شهادات ومذكرات

محمد باقر الصدر.. شهيد العشق الفلسفي

3553 الصدريعد الشهيد السيد محمد باقر الصدر محمد باقر الصدر أول مفكر عراقي أبتكر طريقة الأيمان بالصانع وهو ” الله ” بواسطة الدليل الاستقرائي ” وليس عن طريق ” العلة والمعلول ” و” السبب والمسبب ” كما كان شائعا عند الفلاسفة، هذا هو محمد باقر الصدر فيلسوف بحجم البرهان، ومفكر بحجم المعرفة، وكم أتعب لماذا لم يتمثل إخواننا العراقيين فكره ومشاريعه، خاصة وأن أغلب الجامعات العربية لم تعطيه حقه كما أعطته جامعات اليابان وأوربا وروسيا وأمريكا، ولآن وسائل الإعلام المرئية المسموعة والمقروءة لم تخصص لمحمد باقر الصدر ما يتناسب مع موقعه في الفكر العالمي باعتباره مفكرا فلسفيا من الطراز الأول، وله لغة واضحة وشيقة؛ ومن يراجع فكره في كل المواضيع بما فيها الفقهية والأصولية والرجالية وغيرها نجده يثري نظريات مبدعه جديدة في كل علم خاضه، ومحاضراته في أيام شبابه عن النبوة واهل البيت تدل على عمق فكره الخلاق والذي نحن بحاجة إلى هذه الرؤى عن أهل بيت النبوة.

لقد كان محمد باقر الصدر مدرسة فكرية شمولية ذات معالم متميزة وخصائص فريدة، أضاف حقائق جديدة في ميادين مختلفة من ميادين العلم. ففي الفقه هو عالم لا يجارى يعد من أكابر الفقهاء، وفي الأصول مدرسة تكاد تسبق معظم المدارس الأصولية على مر العصور، وفي الفلسفة فيلسوف قوي الحجة والبرهان، وفي الاقتصاد وضع أسس المذهب الإسلامي، وفي المنطق أضاف نظريات جديدة عجز عنها الآخرون، وفي التفسير اتجاه جديد، وفي التاريخ محقق قل نظيره.

ومن جهة أخرى فنجد أن محمد باقر الصدر صاحب كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" هو واضع نظرية التوالد الذاتي في تفسير المعرفة البشرية من خلال الدليل الاستقرائي، مما جعله يقف على رأس ريادة المعرفة البشرية بعد أن كان أرسطو يتربع على عرش المعرفة بالمنطق الأرسطي الشهير لمدة عشرات القرون حتى بزغ نجم محمد باقر الصدر الذي جعل المذهب الذاتي يتقدم على المذهب التجريبي والمذهب العقلي، وعند صدور كتاب ” الأسس المنطقية للاستقراء ” كتب فيلسوف مصر زكي نجيب محمود يسأل عملاق الفكر المعرفي محمد باقر الصدر قائلا: لمن كتبت هذا الكتاب؟..فأجابه السيد محمد باقر الصدر قائلا: حتى يبدأ الغرب يأخذ عنا؟

كما قال عنه أستاذنا الدكتور سليمان دنيا: في هذا المقام يحلو لي أن أشير إلى مفخرة من مفاخر المسلمين يحق أن نعتز ونفتخر بها، تلكم هي كتب السيد محمد باقر الصدر التي ما أظن أن الزمن قد جاء بمثلها في مثل هذه الظروف التي وجدت فيها. لقد أنتجت عبقريته الفذة الكتب الآتية فلسفتنا واقتصادنا تلكم الكتب التي تعرض عقيدة الإسلام، ونظم معاملاته عرضاً تبدو إلى جانبه الآراء التي تشمخ بها أنوف الكفر والملاحدة من الغربيين وأذنابهم من ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء، وكأنهم فقاعات قد طفت على سطح الماء ثم لم تلبث أن اختفت وكأنها لم توجد.

ومن الجوانب الرائعة في حياة السيد الصدر (رحمه الله) هو الجانب العلمي، ولا يستغرب إذا قلنا: ليس من دأب الشهيد المرجع الصدر العبقري والفيلسوف أن تحوم أبحاثه العلمية حول سطوح البحث والدراسة بعيدة عن العمق، بل كان يغور إلى أعماقها حتى تبدو له خفاياها بحيث لا يترك مجالاً لأي باحث من أن يزيد عليه تحقيقاً، ولم يكن متردداً في ما يرتبه من نتائج أو ما يختار من حلول وآراء، وكان يمتلك قدرة فائقة على سبر غور الأبحاث والدراسات العلمية التي بحثها أو كتبها، وكان (رضوان الله عليه) حينما يقرأ أو يكتب أو يفكر ينقطع عن المحيط الذي يعيش فيه وينسجم مع الحالة التي هو فيها انسجاما بنحو لا يشعر بما حوله.

ولد المرجع الشهيد محمد باقر الصد في مدينة الكاظمية المقدسة في 25 ذي العقدة سنة 1353هجرية الموافق 1933 ميلادية . وينتمي نسبه الشريف إلى الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام). والده السيد حيدر الصدر من نوابغ العلماء، ووالدته الفاضلة ابنة العلامة الكبير عبد الحسين آل ياسين .

وقد توفى والده وعمره (4) سنوات، فتولت والدته تربيته، وفي ريعان صباه تلقى العلوم الإسلامية على يد أخيه السيد إسماعيل الصدر. عندما أتم دراساته التمهيدية في الكاظمية المقدسة هاجر إلى النجف الأشرف عام 1945 لمواصلة دراساته العليا وكان عمره الشريف 13 سنة، ودرس على يد كبار مراجع التقليد ونال درجة الاجتهاد وهو دون العشرين من عمره. أوجد مدرسة إسلامية تتمتع بالشمولية والأصالة والعمق والحركة الحيوية والتجديد والعالمية.

تعلَّم الشهيد الصدر القراءة والكتابة، وتلقَّى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية بمدينة الكاظمية المقدّسة، وهو صغير السن، وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاّب لشدَّة ذكائه ونبوغه المبكّر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية من دون أستاذ، فبدأ بدراسة كتاب المنطق، وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية .

وفي بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأُصول عند أخيه السيّد إسماعيل الصدر، وكان يعترض على صاحب المعالم، فقال له أخوه: إنّ هذه الاعتراضات هي نفسها التي اعترض بها صاحب كفاية الأُصول على صاحب المعالم، وفي عام 1365 هـ سافر السيّد الشهيد إلى مدينة النجف الأشرف لإكمال دراسته .

وبالرغم من أنّ مُدَّة دراسة السيّد الصدر منذ الصبا وحتّى إكمالها لم تتجاوز (17 أو 18) عاماً، إلاّ أنَّها من حيث نوعية الدراسة تعدُّ فترة طويلة جدّاً، لأنّ السيّد كان خلال فترة اشتغاله بالدراسة منصرفاً بكلِّه لتحصيل العلم، فكان منذ استيقاظه من النوم مبكّراً وإلى حين ساعة منامه ليلاً يتابع البحث والتفكير، حتّى عند قيامه وجلوسه ومشيه .

من يراجع فكر الإمام الصدر في كل المواضيع بما فيها الفقهية والأصولية والرجالية وغيرها نجده يثري نظريات مبدعه جديدة في كل علم خاضه، ومحاضراته في أيام شبابه عن النبوة واهل البيت تدل على عمق فكره الخلاق، وكذلك مؤلفاته القيمة والمعمقة أمثال: "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"البنك اللاربوي في الاسلام" و"الأسس المنطقية للاستقراء"، أو دراساته المختصرة في مجموعة الاسلام يقود الحياة بما فيها دستور للجمهورية الاسلامية والتفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي أعطى صورة رائعة عنه وعن منهج التفسير.

ونظرة لكتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) نجده يمثل قفزة نوعية لا مثيل لها في تاريخ الحوزات الدينية ولا في حياة التأليف والتحقيق لدى العلماء والفقهاء والمراجع الإسلامية، والسبب في ذلك أن العلماء كانوا ينتهجون في علم الكلام ومعرفة نهج الأدلة العقلية الفلسفية وإثبات وجود الله سبحانه من خلال مبدأ العلية والسببية.

ولكن المدرسة المادية التجريبية التي أنكرت القوانين العقلية انحازت إلى الإلحاد بالله وجحود الخالق محتجّة أن منطلقاتها المادية لا تنسجم مع المبادئ الغيبية التي تثبت من خلال العقل والفلسفة.

كذلك نجح محمد باقر الصدر في أن يفحم الخصوم، ويغلق أبواب الإلحاد لله سبحانه في وجوههم وسحب الأوهام التي تذرعوا بها للجحود ونكران الخالق طرح على الماديين وأصحاب المدرسة التجريبية الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، وهذه الأسس هي بنفسها منطلق المدرسة المادية القائمة على التجربة وتكرارها واستقرائها حتى يصل الإنسان إلى شاطئ القطع واليقين.

وعليه يكون الإنسان إما مؤمناً بنتائج الدراسات المادية التجريبية فلا بد أيضاً أن يؤمن بالله سبحانه لأن المنطلق والاستدلال فيها واحد. وإما أن يلحد بالله عز وجل فيجب أن يلحد بنتائج التجارب المادية والعلوم الطبيعية والمدرسة التجريبية لأن الاستدلال العلمي هنا وهناك واحد.

إن كبار أساتذة العلم في حساب الاحتمالات من الجامعات العربية انذهلوا عندما شاهدوا شخصية علمية فقهية تخوض بكل الدقائق والتفاصيل موضوعاً رياضياً معقداً وشائكاً وأبدوا اندهاشهم وإعجابهم في مقالات ورسائل بعثوا بها إلى السيد الأستاذ قدّس سرّه.

ومن جانب آخر سعى لبناء حوزة علمية واعية أرسى لها القواعد والأسس وربى طلبته عليها، وتحمل الاذى من الحاسدين، لكنه استمر في جهاده وسعيه من أجل تحقيق أهداف الإسلام بكل قوة رغم اعتقاله من قبل سلطات البعث عدة مرات.

وبسبب مناهضته للسلطة البعثية ومساندته للحركات الاسلامية ودعواته الاصلاحية وجرأته، أصبح السيد الصدر مصدر إلهام روحي لأغلب العراقيين، الأمر الذي جعل النظام البعثي يشعر بخطورة السيد الصدر على بقائه، ومن أجل عزله عن الناس، وقطع اتصالهم به، فرضت الأجهزة القمعية التابعة لدوائر الأمن الإجرامي الاقامة الجبرية على السيد الشهيد، واستمر هذا الحصار نحو تسعة أشهر، وبعدها قامت تلك الأجهزة الدموية باعتقاله ومن ثمة اعتقال شقيقته الشهيدة بنت الهدى، وفي نيسان العام 1980 استشهد السيد الصدر مع شقيقته تحت وطأة التعذيب، وفقدت الأمة الاسلامية هذا العالم الرباني الكبير الذي وضع بصمة في ضمير الأمة،ونقش على جبينها عبارته الخالدة " لو كان إصبعي بعثيّ لقطعته".

تحية طيبة للمفكر المبدع محمد باقر الصدر الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- محمد الحيدري: محمد باقر الصدر.. مسيرة جهاد ومنهج تجديد، مهر للأنباء، مقال منشور في التاسع من أبريل 2021.

2- مشتاق حسين العلي: محمد باقر الصدر فيلسوف بحجم البرهان ومفكر بحجم المعرفة، كتابات، مقال منشور في الخامس من أبريل، 2015.

3- محمد الحسيني: الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر: دراسة في سيرته ومنهجه، دار الفرات للطباعة والنشر والتوزيع،1989.

4- أنظر كتاب الشيعة وفنون الاسلام، تأليف السيد حسن الصّدر، تقديم الدكتور سليمان دنيا، صفحة 7.

 

 

في المثقف اليوم