شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: سلامة موسى.. أيقونة اليسار المعتدل ورائد الاشتراكية المصرية

منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي والمنطقة العربية تعيش حالة من عدم الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث كانت المجتمعات العربية تحت وطأة الاستعمار الغربي، بينما كانت الدولة العثمانية في حالة إعياء وضعف شديدين.. وكانت قضية التحرر من الاستعمار والنهضة الشاملة من أهم الإشكالات التي واجهها المجتمع ومثقفو تلك الفترة، فتعددت في ذلك المشاريع والتوجهات، وكان للمسيحيين العرب في تلك الفترة دور ملموس ، خاصة الشوام ممن رفعوا العقلانية والعلمانية كمحاولة للتخلص من الحكم العثماني الذي شهد في أواخر عهده حالة من التدهور الكبير، خاصة في مجال الحريات، وقد انتقل بعض هؤلاء المسيحيين إلى مصر، وأتاح لهم الاستعمار البريطاني سبل التعبير عن أفكارهم، من خلال المؤسسات الصحفية والكتابات، وهو ما أدى إلى ذيوع وانتشار تلك الأفكار، وتأثر بهذه الأفكار عدد من المصريين مسلمين ومسيحيين. ومن أهم ما شهدته الساحة في تلك الفترة دعوات للعلمانية الراغبة في تحييد دور الدين في الحياة، ودعوات إلى إحياء القوميات والانتماءات القديمة مثل الفرعونية، ودعوات لتخلي مصر عن رابطتها الشرقية وتوجهها كليا صوب الغرب، وأخذها الحضارة الغربية بحلوها ومرها.

وكان من أبرز الدعاة إلى ذلك سلامة موسى "1887-1958م" والذي يعد من أكبر المصلحين والمفكرين في طلائع النهضة المصرية، فقد عرف عنه اهتمامه الواسع بالثقافة مثل كل جيل الرواد في النهضة المصرية، قضي وهو في التاسعة عشر من عمره، ثلاث سنوات في فرنسا، تعرف خلالها علي الفلسفة الغربية، وقرأ فولتير ومؤلفات الاشتراكيين، كما أسهم، بأفكاره وبمواقفه وبأبحاثه، في نشر ثقافة المعرفة، ثقافة العلم والعلمانية والتقدم والتطور، ثقافة التحرر من التقاليد القديمة البالية التي عمّمت عصور الظلام وخرافاتها وبدعها في عالمنا العربي، في مطالع القرن العشرين وفي فترات لاحقة منه. كما أسهم في نشر أفكار الاشتراكية، متأثراً في انتمائه إليها بأفكار ماركس، متخذاً له مدرسة خاصة من مدارسها هي المدرسة الاشتراكية الفابية. وهي كانت المدرسة التي تعرّف إليها سلامة لدى زيارته في مطالع القرن العشرين إلى لندن، وتعرّفه هناك إلى الأديب الايرلندي الكبير برنارد شو أحد مؤسسي "الجمعية الفابية". والمعروف أن هذه الجمعية كانت في تبنيها للاشتراكية ترفض العنف كطريق للتغيير، وتعتبر أن التغيير باسم الاشتراكية ينبغي أن يحصل بالتدريج وبالتطور السلمي والديموقراطي.

ويقول سلامة في إحدى كتاباته المتأخرة في صيغة اعتراف، وهو يتحدث عن عدد من الذين تعلّم منهم وتأثر بهم، بأن ماركس كان أكثر هؤلاء تأثيراً في حياته وفي أفكاره، ولهذا كانت أفكاره صادمة للكثير وكان ينفر منها العديد من المفكرين ، وهو ما فتح عليه جبهات متنوعة من الأعداء والمعارضين، مما جعل الصحف جميعها غير راغبة في نشر أي مقال له.

وكان انتماء سلامة موسى إلى الاشتراكية الفابية هو الشكل الذي أخفى فيه انتماءه الأصلي إلى اشتراكية ماركس. إلا أنه، في الواقع، ظل أميناً لانتمائه إلى الاشتراكية الفابية. ويظهر ذلك بوضوح في رسالته المعروفة (1913) التي يحدد فيها مفهومه للاشتراكية، ويرد فيها على المعترضين عليها. وقد خاض، باسم أفكاره هذه جميعها، معارك صعبة دفاعاً عن نظرية التطور عند داروين، بعد أن قرأ نظرياته وترجم له كتابه الشهير "أصل الأنواع"، الذي يقول فيه داروين بأن للإنسان وللحيوان وللنبات تاريخاً كانوا فيه مختلفين عما هم عليه اليوم، وأن لهم مستقبلاً سيكونون فيه أيضاً مختلفين عما هم عليه في حاضرهم. كما قرأ بعناية فائقة أفكار فرويد وتأثر بها، وكتب عدداً من الكتب في علم النفس لعل أشهرها وأهمها كتابه المعروف "عقلي وعقلك"، الذي حاول فيه الدخول في عالم النفس الانسانية، الظاهر منها في السلوك والباطن والخفي منها، متأثراً بفرويد ومقدماً نظرياته الخاصة في هذا العالم.

وسلامة موسي من أوائل الداعين للفكر الاشتراكي، وكان يؤمن إيمانا تاما بأن الاشتراكية هي مفتاح التطور والتقدم وان اجتذاب كل صور الغرب هي الخطوات الأولى للرخاء والتقدم، وتستوى مكانته مع أحمد لطفى السيد والدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم. وهو يختلف عن الآخرين في أنه عاش لا يعمل إلا في الصحافة والفكر لتحقيق رسالته في نشر الوعى والثقافة والتنوير، لا لكى يعيش بل مجانًا.

ولهذا يؤكد الدكتور "غالي شكري" -أحد أشد المتحمسين لسلامة-: "إن سلامة موسى كان يرى أن تحرير الطبقات المطحونة من العبودية الأولى، عبودية الوهم والخرافة، سوف يؤدي إلى تحرير تلك الفئات من العبودية الثانية، عبودية الاستغلال الطبقي، وظلت هذه الفكرة نقطة الانطلاق عند سلامة موسى في تكوين منهجه الفكري إلى النهاية، بأن راح في مختلف مؤلفاته يلح إلحاحا شديدا ومركزا على ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي"، ولذا فإن حل المسألة الاجتماعية لن يتأتى إلا بخلع الطبقات المطحونة لثوب الدين عن نفسها مرة واحدة.

ولد سلامة موسى عام ١٨٨٧ بقرية بهنباي على بعد سبعة كيلومترات من الزقازيق لأبوين قبطيين. التحق، كما تقول كتب السيرة المتصلة به، بالمدرسة الابتدائية في الزقازيق، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة ليلحق بالمدرسة التوفيقية ثم المدرسة الخديوية، وحصل على شهادة البكالوريا عام ١٩٠٣.

سافر عام ١٩٠٦ إلى فرنسا ومكث فيها ثلاث سنوات قضاها في التعرف على الفلاسفة والمفكرين الغربيين. انتقل بعدها إلى إنجلترا مدة أربع سنوات بغية إكمال دراسته في القانون، إلا أنه أهمل الدراسة وانصرف عنها إلى القراءة، فقرأ للكثيرين من عمالقة مفكري وأدباء الغرب، أمثال: ماركس، وفولتير، وبرنارد شو، وتشارلز داروين، وقد تأثر موسى تأثراً كبيراً بنظرية التطور أو النشوء والارتقاء لتشارلز داروين. كما اطلع موسى خلال سفره على آخر ما توصلت إليه علوم المصريات.

وكعادته كان "سلامة موسي" يتأمل في حياته ومستقبله.. في لندن سأل نفسه: ماذا أنا فاعل في هذه الدنيا وما هدفي؟ كانت إجابته.. هدفي المعرفة الكاملة.. أريد أن آكل المعرفة أكلًا، ثم أريد أن أعود إلى بلدي وأكافح الإنجليز حتى يتركوه، أريد أن أحمى مصر من الجهل والفقر والمرض، وأن تخرج المرأة من البيت لتتعلم وتعمل وتملك شخصيتها المستقلة، أريد أن ينتشر العلم في مصر ونقضى على الخرافات، ونستطيع أن نصنع الآلة، كما أريد أن يحكم مصر واحد من أبنائها.. هكذا وضع «سلامة» سنة 1911 في لندن وقبل عودته إلى مصر برنامج وجدول عمله في مصر بعد العودة، ولن يعمل إلا في الفكر حتى يستطيع أن ينير الطريق أمام الشباب والشعب والمرأة، ولن يتقاضى أجرًا، فهذه رسالته التي سيعيش من أجلها.

وبعد عودته إلى مصر، أصدر كتابه الأول تحت عنوان: "مقدمة السوبرمان"، الذي دعا فيه إلى ضرورة الانتماء الكامل للغرب، وقطع أية صلة لمصر بعالم الشرق. كما أصدر كتاباً آخر بعنوان: "نشوء فكرة الله"، يلخص فيه أفكار الكاتب الإنجليزي جرانت ألين، التي تتضمن نقد الفكر الديني والإيمان الغيبي، الذي يرى فيه تخديراً للشعوب وإغلالاً لأيديها. كما تَبَنَّى موسى كثيراً من الأفكار العنصرية التي سادت الغرب آنذاك؛ حيث دعا إلى أن يتزوج المصريون من الغربيات لتحسين نسلهم، وردد بعض المقولات العنصرية عن الزنوج التي كانت تعتبرهم من أكلة لحوم البشر!

عاد "سلامة موسي" إلى مصر ليطبق جدول العمل والكفاح، وقد اتخذ أكثر من وسيلة لتحقيق هدفه، أولًا: إصدار المجلات مثل مجلة المستقبل 1914 ثم المجلة الجديدة، ثم "المصري" الأسبوعية 1929. ثانيًا: الكتابة في الصحف والمجلات، فكتب في صحف "البلاغ" و«المحروسة» و«الهلال» و«الأخبار» وغيرها. ثالثًا: الإسهام في العمل العام. في سنة 1931 كوّن جمعية "المصري للمصري" للاهتمام بالإنتاج المصري ومقاطعة البضائع الإنجليزية. وقبل ذلك في 1920 أنشأ أول حزب اشتراكي في مصر، على أن يكون حزبًا اشتراكيًا معتدلًا. كذلك عمل "سلامة" على إصدار عدة كتب تسهم في التنوير والتثقيف،  فكتب كتابه "مقدمة السوبرمان"، وأصدر مع شبلي شميل صحيفة "المستقبل"، وساهم مع المؤرخ محمد عبد الله عنان في تأسيس "الحزب الاشتراكي المصري" عام 1921م، لكنه سرعان ما انسحب منه، رافضا أي قيود تنظيمية، خاصة وأنه كان قد انتقد الثورة البلشفية.

ترك "سلامة موسي" مؤلفات كثيرة في شتى الاتجاهات الكتابية، وساعده على ذلك أنه ولج مجال الكتابة وهو في العشرين من عمره، كما أن إجادته للغات الأجنبية خاصة الإنجليزية والفرنسية أتاحت له الاطلاع على معارف متنوعة وثقافات مختلفة، وقد أصدر حوالي أربعين كتابا منها: "الاشتراكية" و"مقدمة السوبر مان"، و"حرية العقل في مصر"، و"النهضة الأوربية"، و"الدنيا بعد ثلاثين عاما"، و"الحرية وأبطالها في التاريخ"، و"أحلام الفلاسفة"، و"المرأة ليست لعبة الرجل"، و"هؤلاء علموني" ودوّن سيرته الذاتية في كتابه "تربية "سلامة موسي" ، كما أصدر عددا من المجلات، وكتب الكثير من المقالات، ويذكر أنه استعمل كلمة ثقافة ترجمة لكلمة "Culture" لأول مرة في اللغة العربية الحديثة.

ولهذا يمكن تلخيص فكر "سلامة موسي" بثلاثة توجهات أولا العقلانية والتحديث والتمثل بالغرب ثانيا ايمانه بالاشتراكية كسبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية وثالثا البحث عن أصول الشخصية المصرية في جذورها الفرعونية. ويضاف إليها المطالبة بديمقراطية ليبرالية والعلمنة وتحرير المرأة.

علاوة على تأثر فكره بمفكرين غربيين كما تأثر ببعض المثقفين العرب الآخرين في عصر النهضة حيث كانت من أبرز الأفكار التي نادى به نتيجة هذا التأثير هي أن تحقيق النهضة في المجتمع يستوجب التمثل بالغرب وذهب إلى القول أن الفلاسفة والأدباء يؤدون وظيفة مقدسة؛ فهم يطورون الفضائل في المجتمع كما نادى بالتوحيد الطبيعي بين المادة والقوة، وبين الله والكون، وبين العقل والجسم في وحدة مادية، وترتكز أفكاره على إعلاء مرتبة العلم.

تأثر "سلامة موسي" بالفكر الاشتراكي خاصة فكر الجمعية الفابية البريطانية، التي كانت تدعو إلى تحقيق الاشتراكية بالتدرج دون عنف أو ثورة، وتحولت فيما بعد إلى حزب العمال البريطاني. كما أنه تأثر في فكر كارل ماركس حتى قال فيه: "وأحب أن أعترف أنه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس، وكنت أتفادى اسمه خشية الاتهام بالشيوعية" فرأى أن فكره ضروري لفهم وتحليل التاريخ كما أنه تأثر بأفكار شبلي الشميل وهو من رواد الاشتراكية في العالم العربي. إلا أنه رفض مقولات الاشتراكية العلمية ورأى بواجب تحقيق التقدم تدريجيا وأراد إقامة ديموقراطية نيابية ووجه الانتقادات إلى البلشفية

توفي "سلامة موسي" عام ١٩٥٨، تاركاً إرثاً مثيراً للجدل، مدحه البعض كغالي شكري، حيث اعتبره نصيراً للطبقات الكادحة، ومحررا للعقول من الأوهام، وانتقده البعض الآخر كالعقاد الذي قال: "إن سلامة موسى أثبت شيئاً هاماً؛ هو أنه غير عربي". كما قال: "إنّ العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء؛ لهذا فهو المُنبتّ الذي لا عِلْماً قطع ولا أدباً أبقى". وقد هوجم سلامة موسى من "مجلة الرسالة" الأدبية، التي وصفته بأنه الكاتب الذي يجيد اللاتينية أكثر من العربية، كما اعتبره مصطفى صادق الرافعي بأنه "معادٍ للإسلام"، ولم يره إبراهيم عبد القادر المازني سوى "دجال ومشعوذ".

وفي النهاية أقول بأن "سلامة موسي"  كان نموذجا للمثقف الواسع الثقافة وكذلك للمفكر الحر النزيه الذى لا يقيم وزنا ولا يحسب حسابا إلا للحقيقة العلمية وحدها، فتحية طيبة لله لكونه علمنا كيف يكون التنوير وكيف نتعامل مع العالم المحيط به ونسايره في تطوره.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

المراجع :

1- سلامة موسى: تربية سلامة موسى- مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الثانية – 1958م.

2-غالي شكري: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي- دار الآفاق الجديدة -بيروت- الطبعة الرابعة- 1983م.

3-أحمد محمد جاد: فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي -المعهد العالمي للفكر الإسلامي-القاهرة- الطبعة الأولى- 1995م.

4- مصطفى طاهر: بيت الياسمين تصدر كتاب "حرية الفكرة وأبطالها في التاريخ" لسلامة موسى، الأهرام/ منشور 28-10-2017 | 17:41.

5-خلدون الشرقاوي: "الإنسان قمة التطور": سلامة موسى متأثراً بداروين وجالباً على نفسه اللعنة!، حفريات، مقال منشور بتاريخ 03/07/2019.

6- كريم مروة: وجوه واعلام سلامة موسى 1887 – 1958، نداء الوطن، تشر بتاريخ 14 نيسان 2020.

7- فايز فرح: سلامة موسى مازال مظلومًا!، المصري اليوم، منشور بتاريخ الأربعاء 02-09-2020 01:13

8- نوران إمام: في ذكرى ميلاده.. أبرز المحطات في حياة المفكر سلامة موسى الجمعة ، الدستور/ منشور يوم 04/فبراير/2022 - 03:18 م.

9- موسى، سلامة. (2014). تربية سلامة موسى. (ط.1). القاهرة، مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

10-محمد نبيل :  سلامة موسى.. مفكر صادم في زمن حرية الرأي ، البوابة نيوز ، منشور يوم الأربعاء 04/يناير/2017 - 03:45 م

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم