شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (26): مِلتن فريدمن

مصدق الحبيب(1912 – 2006) Milton Friedman

هو الاقتصادي الامريكي الذي عُرف بدفاعه المستميت عن النظام الرأسمالي المحافظ والذي أصبح عرابه الراديكالي ومبشرا برجاحة وكفاءة اقتصاد السوق الحر لما بعد الحرب العالمية الثانية.  وربما كان الاقتصادي الاشهر والاكثر تأثيرا في الواقع والفكر الاقتصادي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كما عُرف بكونه رائدا في الاقتصاد النقدي القائم على اعطاء الدور الحاسم للنقود والسياسة النقدية في تقرير حالة الاقتصاد. وهو ايضا الاقتصادي الذي عمل استاذا للنظرية النقدية والاحصاء الاقتصادي في جامعة شيكاغو طوال 31 عاما.

ولد ملتن في بروكلين – نيويورك عام 1912 لعائلة يهودية نزحت الى أمريكا من روثينيا الهنگارية التي اصبحت فيما بعد جزءً من أوكرانيا. كان الاصغر بين اخوته الأربعة. وعندما كان بعمر سنة واحدة انتقلت العائلة عبر نهر هدسن الى راوَي  Rahway في ولاية نيوجرسي حيث بقي والده ينتقل من عمل الى آخر فيما تمكنت والدته من فتح حانوت صغير للاطعمة الجافة. وبذا فانه نشأ في عائلة فقيرة مكافحة واجهت الحياة بحد الكفاف لكنها حرصت على غرس التضامن فیما بین افرادها وخلق الجو العائلي التعاوني الحميم.  دخل ملتن مدارس راوَي وتخرج من الاعدادية  بتفوق عام 1928 فحصل على منحة دراسية من جامعة رتگرز الاهلية في نيوبرنسويك - نيوجرسي لدراسة الرياضيات والتخصص بحسابات التأمين    Actuarial Mathematics  بأمل ان يمكنه هذا الاختصاص من الحصول على وظيفة في شركات التأمين كخبير حسابات Actuary وهي من الوظائف التي تتمتع بطلب متزايد ومرتب كبير. ولكن بعد مدة تحولت اهتماماته الى الاقتصاد فقرر ان يحصل على اختصاص ثان فيه،  اضافة الى اختصاصه في الرياضيات وحسابات التأمين. وحين تخرج في رتگرز عام 1932 حصل مباشرة على منحة دراسية اخرى للحصول على الماجستير في الاقتصاد من جامعة كولومبيا في نيويورك والتي نالها عام 1933. عمل بعدها كمساعد باحث لاستاذ الاقتصاد هنري شلتز في جامعة شيكاغو. في عام 1935 التحق بلجنة الموارد الوطنية في واشنطن للعمل كباحث اقتصادي مستخدما البيانات والاحصاءات الوطنية الواسعة عن المستهلك الامريكي التي توفرت آنذاك والتي جذبته للبحث عميقا في هذا المجال فكانت حصيلتها كتابه الموسوم "نظرية دالة الاستهلاك" الذي لم ينشر الا عام 1957. في عام 1937 حصل على وظيفة باحث في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية   NBERفي نيويورك حيث التقى بـ سايمن كزنتس   Simon Kuznets  (الذي حصل فيما بعد على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1971)، فاشترك معه بدراسة عن توزيع الدخل والثروة، خاصة عند طبقة المهنيين. في هذه الدراسة استنتج الباحثان ما اصبح شهيرا فيما بعد حول الارتفاع الاستثنائي لإجور الاطباء الذي كان نتيجة طبيعية للمحددات والموانع والشروط التي تضعها الجمعية الطبية الامريكية حماية لمنتسبيها.

حين اندلعت الحرب العالمية الثانية،  عمل فريدمن لدى الحكومة الفيدرالية في واشنطن – دائرة بحوث الحرب، وكذلك لدى وزارة المالية.  ثم انتقل الى لجنة البحوث الاحصائية في جامعة كولومبيا، وهناك عاد الى الدراسة ليحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1946.

في عام  1947 انظم فريدمن لجمعية مونت بلرن Mont Pelerin   التي أسسها فريدريش هايك والتي سبق ذكرها عند الحديث عن هايك حيث كان هدف الجمعية ترويج ما أسموه الليبرالية والاقتصاد الحر،  والتي قال عنها فريدمن ان نشاطاتها حفزت فيه الاهتمام بالسياسة الاقتصادية واغرته ان يعمل مع سياسيين محافظين ، ذهب قسم منهم للترشيح لرئاسة الجمهورية في أمريكا وبلدان أخرى.  في عام 1951 حصل على وسام جون بيتس كلارك المخصص للاقتصاديين الشباب تحت سن الاربعين والمتفوقين بعملهم بشكل استثنائي. وفي عام 1953 فاز بمنحة برنامج التبادل الثقافي فلبرايت ليحل استاذا زائرا في جامعة كمبرج البريطانية.  وفي عام 1955 طرح واحدة من افكاره الراديكالية المثيرة للجدل وهي فكرة خيار المدارس School Choice or School Voucher  التي تقوم على تمويل المدارس الخاصة بالانفاق الحكومي والتهميش التدريجي للمدارس العامة. وعمليا ، يحق بموجب هذه الخطة ان يختار الوالدان المدارس الخاصة لابنائهم فيستلمون مبلغا معينا من الاموال المخصصة للمدارس العامة يساعدهم على دفع تكاليف المدرسة الخاصة التي يختارونها. تعرضت هذه الفكرة الى انتقادات شديدة من قبل اطراف عديدة باعتبارها ستؤول في النهاية الى الغاء المساواة في التعليم. وقد ذهب بعض المنتقدين للقول ان مايدعيه فريدمن من انها تحقق حرية التعليم وتضع خيار تعليم الابناء بيد عوائلهم بدلا من الحكومة سيؤوول في نهاية المطاف الى خدمة نزعات العنصريين والمتشددين البيض الذين يسعون الى عزل اطفالهم عن الاطفال السود والملونيين وهي بهذا فكرة متناغمة تماما مع ممارسة شعار "متساوون لكن منفصلون" وثقافة التمييز العنصري المعروفة بـ "جم كرو"Jim Crow

3551 مِلتن فريدمنفي عام 1964 عمل فريدمن مستشارا للسيناتور الجمهوري گولدواتر في حملته الانتخابية للرئاسة والتي باءت بالفشل. وفي عام 1968 عمل مستشارا لرچرد نيكسن في حملته الانتخابية للرئاسة التي حالفها النجاح فاصبح نيكسن رئيسا للجمهورية وابقى فريدمن مستشارا اقتصاديا له طيلة فترة رئاسته.  ثم  في عام 1980 عمل مستشارا لـ رونلد ريگن الذي اصبح رئيسا ايضا اثر نجاح حملته الانتخابية.

إلا ان اخطر استشارة قدمها فريدمن في السياسة الاقتصادية وابلغها تأثيرا كانت تلك التي قدمها للجنرال الچيلي أوگستو پينوشيت عام 1975 والتي أشار عليه بموجبها أن يتبع ما سمي بـ "العلاج بالصدمة" كسياسة اقتصادية منقذة للبلاد.  وقد تحمس الى تنفيذ هذه السياسة مجموعة من طلاب فريدمن السابقين في شيكاغو والذين سمي تجمعهم بـ " أولاد شيكاغو" Chicago Boys.  تضمنت هذه المعالجة اتباع اجراءات اقتصادية خانقة للحد من تصاعد معدلات التضخم في چـِلَي َChile. من هذه الاجراءات تقليل وقطع الانفاق العام على المشروعات العامة، وخصخصة المؤسسات الحكومية،  والتخلي عن سيطرة ورقابة الدولة على الاجور والاسعار والضوابط الاقتصادية،  ورفع التقنين عن السوق المالية والتجارة الخارجية.

ولم تنتج سياسة العلاج بالصدمة النتائج المتوقعة في تخفيض معدلات التضخم، حيث ان عرض النقود قد ازداد بشكل كبير نتيجة لشيوع القروض للشركات الخاصة وكثرة الحوافز والسماحات والاعتمادات مما سارع بتركيز الثروة بيد حيتان المال والفاسدين وحرمان الاغلبية من الفقراء ومتوسطي الدخل من وسائل عيشهم.  لقد اعطت سياسة العلاج بالصدمة نتائج اقتصادية وخيمة أثرت بشكل خاص على عامة الناس حيث أشارت الدلائل الى ازدياد معدل البطالة بعشر مرات وتراجعت حركة التصنيع الوطني وازداد الفقر فقرا، كما توسعت احياء الصفيح والكارتون وازدادت الديون وتصاعد الفساد الوظيفي حتى ان بينوشيت اضطر فيما بعد الى العودة الى تأميم بعض المؤسسات المالية وارجاع انظمة الرقابة على نشاطاتها، كما قام بطرد المسؤول الاعلى لمجموعة "اولاد شيكاغو" من وظيفته.

ورغم الانتقادات الواسعة والمعارضة الشديدة لفكرة العلاج بالصدمة ونتائجها الكارثية على الشعب الچيلي فان فريدمن قد اختير في السنة التالية ليصبح الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 لمساهماته في نظرية تحليل الاستهلاك والنظرية النقدية وسياسة التوازن والاستقرار. وفي السنة التالية، 1977 تقاعد فریدمن من عمله في جامعة شيكاغو بعد 31 سنة من التدريس والبحث. التحق بعد ذلك مباشرة كباحث أقدم بمعهد هوفر المعروف باتجاهه الفكري المحافظ والتابع لجامعة ستانفورد في سان فرنسسكو. وكان قد اتفق مع المعهد ان يمضي اشهر الخريف والشتاء في البحث هناك فيما ينتقل الى المكتب الذي خصصته له كلية دارتمث في فرمونت ليواصل البحث اثناء اشهر الربيع والصيف. 

حينما بدأ نجم فريدمن يلمع في الوسط الاكاديمي ابان الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كانت الأرثودكسية الكينزية نافذة ومسيطرة على مقاليد الفكر الاقتصادي، خاصة في جانب النظرية الاقتصادية الكلية والسياسة الاقتصادية. وهنا بدأ لـ فريدمن دورا فاعلا في تصديع الصورة الكينزية وهز الثقة بمصداقيتها. في عام 1956 نشر فريدمن كتابه المعنون "دراسات في كمية النقود" الذي احتوى اولى مساهماته المهمة في النظرية الاقتصادية التي كان مفادها أن لعرض النقود في النظام الاقتصادي تأثير بالغ على مستوى النشاط الاقتصادي في الامد القصير وعلى مستوى الاسعار في الامد البعيد، مما يرفع اهمية السياسة النقدية التي تتبناها الدولة.  وهو بذلك خالف ما كان شائعا وماكان يعتبر الحجة الكينزية الموثوقة بأن نتائج الدورة الاقتصادية السلبية يتم السيطرة عليها عن طريق السياسة المالية فقط ولا دور في ذلك للسياسة النقدية. وفي عام 1963 جاء بحث فريدمن مع ديفد مايزلمن المعنون "الاستقرار النسبي وسرعة التداول النقدي ومضاعف الاستثمار في الولايات المتحدة للفترة من 1897 الى 1958، والذي انتقدا فيه المضاعف الكينزي الذي يشكل حلقة الوصل بين الانفاق المستقل وتغييرات الدخل القومي. وفي العام ذاته نشر فريدمن بحثه المشترك مع آنا شوارتز الموسوم "التاريخ النقدي للولايات المتحدة من 1867 الى 1960 الذي بحثا فيه نظريا وتطبيقيا دور النقود في الاقتصاد الامريكي ابتداءً من الحرب الاهلية والذي زعما فيه ان الكساد العظيم الذي ضرب الاقتصاد الامريكي وانتشر لمختلف انحاء العالم كان من المرجح ان لايكون بذلك السوء لولا الهفوات الكبيرة التي ارتكبها البنك الاحتياطي الفيدرالي. وبذا فقد ركز الباحثان على الانتقاد اللاذع لسياسة البنك وحملاه المسؤولية الاولى في حصول الكساد العظيم عام 1929. يقول الباحثان لو قام البنك الاحتياطي بزيادة عرض النقود بنفس القدر الذي ازداد فيه الناتج الوطني الاجمالي لما عرفنا ظاهرة تسمى التضخم، كما نعرفها اليوم!  وهذا بمثابة الحل الذي قدمه الباحثان لانهاء مشكلة التضخم في اي نظام اقتصادي يستطيع ان يوائم بين عرض النقود والناتج الوطني الاجمالي. كما اعتبرا الباحثان ذلك بمثابة القاعدة التي اطلقا عليها "قاعدة عرض النقود"، والتي مازال لها الاثر الكبير على السياسات الحكومية. كما ان صداها الفكري مازال يتردد عند اغلب الاقتصاديين. وكمثال على ذلك فان الاقتصادي النابغ پول سامويلسن كان قد نقح محتويات كتابه المدرسي الشهير بموجب ما جاء في طروحات فريدمن في هذا الصدد. كذلك فقد قام فريدمن وأدمند فلبس Phelps  بانتقاد فكرة منحنى فيليبس Phillips  الذي يصف العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة وصرحا بأن قبول التضخم كثمن لتقليل البطالة ليس بالحل الناجع ذلك ان المستهلكين سيعتادوا على معدلات التضخم الاعلى وتعود البطالة تتزايد من جديد.  يقول فريدمن وفلبس ان الحل الجذري لتخفيض معدلات البطالة بشكل مستمر هو توقع معدلات التضخم المتزايدة والقبول بها. وقد جاءت ظروف الركود التضخمي Stagflation خلال السبعينات مصداقا لما قاله فريدمن وفلبس على ان التضخم سيستمر بالصعود مع صعود البطالة وكساد النشاط الاقتصادي. وكان فريدمن قد اعاد الكرة مرة اخرى واخرى حول خطل اطروحة منحنى فيليبس، وهذه المرة جاء انتقاده لتلك الاطروحة في كلمته كرئيس منتخب لجمعية الاقتصاديين الامريكيين عام  1967 حيث ورد في كلمته بان العلاقة بين التضخم والبطالة علاقة مؤقتة ذلك انها تعتمد على تصور العمال الخاطئ القائم على عدم التمييز بين الاجور الاسمية والاجور الحقيقية التي تعكس تضخم اجور العمل. فكانوا على الاغلب يظنون ان مايستلمون هو اجر حقيقي مما يحفزهم على الانتاج الاكبر.

المساهمة النظرية الرئيسية الثانية لفريدمن كانت في عمله عن دالة الاستهلاك. وكانت ايضا تمثل خلافه الفكري مع كينز. ففي عام 1957 نشر كتابه المعنون "نظرية دالة الاستهلاك" الذي ابتدع فيه ما عرف بـ "فرضية الدخل الدائم"Permanent Income Hypothesis  والتي مفادها ان قرارات الاستهلاك والادخار لدى المستهلك تتأثر بشكل رئيسي بموجب التغيرات التي تطرأ على الدخل الثابت أكثر من تأثرها بتغيرات دخله الموقت او الطارئ او الاستثنائي. والدخل الثابت يحتسب كمتوسط للدخل لعدة سنوات. وهنا يتضح التناقض مع الطروحات الكينزية التي افترضت ان استهلاك الافراد والشركات انما يعتمد بشكل رئيسي على دخولهم الجارية. وكانت معارضة فريدمن قد ألقت الضوء على علاقة الميل الحدي بالميل المتوسط للاستهلاك والتي كشفتها البيانات الاقتصادية الحقيقية التي اظهرت بأن المستهلك لم يقلل من حجم استهلاكه مالم يعتقد بأن دخله الثابت قد انخفض. كما ان حجم الاستهلاك لم يتغير عند فرض ضرائب جديدة لان الضريبة الاضافية غالبا ما تدفع من المدخرات تاركة حجم الاستهلاك على حاله السابق.

كان لابتكار فريدمن "قاعدة عرض النقود" واهتمامه نظريا وتطبيقيا بالبحث عن تاريخ النقود ودورها في النشاط الاقتصادي المبرر الارجح لاعتباره الرائد في النظرية النقدية، خاصة مع معارضته الشديدة لاهتمام كينز بالسياسة المالية وغض النظر عن السياسة النقدية والاعتماد على الانفاق الحكومي العام كوسيلة لاخراج الاقتصاد من أزماته، فضلا عن اختلافه الجذري مع كينز حول سبب وقوع الاقتصاد اصلا في تلك الازمات الدورية. واذا عرفنا بأنه قام في جامعة شيكاغو بتأسيس ورشة عمل علمية خاصة بمواضيع النقود والبنوك االتي صبحت مرجعا لبحوث الاقتصاد النقدي واستقطبت العديد من شباب الدراسات العليا والزملاء الذين التفوا حوله وساعدوا على ذيوع سمعته كرائد للاقتصاد النقدي ومدرسة شيكاغو في الفكر الاقتصادي والاستاذ الذي وضع الاقتصاد الكلي على الخارطة. ومن هناك ايضا انطلقت سمعته، ليس فقط كاقتصادي اكاديمي، انما كأقتصادي يجيد الحوار على المستوى الشعبي. فابتداءً من عام 1966 ولغاية 1984 بدأ فريدمن تجربته مع الكتابة الاقتصادية الصحفية حيث كلفته مجلة الـ نيوزويك الامريكية بكتابة عمود صحفي ثابت ينشر كل ثلاثة اسابيع وبالتناوب مع زميله پول سامولسن لتثقيف العامة في قضايا الاقتصاد المختلفة من وجهة نظر محافظة. وفي عام 1977 حصل فريدمن على عقد عمل مع قناة التلفزيون العامة  PBS لانتاج سلسلة من المحاضرات التعليمية بعنوان Free to Choose والتي استغرقت 10 ساعات وبدأ تسجيلها عام 1978 وبثت أول حلقة منها عام 1981 وكانت كل حلقة تضم مادة نظرية ومادة وثائقية وفاصل لاسئلة الجمهور وقد صورت في بلدان عديدة. كما جُمعت بعد ذلك في كتاب بنفس العنوان وتوالدت منها محاضرات وفيديوات اخرى. ومما تجدر الاشارة اليه هنا هو ان فريدمن استغل هذه الفرصة ليعارض فلسفة وطروحات اقتصادي تقدمي آخر هو جون كينيث گالبريث الذي كلفته محطة الـ BBC  لانتاج سلسلة تلفزيونية تعليمية من وحي كتابه Age of Uncertainty.

لقد حمل فريدمن معارضته لفلسفة كينز وفكره الاقتصادي أبعد من الاختلاف على قضايا التضخم والنقود والاسعار والمضاعف ومنحنى فيليبس والازمات الاقتصادية ووسائل معالجتها الى اتخاذ مواقف اقتصادية واجتماعية فريدة تميزت بانحيازه الكامل لاقتصاد السوق الحر ورجوعه الى المربع الاول لفكرة "دعه يعمل دعه يمر" الكلاسيكية الاولى وما قد تعطيه من عواقب في زمن غير زمنها.

يقول پول كرگمن الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل عام  2008:

"كان حصول الكساد العظيم عام 1929 قد حطم اسطورة الاقتصاد الكلاسيكي الحر الذي وعد بأن آلية العرض والطلب في السوق الحرة التنافسية كفيلة بضمان سير النشاط الاقتصادي بسلاسة ودون مطبات ومشاكل وذلك بفضل سحر اليد الخفية التي تحدث عنها آدم سمث. وعند نشوب الازمات الاقتصادية ووصول النشاط الاقتصادي الى اعلى درجات الكساد جاء كينز لينقذ الموقف بشرعنة التدخل الحكومي واطلاق الانفاق العام لرفع الاقتصاد من قعر الهاوية. أما فريدمن فقد جاء متحمسا ليعيد مجد المذهب الكلاسيكي الاول ويطلق النشاط الاقتصادي على عواهنه ويبعد الحكومة عن اي تدخل ويعود بالاقتصاد الى ارثودكسيته الضامنة للاستقرار، كمن يؤمن بالغيب".

وقد كان فريدمن يصر على سببين لتحريم التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي: قلة الكفاءة وتدني الاخلاقية لدى الدوائر الحكومية ! وقد قال مقولته الشهيرة : " لو وضعنا الصحراء الكبرى بيد الحكومة فتوقعوا ان نواجه عجزا في الرمال في غضون خمس سنوات"! ويردف بالقول: ان السياسات الحكومية المتمثلة بالانفاق العام على المشروعات والتعليم العام والخدمات الصحية والمنتجات المدعومة والمساعدات لذوي الدخول المحدودة وتجريم تجارة المخدرات كلها مجتمعة آلت ودون قصد الى دفع ملايين العوائل الى مراكز المدن والغرق في دوامة الفقر والعنف والجريمة. وهنا يؤكد بأن السياسات ينبغي ان ترسم بموجب ماتعطي من نتائج وليس بما تمليه النوايا الحسنة.

ومن المواقف التي اتخذها فريدمن في هذا الصدد تعويم سعر الصرف، واطلاق ضريبة الدخل العكسية، وتحرير التجارة الخارجية من كل القيود، وتقليل التقنين والضوابط، والحفاظ على نمو بطئ ومستقر لكمية النقود تتناسب مع النمو الاقتصادي، ومعارضة الحد الادنى للاجور، وتبني كوبونات التعليم الرسمي، وجعل التجارة بالمخدرات قانونية مشروعة وانهاء تجريم مستخدميها للاغراض الترفيهية، والغاء التجنيد الالزامي والغاء دعم المنتجات وتحديد الايجارات،

يعترف فريدمن بفضل شخصين على رفع اهتمامه بالاقتصاد وتكوين وعيه ومفاهيمه الاقتصادية الاساسية واصول البحث العلمي. أولهما كان آرثر برنز وثانيهما هومر جونز وكلاهما درساه الاقتصاد وهما مايزالا طلابا في مرحلة الدكتوراه.   كما انه يشيد بأساتذته اصحاب الاثر الاول عليه كجيكب فاينر وفرانك ناين وهنري شلتز ويطري على المناخ الاكاديمي الرصين والمريح الذي وفره له قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو. ولا ينسى ان يشيد بزميلته الاولى في القسم روز دايركتر التي اصبحت زوجته بعد ست سنوات من الزمالة والتي اصبحت فيما بعد رفيقته الاكاديمية في اغلب ابحاثه.  في عام 1998 نشر فريدمن مع زوجته روز مذكراتهما المشتركة، وعاشا يتنقلان بين اقامتهما في سان فرنسسكو وفرمونت في رحلتي الشتاء والصيف لحين وفاته عام 2006 عن عمر 94 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم