شهادات ومذكرات

الشفق مجلة المبعدين إلى بدرة.. من ذاكرة الشيوعي د. خليل عبد العزيز

بعد انتهاء فترة اعتقالي لعام واحد،  نقلت مخفورا بداية عام 1957 من سجن بعقوبة إلى مديرية التحقيقات الجنائية في بغداد، والواقعة في شارع النهر. وهناك أجري معي تحقيق روتيني وأخذت لي صورٌ شخصية وطبعات أصابع، وعملوا لي صفحة أعمال جديدة. بت هناك لليلة واحدة أرسلوني بعدها مخفورا إلى مدينة الكوت، ومن هناك رحلت إلى مدينة بدرة القريبة من الحدود الإيرانية. كانت هذه المدينة تعتبر المنفى القسري للعديد من المعارضين للسلطة الملكية، وبالذات الشيوعيين منهم.

مدينة بدرة تقع شرق مدينة الكوت، وهي مدينة صغيرة قريبة من الحدود الإيرانية  تسكنها غالبية كردية. المدينة جميلة بطبيعتها ونقاء هوائها،وتمتد على أطرافها بعض المرتفعات المخضرة. أُسكنت في دار من الدور الحكومية العائدة للموظفين، والتي تمتد متراصة مع بعضها، لأكثر من عشرة بيوت. شاركت السكن مع ما يقارب العشرة أشخاص أغلبهم من المبعدين الشيوعيين، كان من بينهم الشهيد ستار خضير وجعفر فيلي وإبراهيم وهو شيوعي من أهل العمارة. وفي البيوت المجاورة سكن شيوعيون وغيرهم من الوطنيين المبعدين. أذكر منهم كاظم فرهود،وحسن عوينه، كاظم حبيب، عدنان الديو، ماجد عبد الرضا،عادل سليم، عاصم الحيدري وغيرهم، وفي الجهة المقابلة سكنت بعض العوائل منها عائلة كريم أحمد أبو سليم وعبد علوان الطائي أبو بشرى.

3589 افرات المحسن وخليل عبد العزيزكنا في منفى بدرة نتشارك  في أجواء وانشغالات واحدة،  بالرغم من عدم  وجود صلات تنظيمية حزبية للبعض منا. أيضا كان هناك خلاف تنظيمي كان له الأثر الفاعل على الكثير من المبعدين، فقد كان كاظم حبيب ومعه عاصم الحيدري ومسؤولهم المحامي عادل سليم  يمثلون جماعة راية الشغيلة، وهي مجموعة كانت بقيادة عزيز محمد وجمال الحيدري وتضم كثيرا من الكوادر الحزبية، مثل نافع يونس وعامر عبد الله وحمزة سلمان، أما قيادة الحزب أي اللجنة المركزية، فكانت حينذاك بقيادة بهاء الدين نوري (باسم) وكنت والبعض من المبعدين ومنهم كريم أحمد وعبد علوان نمثل اللجنة المركزية في ذلك المنفى. 

وبالرغم من كون جماعة راية الشغيلة يمثلون كتلة مغايرة لمجموعتنا وعلى خلاف نظري مع الحزب، ولكن ذلك لم يكن عائقا ولم يمنعنا من التعاون في الكثير من مشاغلنا وأعمالنا اليومية في ذلك المنفى القسري،لذا كنا وبشكل طبيعي نقترب من بعضنا البعض، واستطعنا أن نؤلف فريقا واحدا في منفانا البدري،لغرض العمل بروح رفاقية كان يحتاجها وضعنا الاضطراري. حدث ذلك قبل أن تحل راية الشغيله نفسها وتندمج في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكانت مجموعة بدرة لراية الشغيلة أخر من عاد إلى الحزب.

وقتذاك كنت اتهم جماعة راية الشغيلة بالانشقاق، وأوجه لهم اللوم والاتهامات فيما حدث. فأنا دائما ما كنت متوافقا مع نفسي وانتمائي الحزبي، ولذا أطلق علي في مسيرتي الحزبية تسمية تتوافق كليا مع مبادئي وطباعي وقناعتي (خليل الحزب)، وهي تعني لي الكثير. فرغم الكثير من الملاحظات التي أحملها عن الحزب وتدور في ذهني، وأفصح عنها أو أضمرها، لكني لم أفكر يوما بترك الحزب أو الانشقاق عنه، وبرأيي أن أي انشقاق عن الحزب، يعني في تفكيري خيانة لا تغتفر، وهذا المفهوم نابع من صلب أيماني بالفلسفة الماركسية اللينينية.

ظروف الإبعاد القسري ووجودنا سوية بشكل دائم، جعلنا نقر بضرورة العمل مع بعضنا وبأجواء من الرفقة والصداقات الحميمة، فكنا نتبادل الأفكار ونجلس جوار بعضنا لفترات طويلة، ونخوض نقاشات عديدة حول المشاغل والأوضاع السياسية الخاصة والعامة وحتى الحزبية، وبسبب تلك العلاقات ولإنضاج طابعها الرفاقي وتوطيدها، اتخذنا مجتمعين قرارا بتشكيل لجنة أسميناها منظمة المبعدين إلى بدرة. على أن تضم اللجنة الجميع، بمن فيهم أولئك الذين أبعدوا بتهمة الانتماء للشيوعية دون أن تكون لهم صلات حزبية، وإنما اتهامات وجهت لهم بسبب علاقات صداقة ببعض الرفاق الشيوعيين.

في احد الأيام دعينا كمجموعة من الكوادر الحزبية، لاجتماع ليلي في أحد البيوت التي كنا نسكنها كمنفيين، وفي ذلك الاجتماع قررنا تشكيل لجنة قوامها ثلاثة أعضاء وهم كريم أحمد وعبد علوان الطائي وشخص أخر من مدينة الكاظمية لا يحضرني أسمه، وكلفوا بوضع نظام داخلي لمنظمة ديمقراطية عامة، سميت بلجنة المبعدين، تحوي بين عضويتها جميع المبعدين في بدرة،والذين بلغ عددهم وقتذاك ما يقارب المائة والخمسون شخصا، وكانوا بغالبيتهم من الشيوعيين والوطنيين. وأتفق على أن يحتوي ذلك النظام أسس ومنهج التكافل في العمل اليومي وأطر العلاقات بين المبعدين،على أن تنجز اللجنة عملها خلال ثلاثة أيام.

بعد مضي الثلاثة أيام دعينا لعقد اجتماع أخر، الغرض منه كان دراسة ومناقشة ورقة النظام الداخلي التي أعدت. كانت اجتماعاتنا دائما ما تعقد مساءً بسبب منعنا من الحركة ليلا أي بعد الساعة العاشرة، وكان يفرض علينا التوقيع اليومي بالحضور صباحا في مركز شرطة المدينة.

عقد الاجتماع في واحد من تلك البيوت، بحضور مجموعة كبيرة من المبعدين، وطرحت عليهم ورقة النظام الداخلي المتكونة من أربع صفحات بخط اليد، وبثلاث نسخ وزعت على الحضور، وقرأ الرفيق كريم أحمد الورقة على الاجتماع. بعد ذلك دار نقاش حول الورقة،أخذ منا وقتا طويلا، قدمت خلاله اعتراضات جدية بشأن بعض الفقرات، وتواترت حولها ردود الفعل، لتظهر عندها خلافات حادة،ليس فقط بين المدعوين، وإنما بين لجنة صياغة الورقة ذاتها، وتصاعدت حدة النقاشات لتصل حد الخصومة، كان أشدها بين عضوي اللجنة وهما الرفيق كريم أحمد والرفيق عبد علوان الطائي. عندها قرر المجتمعون أخذ استراحة لمدة نصف ساعة لترطيب الجو وجسر الخلافات، ثم العودة لمناقشة الورقة بهدوء، وفعلا عدنا مرة أخرى للمناقشة وتم تدارك الخلافات بتغيير بعض المحتوى غير الملائم في الورقة، ليتم بعدها التصويت والمصادقة عليها، وكان أهم ما جاء في النظام الداخلي ووقع عليه، التكافل والتعاون الرفاقي والتزام الجميع ببنود الورقة.

كانت تلك اللجنة باكورة عملنا الفكري وحافز مهم وفعال لتناول مواضيع ثقافية اجتماعية بالإضافة للسياسية. إثر ذلك، ومع استمرار نقاشاتنا السياسية والثقافية شعرنا بضرورة إيجاد متنفس ثقافي فكري لمجموعتنا التي ضمت العديد من المثقفين.

كنا نعاني من شح وصعوبة الحصول على المجلات والصحف،ومثلها الكتب التي تكون موئلا ثقافيا وروحيا في منفانا البدري. لذا بادرت واقترحت على الرفاق فكرة الحصول على كتب البحوث والتاريخ وجميع ما يتعلق بالمعارف البحثية الأدبية والعلمية، وقد شخصت منها كتب السيدين عباس العزاوي وعبد الرزاق الحسني لغناها البحثي والمعرفي. وفي أحد لقاءاتنا اليومية وبعد أن عرضت على الرفاق بعض الأفكار للحصول على تلك المصادر،كلفت شخصيا بمخاطبة السيد عبد الرزاق الحسني برسالة مفصلة ترسل له عبر البريد، نطلب فيها مؤلفاته البحثية. بعد كتابة الرسالة، أرسلتها على عنوانه في المجمع العلمي العراقي، وكنت قد وجدت العنوان مطبوعا على أحد الكتب. جلست وبعناية فائقة ودونت رسالة وجهتها له مباشرة، قلت فيها بعد التحية (نحن مجموعة من المبعدين إلى مدينة بدرة، نود أن نتابع نتاجكم البحثي الفكري، ولكننا نفتقد الكيفية التي تمكننا من الحصول عليه، لذا نحن مستعدين أن ندفع أي مبلغ تطلبه، إن استطعت تزويدنا بمجموعة من كتبك القيمة).

لم يمض غير أسبوع، حين رجع الجواب من السيد الحسني شاكرا اهتمامنا، وأرفق بالرسالة قائمة بالكتب وأسعارها، ومنها كتابه القيم عن ثورة العشرين. كانت فرحتنا كبيرة لحصولنا على هذا الجواب، الذي يدل على تفاعل السيد الحسني مع رغباتنا. مباشرة وافقت مجموعتنا على ما جرى بيني وبين السيد عبد الرزاق الحسني من مراسلات. ولم تمض غير فترة قصيرة حين وصلت من السيد الحسني رزمة تحتوي جميع الكتب التي طلبناها، وأرفق معها قائمة بمبالغها، كانت أقل ثمنا بكثير مما يباع في الأسواق، عندها قمنا بجمع المبلغ وتحويله لصالح السيد الحسني. وللحقيقة كانت ردود السيد عبد الرزاق الحسني على رسائلنا كيسة ولطيفة، وتظهر تعاطفه الشديد معنا، فمثلا عدا كلماته التشجيعية، كان يرسل خمسة كتب ليحتسبها ثلاثة.

لم يتوقف جهدنا عند هذا، بل طلبنا من جميع الرفاق، وعرضنا عليهم مقترح الطلب من أهاليهم حين يأتون للمقابلة، أن يجلبوا معهم كتبا، وما كانت الشرطة لتمانع ذلك، لذا أصبحت لدينا مكتبة عامرة بشتى أنواع الكتب، ويسمح باستعارتها من قبل الجميع.

كانت هذه الكتب نافذة جديدة فتحت لنا عالما ثقافيا غنيا، أمدنا بالكثير من المعرفة في عالم النفي والإبعاد، وكان الإقبال على تلك المجموعة القيمة من الكتب شديدا من قبل الرفاق. في ذات الفترة وثمرة من ثمار العمل التضامني التكافلي للمبعدين، وخلال نقاشنا اليومي، قررنا إصدار نشرة تكتب باليد، وانصبت فكرتنا في البداية على نشرة جدارية، ولكن المقترح لم ينل رضا الغالبية، لذا قررنا أن تكتب باليد وتستنسخ بعدد محدود، وتوزع على المبعدين للتداول،عندها بحثنا عن الذين يمتلكون خطا جميلا وواضحا ليتكفلوا بإعادة كتابة المواد المرسلة إلى المجلة.

باشرنا باستنساخ النشرة بخط اليد وبعدد قليل من النسخ. وظهر العدد الأول منها  وبعنوان يعلو صفحاتها باسم (الشفق). كان عددا زاخرا بالمواد والمعلومة. كتب فيه كاظم حبيب وماجد عبد الرضا وكاظم فرهود وأنا وأخرون، وكانت النشرة غنية بمواضيعها الفكرية. وهي أول مطبوع ينشر فيه دكتور كاظم حبيب مقالا باسمه الصريح وكان بعنوان " قراءة في كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" لستيفن همسلي لونكريك. وقد تذكر المرحوم الدكتور كاظم حبيب ذلك قبل وفاته في ألمانيا بفترة، متأثرا بمرضه العضال.وحسب ما جاء في الورقة التي أرفقها مع بعض كتبه التي أصدرها حديثا وأرسلها لي بتاريخ 15/1 / 2012 حيث قال فيها (إلى الصديق العزيز ورفيق النضال  الطويل، مقرونة بذكريات بدرة وحياة الإبعاد وأول مقال كتبته في حياتي السياسية، نشر في مجلة الإبعاد التي كنت تشرف على انجازها،  ملاحظات {أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث} مع خالص الود والاعتزاز للعزيز د خليل عبد العزيز).

 أصدرنا من النشرة خمسة إلى ستة أعداد كان يتم تداولها بين الجميع بشغف ولهفة كبيرين،وتطورت لتكون بأكثر من عشر صفحات بورق كبير فلسكوب.لذا كان القراء يحثون بعضهم البعض على الانتهاء من قراءتها، لكي تكون القراءة من حصة شخص أخر. وفي ذلك الوقت اجتمعت هيئة التحرير المكونة مني وكاظم فرهود وماجد عبد الرضا واختارتني مسؤولا عن النشرة.وبعد ورود كتاب عبد الرزاق الحسني عن ثورة العشرين، استعاره كاظم حبيب بلهفة، مؤكدا أهميته وغناه المعرفي، وبعد أن قرأ الكتاب، قدم مقاله الموسوم (نظرات في كتاب ثورة العشرين) لينشر في مجلة الشفق.

 كنا وقتها ننشر أسماء الكتاب المشاركين في النشرة التي بات عددها يحوي أكثر من عشر صفحات زاخرة بالمواضيع الفكرية والبحثية. ونالت النشرة استحسان الكثيرين، ودار حول مواضيعها الكثير من النقاشات الفكرية، ووجهت لنا بعض النقود، ولكنا حافظنا على موقفنا بمنع نشر الردود، التي تصل إلى النشرة من بعض قرائها، ولكوننا في مجتمع محدود، وحرصا على محدودية صفحات وطابع النشرة، لذا اقترحنا على القراء، إن رغبوا، التوجه مباشرة إلى كاتب المقال ومناقشته حول موضوعه المنشور دون الرجوع إلينا.

 في إحدى الأمسيات فوجئنا بغارة من مفرزة رجال الأمن والشرطة، تم فيها كبس أعداد من النشرة وأيضا المكتبة، بعد أن فتشوا الدار قطعة قطعة، ومثلها فعلو مع باقي البيوت، وقبض على البعض، كنت واحدا منهم، وكنا جميعا من الذين وردت أسماؤهم في النشرة،وبعد هذه الغارة دار بيننا التساؤل الحارق، من هو الذي وشى بنا؟

في مركز شرطة بدرة احتجزنا لبضعة أيام ليحقق معنا واحدا إثر الأخر، ثم أحيلت أوراقنا إلى حاكم التحقيق الذي قرر إطلاق سراحنا، لحين موعد إجراء المحاكمة.

وكان وجودنا في بيوت المنفى، يعني كفالة حضورنا اليومي لمركز الشرطة. ثم أرسلت أوراقنا إلى المحاكم. في تلك الأيام انتهت فترة إبعادي لمنفى بدرة، ومعي بعض من المبعدين أيضا، أذكر منهم عبدول سوران وهو كردي من الحزب الديمقراطي الكردستاني، كان مبعدا لمدة ثلاثة أشهر، وكذلك حلمي شريف. ولكون مدة إبعادهم قد انتهت أيضا، لذا رافقاني بالترحيل، حيث أُرسلنا سوية إلى التحقيقات الجنائية في بغداد مرة أخرى. في مديرية التحقيقات الجنائية تعرضنا للشتائم والسباب منذ أول وصولنا، ولم يكتفوا بذلك بالنسبة لعبدول سوران، فقد نادوا عليه وأشبعوه ضربا وتعذيبا، أما نحن فقد وجهت لنا فقط شتائم وكلام قبيح.

في اليوم التالي أرسلت مخفورا إلى مدينة الموصل كونها مسقط رأسي، وهناك حقق معي في مخفر الشرطة، وعذبت تعذيبا قاسيا في محاولة لثنيي عن مبادئي، وأخبروني بفصلي من الدراسة بسبب انتمائي للحزب الشيوعي العراقي، وكان هذا مدونا في دفتر الخدمة العسكرية، الذي أحتفظ به لحد الآن. حيث جاء فيه " يفصل من المدرسة لكونه شيوعيا حسب كتاب مديرية الشعبة الخاصة في مدينة الموصل، ويساق إلى الخدمة العسكرية بعد زوال أعذاره"

وفق هذا القرار سفرت تحت الحراسة إلى مدينة البصرة، وسلمت مخفورا إلى أمرية موقع معسكر الشعيبة، وهناك وجدت العديد من الشيوعيين المساقين إلى الخدمة العسكرية وفق قرارات مديريات الأمن في مدنهم.

***

حررها فرات المحسن

 

 

    

 

الدكتور خليل عبد العزيز وفرات المحسن

في المثقف اليوم