شهادات ومذكرات

محمد غلاب.. رائد التأريخ الفلسفي في مصر والعالم العربي

يعد الدكتور محمد غلاب أحد أهم المفكرين والرواد الكبار من خريجي المدرسة الفلسفية الأزهرية في القرن العشرين، وقدد جمع بينه وبين طه حسين وشائج كثيرة أهمها تحدي فقد البصر والريادة في مجال التخصص، فكما كان طه حسين رائدا للأدب العربي، كان محمد غلاب رائدا للفكر الفلسفي، وكلاهما من خريجي الأزهر الشريف، وهو يعد أول من اهتم بالتاريخ للفلسفة الشرقية والغربية ومن أوائل من لفتوا الانتباه إلى تأثير الفلسفة المصرية القديمة على الفلسفة اليونانية سواء في نشأتها أو في تطورها .

ولا يـكاد المرء يشـرع في قراءة أحد مؤلفات أسـتاذنا الدكتور محمد غلاب حتى يجد نفسـه في مواجهة عملاق فـذ من عمالقـة الفكر العظام الذين لم يظفـروا بما ينبغي لهم من الذيوع والشـهرة، فالأستاذ لم يكن يحسن الدعاية لنفسـه، ولم يكن له من التلاميذ من يذيعون اسمه، كما أنه لم يشـارك فى ميدان السياسـة بدور يجعله من فرسـانها المعروفيـن لـدى الجماهيـر، يضاف إلـى ذلك أن الأسـتاذ كان ً فيلسـوفا في كثير مـن مؤلفاته، والفلسـفة غالبًا ما تغـري صاحبهـا بالعكوف في دائرة ضيقـة، راضيًا باللذة الذاتية في المطالعة والنقد والتمحيص.

ولد محمد غلاب حوالي 1899 في بلدة بني خالد التابعة لمركز ملوي بمحافظة أسيوط، بعد أن حفظ القرآن الكريم تلقي تعليما أزهريا، وحصل على الشهادة الثانوية بالأزهر سنة 1924، ثم التحق بالجامعة المصرية القديمة، وانتسب لمدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، وحصل على بعثة سافر من خلالها إلى فرنسا سنة 1926 وسرعان ما حصل على دكتوراه في الآداب من جامعة ليون سنة 1929، وقد عاد إلى مصر في العام نفسه، فعمل بالصحافة وأنشأ مجلة " النهضة الفكرية" سنة 1930، كما اشترك في تحرير مجلة " الأزهر"، وعمل بالتدريس بكلية أصول الدين في الأزهر الشريف عند إنشائها سنة 1932، واستمر في عمله وترقي في وظائف هيئة التدريس حتى أصبح أستاذ الفلسفة، واستمر في عمله بعد إحالته إلى التقاعد سنة 1929، ولقد توفي محمد غلاب في 26 يوليو 1970 بعد حياة حافة بالعطاء الفكري في مجالات الفلسفة والأدب وخدمة الإسلام .

وقد ترك إنتاجا علميا غزيرا ومتنوعا، حيث بلغت مؤلفاته نحو خمسة وخمسين مؤلفا ما بين كتبا مؤلفة، أو مترجمة، مضافا إليها نحو مائة بحثا نشرت في مجلة الأزهر، وأكثر من خمسين بحثا نشرت في مجلات الرسالة، والسياسة، والمشرق اللبناني، والنهضة الفكرية، ومنبر الشرق وغيرهم من المجلات الفكرية المصرية والعربية، وقد عكس ذلك سعة أفقه وقدراته العلمية والعقلية والفلسفية المتميزة، وهي قدرات تغلبت علي ما ابتلي به من فقدان البصر .

علـى أن الإنتاج الغزير المتشعب والخصب للأسـتاذ الفيلسوف لم يقف عند مجال الفلسفة وحدها بل تعداه إلى مجالات أخرى تصعب الإحاطة بها ً جميعا لتنوع موضوعاتها وغزارة مادتها العلمية، ويحار المرء حين يريد أن يركز الضوء على بعـض الميادين التـي خاض فيها أستاذنا الراحل في دقة ورصانة، وبأسلوب فذ فريـد يجمع بين الدقة الأزهريـة في التمحيص والتحليـل وبيـن الشـمول والاتسـاع الثقافـي المستوعب للتـراث الغربي الحديث اسـتيعابا نـادرا، وبين النظـرة المتفتحة الناقـدة التي لا تسلم بالقضايا على عواهنها.

ولكن من الضروري أن نلقي الضوء على بعض المجـالات العامة التي تناولها الأسـتاذ في تلك المؤلفات والمقالات:

أولا: الفلسفة العامة والإغريقية والإسلامية: وفي هذا المجال تندرج كتب الفلسفة الشرقية، والفلسفة الإغريقية (جزءان) ومشكلة الألوهية، وفلسفة الإسلام في الغرب، والمذاهب الفلسفية العظمى في العصور الحديثة - الفلسفة المسيحية في الشرق والغرب – الفلسفة التجريبية وتيارات الفكر الفلسفي الفرنسي وتاريخ الفلسفة لإميل برهييه- مترجم.

ثانيا: في الأدب العالمي: الأدب الهيليني ) ثلاثة أجزاء) (الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر) من منتسيكيو إلى ليسنج – جزءان – أدباء الرومانتيكية الفرنسية.

ثالثا: الإسلاميات: من كنوز الإسلام –التصوف المقارن – الكلام والمتكلمون – هذا هو الإسلام – الإسلام والمستشرقون.

رابعا: الأدب العربي: نفثات ولمحات – الفلاحون – الضحية – تحطيم أوثان الأدب العربي المعاصر – حنين وعواصف (قصص من صميم الحياة المصرية).  خامسا: كذلك من أهم الإسـهامات التي أسهم بها أستاذنا  الدكتـور محمد غلاب عدة  حـوث تحت عنوان: (الإسلام كما يراه الأوربيون)، وفى تلك البحوث يعـرض الأسـتاذ -رحمـه اللـه تعالـى– لآراء بعض المستشـرقين عن الإسـلام ويناقشها في موضوعيـة ِ العالم، وثقة المسـلم بدينه، َوحي الباحث الرصين.

والناظر في تلك الكتابات سرعان ما يكتشف كما يقول الدكتور مصطفي النشار بأن محمد غلاب من أوائل الأساتذة المصريين الذين اهتموا بدراسة تاريخ الفكر الفلسفي في مراحله المختلفة، وقد بداها بكتاب " الفلسفة الشرقية"، والذي تحدث في بدايته عن كيفية البحث الفلسفي وفوائد دراسة تاريخ الفلسفة، وأهمية دراسة الفلسفة الشرقية رافضا الربط بينها وبين العقائد الدينية، ومؤكدا في الوقت ذاته أهمية وعظمة الكفر المصري القديم؛ ولم يكتف محمد غلاب بذلك بل وجدناه يؤرخ بعد ذلك لنِشأة وتطور الفكر الفلسفي الهندي حيث تحدث عن الفكر الديني الهندي فيما قبل التاريخ ثم عن الفيدية وظهور الفلسفة في الهند ثم عن البراهمانية الأولي وظهور الديانة والفلسفة البراهمانية ثم عن المدارس الفلسفية المستقلة  ثم عن البوذية وغيرها؛ وانتقل بعد ذلك عن الفلسفة الصينية القديمة مميزا بين ثلاثة عصور : عصر عقيدة عبادة السماء، وعصر الفلاسفة مثل لا تسيو وكونفوشيوس ومانسيوس، والعصر المنهجي . وقد اختتم تاريخ الفلسفة الشرقية بالحديث عن الفلسفة الكلدانية التي نشأت بين ذلك الشعب الذي كان يقطن على شاطئ نهر الفرات من شمال بابل إلى الخليج الفارسي معرفا بالديانة الكلدانية والفلسفة الكلدانية، وأكد في نهاية حديثة عن تلك الفلسفة بأنها " هي ومصر وضعتا البذرة الأولي من بذور التوحيد ".

وكما شغل محمد غلاب في تأريخه للفلسفة الشرقية القديمة ببيان مدي تأثيرها على نشأة وتطور الفلسفة اليونانية، شغل أيضا في معرض تاريخه للفلسفة في العصور الوسطي، والفلسفة الإسلامية ببيان تأثير الفلسفة والعلوم اليونانية على الحضارة والفلسفة الإسلامية، وكان يجاهر كما يقول أستاذنا الدكتور محمد النشار بأن العلوم الإسلامية مؤسسة منذ بدء نشأتها على علوم اليونان وأفكار اليونان، بل وعلى أوهام اليونان، وكان ينبه إلى أن تاريخ الفلسفة اليونانية كالمقدمة الضرورية لتاريخ التمدن الإسلامي .. ولي معني ذلك المغالاة في رد كل مظاهر التمدن الإسلامي لتأثير اليونان على المسلمين، فهو يرفض هذه المغالاة في تقدير قيمة الفلاسفة اليونان، إذ أن بعض العلماء الأوربيين بالغوا مبالغة شديدة في ذلك.. لقد كان محمد غلاب يري أن فلاسفة المسلمين استعاروا من الإغريق أدوات النظر الفكري، كما استعاروا عناصر فلسفتهم الطبيعية ومبادئ فلسفتهم العليا، وما إلى ذلك من الأسس التي أعدها أولئك الفلاسفة العظماء من الإغريق، بيد أنه كان يضيف إلى حكمه هذا اقتناعه أو تبنيه للحقيقة القائلة بأن فلاسفة الإسلام مارسوا النقد تجاه هذه القواعد والفلسفة .

ولم يقتصر اهتمام محمد غلاب على مجالي الفلسفة القديمة والفلسفة الإسلامية، بل امتد ليشمل الفلسفة الحديثة، وقد علل هذه الاهتمام بأنه كان ينبغي توطيد دعائم الصلة بين ثقافتنا وبين الفلسفة الحديثة حتى نبرهن كما يقول محمد غلاب على أننا نحيا لأنفسنا وفي عصرنا لا للأقدمين وفي عصرهم كما يقال عنا .. لقد أرخ لنا محمد غلاب للفلسفة الأوربية الحديثة في كتاب حمل عنوان " المذاهب الفلسفية العظمي في الفلسفة الحديثة "، مما يشي بأنه سيقتصر الحديث عن المذاهب الفلسفية الكبرى، وأهم فلاسفة العصر الحديث، ولكنه فيما كان كما الدكتور مصطفي النشار كان واعيا بأنه لولا سبق عصر النهضة لما كان هناك العصر الحديث الذي ازدهر فيه الفكر الفلسفي على يد الفلاسفة الكبار من أمثال " فرنسيس بيكون"، و" ديكارت" مؤسسي التيار التجريبي من جهة، والتيار المثالي العقلاني من جهة أخرى.

وإلى جانب اهتمامه بتاريخ الفلسفة بصفة عامة اهتم بدراسة بعض القضايا الفلسفية الخاصة فخصص لمشكلة المعرفة عند مفكري الإسلام المسلمين كتابا، كما خصص لمشكلة الألوهية كتابا مستقلا تناول فيه هذه المشكلة من وجهات النظر الاجتماعية والعقلية والروحانية، أي من منطلق الفكر الإنسان كما يخبرنا الدكتور النشار ليبين لنا كيف كانت رحلة هذا الفكر في عصوره المختلفة، ولدى الشعوب المختلفة حول هذه القضية .

ويذكر للدكتور محمد غلاب اهتمامه بالدراسات الاستشراقية، حيث نشر كما بينا عدة بحوث عن الاستشراق في كتاب حمل عنوان " الإسلام كما يراه الأوربيون"، فرق فيه بين مرحلتين من مراحل الاستشراق: يفصل بينهما القرن التاسع عشر، فقد كان كثير من الباحثين الأوربيين قبـل ذلك – يدفعهم الغيظ والتعصب إلى إلصاق الاتهامات المشـينة بالإسلام مدعين أنهم ينظرون إلى النصوص القرآنية والحديثية نظرة النقد الحر والتمحيص البريء، ولكن ذلك لميكن ً متفقا مع الواقع في كثير من الأحيان بل كان في كثير من الأحيان ً أيضا مدعاة للسخرية والاستهزاء أكثر منه مبعث للجدل والنقاش.

ويستشهد أستاذنا الدكتور غلاب على ذلك بقول (درمنجم): "يجب الاعتـراف بأن إساءة الفهم كانت من جانب الغربيين أكثر مما كانت من جانب الشرقيين فلقد هب كثير من الكتاب والشعراء المرتزقـة من الغربيين يهاجمـون العرب بتهم باطلة بل متناقضة"، كما يستشهد محمد غلاب بقول كارادي فو" إن محمدا صلى الله عليه وسلم ظـل وقت في الغرب معرفة سـيئة، فلم توجد خرافة ولا فظاظة إلا نسبوها إليه صلي الله عليه وسلم" .

ويعلق الأستاذ الدكتور غلاب على ذلك بقوله: "ولا أحسب أن التاريخ قد عرف سخفا أحط من هذا السخف، أو ضلالا أسقط من هذا الضلال، وأنا لا أستطيع أن أعزو هذه الأضلولة الوضيعـة إلى الجهل وحده بل إلى سوء النية أيضا؛ لأن انحصار غايـة الإسـلام المثلى في التوحيد، وإلحاح القـرآن على إثبات انفراد الله  –تعالى - بالعبـادة الحقة، ومحاربـة الوثنية، وإزالة النبي إياها من فوق جدران الكعبة، كل ذلك يوضح رأي الإسـلام في التوحيـد، بل إن كلمة الإسلام التي لا يثبت إلا بها، وهي كلمة "لا إله إلا الله" هي نفسها حملة قاسية على الأوثان والوثنية" .

ثم يشير أسـتاذنا الدكتور محمد غلاب إلى موقـف المفكر الفرنسـي فولتير الذي اشـتهر بهجومه على الإسلام، كما يشـير ً أيضـا إلـى رينان الـذي تناول الإسلام في كثير من مؤلفاته بالقدح والهجوم لا سيما في كتابه (الإسلام والعلم) مما جعل السيد جمال الدين الأفغاني ينبري للرد عليه وإفحامه .

وأخيرا أقول تحية طيبة لأستاذنا الدكتور محمد غلاب الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

المراجع:

1-  مصطفي النشار : رواد التجديد في الفلسفة المصرية المعاصرة، دار قباء، القاهرة.

2-الدكتور محمد غلاب فيلسوف أزهري رائد.

3- د. محمود حمدي زفزوف: موسوعة أعلام الفكر الإسلامي، المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية. 

في المثقف اليوم