثرة بالثقافة الإنجليزية عُرفت باسم "مدرسة الديوان"، وشنا من خلالها حملات نقد قاسية الكتاب منهم شوقي والمنفلوطي.
كما كان ذو ثقافة واسعة وعلى درجة كبيرة من المعرفة باللغة الإنجليزية مما مكنه من الاطلاع على الأدب الغربي المكتوب بها، كما قام بترجمة العديد من الأشعار والروايات والقصص من الإنجليزية وعُرف عنه براعته في هذا المجال منها الآباء والأبناء لترجنيف، رباعيات الخيام، سانين" لأر زيبا شف، كما تميز في النقد وكان له الريادة فيه، وانتقد "أحمد شوقي"، المنفلوطي، "طه حسين"، كما انتقد نفسه، وكان أول كتبه في نقد الشعر غاية ووسائط، شعر حافظ ١٩١٥م وغيرهما، قاربت مؤلفاته الأربعين من أشهرها رواية إبراهيم الكاتب ١٩٣١م، ثم نشر في ١٩٤٣م أربعة هي إبراهيم الثاني، ميدو وشركاه، ثلاثة رجال وامرأة، عودّ على بدء، ومن مجموعاته القصصية في الطريق ١٩٣٧م ومسرحية واحدة غريزة المرأة أو حكم الطاعة، وفي أدب الرحلات الكتاب الأبيض الإنجليزي، إلى جانب ديوانه الشعري.
كما ترك المازني عددًا من مجموعات قصصية مثل: في الطريق؛ صندوق الدنيا؛ خيوط العنكبوت؛ ع الماشي، ومن رواياته: إبراهيم الكاتب؛ إبراهيم الثاني؛ ميدو وشركاه؛ عودٌ على بدء؛ ثلاثة رجال وامرأة؛ من النافذة. كما ترك المازني مسرحية واحدة هي حكم الطاعة. كما أصدر المازني كتب تضمنت مقالاته منها: قبض الريح؛ من النافذة، وله أيضًا كتاب الرحلة إلى الحجاز، كما أصدر المازني ديوان شعر من جزءين.
كان المازني يُكثر في كتاباته الشعرية والنثرية من الأسى والتحسر والحزن والحرمان حيناً، ويتعرّض بعض الشيء إلى الفكاهة والسخرية اللاذعة التي يسلّي فيها عن نفسه، مما أكسبه تفرداً في أسلوبه الكتابي وفلسفة مميزة في التعامل مع الحياة؛ دوّنها ونقلها في كتاباته وقصصه ومقالاته، حتى إنه كان يضفي حسه العاطفي المرهف حتى على ترجماته التي أبدع فيها وبرع.
وروى أنه وجد أمامه شبحا أو رجلا لا يدري يجري خلفه فجرى المازني ولكنه تعثر في أحد القبور ووجد نفسه ملقى على جثمان أحد الموتى، وخيل له أنه يطوقه بذراعيه، وظل أياما يرعد من هول هذا المنظر، فإذا لم يلجأ المازني للسخرية لضاعت حياته منذ زمن، وهذا هو الأثر الإيجابي الذي حققته السخرية في نفس المازني.
ولجأ المازني إلى السخرية من العيوب الجسدية والعقلية والخلقية لنفسه وللآخرين، وسخر من العيوب الاجتماعية والسياسية للأفراد والأمم والجماعات، ولولا السخرية عند المازني لكان قد مات قبل وفاته بزمن طويل خوفا أو كمدا أو اكتئابا بفعل كل الظروف التي مر بها، جسدية وأسرية وحياتي، ولقد أفرغ طاقته الساخرة في الاستخفاف والمرح، ولا يبالي أن يجعل من الكتاب الذي ينقده أضحوكة مثيرة، وهذا نراه في نقده للدكتور طه حسين، ولمصطفى لطفي المنفلوطي، ولأشعار عبد الرحمن شكري، ونقده لأحمد شوقي، ويقال أن شوقي يقصد المازني ببيت الشعر الذي قاله: "إذا ما نفقت ومات الحمار.. أبينك فرق وبين الحمار!".
وكل هذا يدل علي المازني كان ساخر بطبعه ومرح يحب النكتة، ويظهرها في أحرج المواقف حتى ينفس عما بداخله، لذا كانت السخرية عنوانا لمؤلفاته مثل "خيوط العنكبوت، وقبض الريح، وحصاد الهشيم، وصندوق الدنيا"، وسخرية من العيوب الجسدية والعقلية والخلقية لنفسه وللآخرين، كما سخر من العيوب الاجتماعية والسياسية للأفراد والأمم والجماعات.
وقد فارق "المازني" الحياة عن عمْر يناهز التاسعة والخمسين عاماً، بعد صراع نفسي مع هاجس الموت، ومرض عضويّ عانى فيه من انتشار البولينا في الدم. توفي المازني بتاريخ 10 أغسطس عام 1949م، تاركاً خلفه إرثاً معرفياً وأدبياً وفنياً يملؤه الصدق والإبداع والفكاهة والأسى والعاطفة، وحس روحه ومعاناته وأحاديثه مع نفسه ومع أصدقائه كما مُلئت حياته بكل ذلك.
ولهذا فقد رثاه الكاتب الصحفي الرائع "محمود العزب موسي" بمقال بعنوان " المازني الكاتب" بجريدة الأهرام يوم 11 أغسطس 1949، وقال فيه: "انتقل الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني إلى الرفيق الأعلى، بعد حياة حافلة بألوان الصراع الهادئ بينه وبين نفسه حيناً، وبينه وبين غيره من الناس أحيانا. وقد عاش طوال حياته دايما لا يعرف الثورة ولا الغضب، بفرض على الناس من فضيلة التواضع والأدب ما أدناه من القلوب.. وقد عرفت المازني أستاذي في المدرسة، وعرفته زميلاً في المهنة، وعرفته صديقاً في الحياة. فإذا المازني هادئ ساكن، ينطوي على شخصية واحدة ذات فلسفة واقعية رائعة. كان في المدرسة الأستاذ المتحين لكل فرصة، يربط بين الماضي والحاضر، ويعقد المقارنة، ويلهب العاطفة، ويذكي الشعور ويرهف الوجدان، وكان على ضآلة جسمه، ونحول بدنه، قوة مسيطرة تحكم هذه المملكة السعيدة، مملكة المدرسة ذات الشعوب المتباينة، فتمتع بالهيبة والاحترام".

***

أ.د. محمود محمد علي
كلية الآداب – جامعة أسيوط
.................
المراجع:

1- فاطمة عمارة: إبراهيم عبدالقادر المازني.. رحلة صاحب "صندوق الدنيا" من الطب إلى الأدب، بوابة الاهرام، 20-8-2021 | 13:20
2- محمود خلف: إبراهيم عبد القادر المازنى: من أعلام الشعر والفكر والأدب المعاصر، أديب مجدد، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، الوعي الإسلامي , س52, ع601، 2015.
3-عبدالله، فاطمة محمد أحمد: ابراهيم عبدالقادر المازنى: أديبا وناقدًا، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب – جامعة الاسكندرية،  1990.
4- فاطمة محمد أحمد عبدالله: ابراهيم عبدالقادر المازنى: أديبا وناقدًا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلة - الإصدار الثاني , ع 7، 2012.
5- وسيم عفيفي: إبراهيم عبدالقادر المازني «شاعر كره الطب فصار على اسمه شارع في 6 أكتوبر، تراثيات، نشر بتاريخ يونيو 11, 2019 4,293 .
6- جمال الشرقاوي: في ذكرى ميلاده.. إبراهيم عبد القادر المازني السخرية أطالت عمره.. وهرب من الطب بسبب التشريح، صدي البلد، نشر بتاريخ الأحد 09/أغسطس/2020 - 11:41 ص.
7- أحمد البنهنساوي: المازني.. ذكرى ميلاد صحفي أديب جمع بين التراث العربي والأدب الإنجليزي، الوطن، نشر بتاريخ 03:04 ص | الأحد 09 أغسطس 2020.

 

في المثقف اليوم