شهادات ومذكرات

الإنسانُ الكامل....

مجدي ابراهيممن مولده المبارك حتى الانتهاء إلى الرفيق الأعلى عاش، صلوات الله وسلامه عليه، حياته في بعدها الزمني المحدود بزمان ومكان، فكان كاملاً مكمّلاً في خصاله الشريفة ومناقبه العفيفة. لم تصف اللغة، ولن تستطيع أن تصف، وصفاً من أوصافه على التحقيق؛ لأن الكمال فيه لا يوصف بلفظ ولا يحيط به تصوّر محدود، وبخاصّةٍ إذا كان الكامل يجسّد صفة إلهيّة لا وصف لها إلا النور الذي يشملها ويضمّها.

محمدٌ رسول الله، ولكنه مع ذلك هو قبضة النور. محمدٌ المُبلغ رسالة الله للعالمين، هو الرحمة المُهداة من قبل الله إلى خلق الله، ولكنه مع ذلك لولاه لم تُخلق الدنيا من العدم، لولا محمد في البعد الروحي لا البعد الزمني ما خُلقت الدنيا من العدم. وجوده الروحي أسبق من وجود جميع الأنبياء، ومددُ الأنبياء وعلومهم ومعارفهم من مدد نوره السابق.

ولمّا أن ولد صلوات الله عليه في الفترة الزمنية التي وجدت في زمانها ومكانها، تمثل النور فيه كاملاً فظهرت حقيقته النوريّة الباطنة في مظهره الكامل، ولكنها مع ذلك لم تكن لتظهر فيه ولا في غيره من إخوانه الأنبياء إلّا لإظهار الحقائق الإلهيّة.

ومع أنه السابق للخلق نوره إلا أن الأنبياء أسبق منه في الوجود الزمني، ولم يسبقوه في الوجود الروحي، غير أنه خاتمهم. خاتم هذا الموكب الخالد، موكب النور الذي تقدّمه وختمه في نفس الحال.

لقد سمّاه القرآن الكريم داعياً إلى الله بإذنه، وسمّاه سراجاً منيراً، فالدّعوة إلى الله على الإذن خاصّةُ محمد رسول الله كما كانت خاصّة الأنبياء جميعاً من قبله، فهو يدعو إلى الله بالإذن المخصوص بالرسالة، فهو رسول مبلغ للرسالة، مأذونٌ بالدعوة إلى الله على بصيرة لا بل على وحي الشريعة والتنزيل.

هذا بعدٌ زمني محدود بزمان ومكان، المساحة فيه مع كمالها محصورة في تاريخ المولد والنشأة والدعوة ثم الانتقال إلى الرفيق الأعلى، لكنه في نفس الوقت رحمة للعالمين تتجاوز حدود الزمان والمكان والمدّة الزمنية التي عاشها في حياته الشريفة المباركة بمدد لا ينقطع ولا يزول، هو مدد النور المحمّديّ : أوليّته وقدمه.

ومن أجل هذا، سمّاه سراجاً منيراً، سراجاً منيراً للكون من الأزل إلى الأبد. الإنارة سرمديّة لا تتوقف على فترة زمنية محدّدة بزمانها ومكانها، فإذا السّراج المنير هذا لا ينصرف إلى البعد الزمني وحده بل يتعدّاه إلى البعد الروحي الذي لا ينقطع بانقطاع فترة النبوّة، فهو الذي منه يشع النور ليملأ الأرض والسّماء كما يملأ القلوب والأرواح والأسرار واللطائف والأذواق، ومنه تكون الهداية يتوخّاها الصُّلحاء، وفي التعلق به يكون الهُدى والكمال والرفعة كما تكون علوم الأولياء.

لم يكن عُرفاء الإسلام بالذين يستقون من مشكاة الأنوار نوراً غير نور النبوة؛ ليمدُّهم بمدد موصول لم يكن لينقطع ولا ليزول في حين انقطعت النبوة بوفاته على التحقيق، وبقى منها الميراث وهو الأبقى والأدوم، يدور في فلك إظهار الحقائق الإلهيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولم يكن ميراث النبوة سوى هذا المدد الدائم من فيض فضل نوره عليه السلام، سواء كان علماً أو خُلقاً أو نوراً أو ولاية وتحقيقاً.

وسمّاه القرآن الكريم الإمام المبين؛ إذ أحصى كل شيء فيه، (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). ولم يكن المجيئ سابقاً في الترتيب على المعجزة إلا بفضلٍ تقدّمه سبق النور (قد جاءُكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) فالنور أسبق في الترتيب من المعجزة التي هى الكتاب المُبين، إذا كان النور التام الكامل هو محمد رسول الله.

وسمّاه القرآن الرحمة المُهداة وأهداها منه ومن خلاله للعالمين: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ ممّا يجمعون)؛ ففضل الله هو القرآن، ورحمته هى سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.

وعلى هذا البعد الروحي جاز للذين عرفوه أن يصلّوا عليه بمطلق الأمر الإلهي، وبمطلق استمراريته في قوله "يصلون": الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرارية، بمثل هذه الصيغة: (اللّهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتيٍ والسرُّ السّاري سرُّه في سائر الأسماء والصفات، وعلى آله وصحبه وسلم). وفي الصلاة عليه اتصال باليقين الذي لا شك فيه. فلا يتصل متصل إلا من طريق الصلاة عليه، ولا ينقطع منقطع وفي قلبه محبته وموالاته على تحقق المنهج وموافقة الاتباع.

تحتاج الحفاوة بسيّدنا النبيّ إلى لطيفة ربّانية ملآنة بالمحبّة له. والمحبّة اتّباع : (قُل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله). ولا يجب في كل ما كان محبوباً أن يكون محبوباً لشيء آخر وإلا لدار أو تسلسل، بل لا بدّ أن ينتهي إلى ما يكون محبوباً لذاته. وعليه؛ فالاستقراءُ يدلُّ على أن معرفة الكامل من حيث هو كامل يوجبُ محبّته، صلوات الله وسلامه عليه.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم