شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: محسن مهدي.. فيلسوف عراقي في الجامعات الأمريكية

هناك رواد عراقيين انحسرت عنهم أضواء الشهرة من أساتذة الفلسفة بسرعة لافتة للنظر، مع أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

ومن العقول الفريدة ذات العطاء العلمي الكبير العالِم العراقي الدكتور محسن مهدي (1924–2007) الذي طال النسيان عطاءاته ولفّ الصمت مؤسساتنا إزاء ما حظي به من صيت وتقدير عالميين. والسبب ما بذله من جهود كبيرة ومميزة في سبيل إحياء التراث الفلسفي الإسلامي، ممتلكا الحصافة المعرفية وبدأب علمي ومصابرة مضنية، متخصصا في فكر فيلسوفين من فلاسفة المسلمين هما ابن خلدون وأبو نصر الفارابي، كما أنه المحقق الجليل والمترجم المقتدر والناقد الفذ والباحث الذي عُرف بدقته وأمانته في الكشف عن مسائل فكرية أصيلة تخص دراسة التراث الفلسفي والأدبي كحكايات ألف ليلة وليلة التي تتبع مظان مخطوطاتها مبتغيا تصحيح المغالطات والتحريفات التي طالت هذه الحكايات على مدى حقب طويلة، متوصلا إلى نتائج باهرة لم يتوصل إليها سواه. فنال بذلك مكانة علمية بمرتبة عالية، وضعته في مصاف كبار الباحثين والعلماء (1).

ولهذا السبب يعد محسن مهدي من أبرز الباحثين والمفكرين العراقيين علي المستوي العالمي .. ترك إرثا كبيرا من المؤلفات والدراسات في الأدب ، والفلسفة ، وعلوم اللغة ، فقد جدد الدراسات الإسلامية بالنشر والبحث ، وكان في الفلسفة من أبرز الشخصيات التي أثرت المعرفة بالنصوص والدراسات الفارابية ، وقد تابع في ذلك أستاذه ليو شتراوس مركزا على البعد السياسي في الفلسفة الإسلامية الذي وجده في عمل الفارابي الرائد لأنه مثل منعطفا في الفكر العربي الإسلامي ، وطالب بالعودة إلي القدامى في تصور الحقيقة والطريق إليها والأسس في تنظيم المجتمع السياسي على أسس علمية ، فجمع بين إرث القدامى الفلسفي وبين وحي الديانات السماوية ، وجعل مضمون الوحي أو النبوة يندرج في رؤية فلسفية ويفهم وقفها (2) .

ولد محسن مهدي في مدينة كربلاء وسط العراق عام 1926، وحصل على الشهادة الجامعية الأولية من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم نال درجة الماجستير ومن بعدها الدكتوراه في الفلسفة من جامعة شيكاغو في أميركا عام 1954. وعاد إلى العراق مرتين للتدريس في جامعة بغداد عامي 1947 1948و، ثم بين 1955 1957و. وفي عام 1958 عاد إلى شيكاغو ليعمل في جامعتها مدةً تزيد على عشر سنين، ثم لينتقل للعمل في جامعة هارفارد من 1969 وحتى تقاعده عام 1996. وأدار في هذه الجامعة الأخيرة مركز الدراسات الشرق أوسطية، وكان أستاذ كرسي قسم لغات الشرق الأدنى وحضاراته. كما عمل محسن مهدي أستاذاً زائراً في كل من جامعات فريبورغ والقاهرة ولوس أنجلس وبوردو، وفي المعهد المركزي للدراسات الإسلامية في باكستان، لكن الإنجاز الحقيقي والكبير له كان في تبحره في الفلسفة الإغريقية، وأفكار العصور الوسطى، ودراساته ومحاضراته وكتبه وترجماته حول أفلاطون والفارابي وابن خلدون، التي جعلت منه مرجعاً عالمياً في العلاقة بين ما هو فلسفي وما هو سياسي في الإسلام. (3) .

ولم يكن محسن مهدي ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ونظره في مشروعه الفكري نجد أن محسن مهدي قد أولى اهتماماً خاصاً بفكر الفيلسوف أبي نصر الفارابي، فحقق مجموعةً من نصوصه، وقدّم لها بالعربيّة وترجم بعضها إلى الإنجليزيّة، وشرَحها باللغتين، ودرسها من منظور مقارن، واضعاً إيّاها بمواجهة كتابات فلسفيّة عربيّة وغربيّة قديمة وحديثة، منها: (كتاب الشعر) 1959، و(كتاب الحروف) 1990، و(الألفاظ المستعملة في المنطق (1991، و(كتاب الملة (2001. كما كتب مؤلفات فلسفية عديدة بالعربيّة والإنجليزيّة، منها: (فلسفة ابن خلدون في التاريخ) (لندن، 1957)، و(فلسفة أرسطو عند الفارابي) (بيروت، 1961)، و(كتاب الفارابي في الأدبيّات) (بيروت، 1969) و(الاستشراق ودراسة الفلسفة الإسلاميّة) (أكسفورد، 1990)، و(مدينة الفارابي الفاضلة: ولادة الفلسفة السياسية الإسلامية) (باريس، 2000) (4) .

ولا يقف المغزى من عمل محين مهدي عند تجديد معرفتنا بتاريخ الفلسفة وتطويرها ومعرفتنا بمفكرينا قدامي ووسيطين ومعاصرين ، وإنما يتخطاه إلى طرح قضايا تهم العالم العربي والإسلامي متخذا مسافة نقدية من موقفين مغاليين في رؤية العالم وقضايا الإنسان وذلك بالاقتصار على مطلق واحد إما الدين وهو الموقف الذي يختزل الإنسان والسياسي في الديني ، وإما العلم الذي يتجاهل أبعاد الإنسان المتنوعة (5).

ولهذا يقترح محسن مهدي حلول أخرى فيما يهم هذه العلاقات الصعبة والمعقدة بين العلم والدين ومفسحا المجال لتبين علاقات توافق وذلك بأن نستوحي من فكر الفارابي في تحديد هذه العلاقة ، ويتمثل ذلك بالأساس في قراءة الدين بالرؤية الفلسفية ، وهى بمثابة الرؤية العلمية في عصرنا الحاضر ، ووفق هذا التوجه ووفق هذا المعني كان للفارابي الفضل في صياغة هده الرؤية التي تجمع بين سني الحقيقة الفلسفية وأقوال الشرع ومضامينه (6).

وقد سعي محسن مهدي بذلك إلى أن يستوحي لعصرنا الحاضر هذه الرؤية الفارابية في الجمع بين الحقيقة العلمية ومضمون الدين على أساس مركزية الرؤية السياسية التي تحتض كل الرؤي العقدية والعلمية ، فالرجوع إلى الفارابي يمكننا من الاستفادة في العالم العربي الإسلامي في تجاوز الصراع بين الدين وبين العلم والتطلع إلى السعادة ، وكذلك يرتبط بهذه النزعة التوافقية توظيف تاريخ العلوم الإسلامية باعتبار علاقة القرابة التاريخية بين العلم الغربي والعلم الإسلامي ، وهو ما يجعل لنا من المشروع الاعتماد علي العلم الحديث وتبنيه في معالجة قضايا المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة (7) .

هكذا جمع محسن مهدي بين مقتضيات دراسة تاريخ الفكر الوسيط والحديث في بعده الفلسفي ( الفارابي وابن خلدون، الخ) والأدبي (كتاب ألف ليلة وليلة ) ومتطلبات التفكير في هموم عالمنا الراهن (8) .

وبهذا عُد محسن مهدي باحثا سبقت أعماله شهرته ، ذلك أنه يعمل كما يقول الدكتور عمارة الناصر كان يعمل على جبهتين مفتوحتين : جبهة الحضور في العالم الغربي حيث يتخذ هذا الحضور طابعه الإلزامي بحكم التدريس والتعاطي مع مؤسسات البحث الأمريكية والأوربية ، ومن ثمة الحاجة إلى دفع هذا الحضور العلمي في الغرب بإثبات القوة الفكرية للتراث العربي الإسلامي بما هو مجال البحث الأصيل لديه ، وأما الجبهة الثانية فهي الحضور في الفضاء الثقافي العربي حيث يصبح هذا التمفصل المعرفي واللغوي ضروريا في المشروع " المحسني" للحاجة إلى ربط الدراسات التراثية بمناخها القريب وتفعيل النتائج نفسها في بيئة العالم العربي الذي هو في حاجة إلى تغلغل أكبر في تراثه الفكري والفلسفي وإلى زوايا رؤية مختلفة (9) .

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الفيلسوف والأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، ولعل هذا يتوافق مع كلمته الشهيرة "لحم الضأن تأكله الضباع وتبيت الأسود جوعانة"، فكان كل هذا بمثابة عوامل أسهمت في تكوين صورتنا عنه والتي ستظل طوال العمر صورة الأستاذ الاكاديمي الذي رغم هذه المأثر المتعددة وغيرها لم ينل حقه الطبيعي من التقدير والشهرة .

تحية طيبة لمحسن مهدي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر والفيلسوف الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور محسن مهدي، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت أمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ بقسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

الهوامش

1- نادية هناوي: المُنْفَتِحُ على عِلْمَي الاجتمَاع والتاريخ مُحسن مَهدي.. الفـَيلـَسُوف وعَمِيدُ الدِّراساتِ القـَروَسطيـَّة، نزوي ، مقال منشور بتاريخ 2 فبراير,2022.

2- مقداد عرفة منسية : محسن سيد مهدي المفكر والأديب والفيلسوف العراقي،  أعمال ندوة: في الفلسفة العربية - الفلسفة السياسية وفلسفة التاريخ - أعمال مهداة إلى روح الفيلسوف العربي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس ، 2008، ص 21.

3- عواد علي : محسن مهدي مفكراً وناقداً للتطرف الديني والعقلانـي، ملاحق المدي ، مقال منشور 2017/03/29 06:06:25 م.

4-المرجع نفسه.

5- مقداد عرفة منسية : المرجع نفسه ، ص 21-22.

6- المرجع نفسه ، ص 22.

7- المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

8- المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

9- عمارة الناصر: اعادة اكتشاف الفارابى : فى مشروع محسن مهدى، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث ، س 17 , ع 66، 2010، ص 113.

 

في المثقف اليوم