شهادات ومذكرات

النحات التونسي حلمي الناجح.. مبدع مسكون بهاجس الغموض

محمد المحسنوالرغبة الجامحة في القفز على المألوف..

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ النحّات ليس ناسخا للطبيعة بل سائلا إيّاها ومتحاورا معها وثائرا ضدّها وعندما ينذهل بها يتقمّصها لذلك لا يمكن للنحاّت الفنّان أن يشعر بالرضا الكامل والمتواصل... ما دام فنّه يستحق إعمال العقل فيه، كما يستوجب النقد، ذلك أنّ رؤية الفنّان للأشياء والحياة تعلو على طابعها المادي، فهو يتجاوز المرئي ليعبّر عما لا يرى وما لم يسبق وصفه والتصريح به، لكأنّه صانع ماهر يقبل طوعا أو كرها على خلق الجديد المغري من مواد قديمة وعادية.. وقد تألّق حلمي الناجح في النحت، لأنّه كان يعشق النحت.ولم يكن يصبو لإرضاء مقتني منحوتاته ولا الإمتثال لمذهب ايديولوجي أو لتأدية واجب..

كما لم يكن - يلهث- خلف المعارض إيمانا منه بأنّ فعل النحت مشفى للذات والذهن والجسد، وغاية منشودة لكلّ فنّان رفيع الوجدان، مشرئب العنق إلى الإنعتاق، البهاء، العطاء، الجمال..والتجلي..

وإذا كان من الضروري أن يكون إلتزام الفنّان كاملا لكي يسهل عليه القبض على ناصية المفاهيم الثقافية، فإنّ سعادته بإنجاز عمل ما لا يمكن أن تكون كاملة ودائمة وهي الحالة النفسية التي يسمّيها حلمي الناجح ب«السعادة القلقة» ذلك أنّ قانون التطوّر الذّي يعتبر بحقّ العمود الفقري للثقافة يجعل من تلك السعادة ألعوبة في يد القلق الفكري.

 فما هو مصدر إعجاب الآن يصبح بعد حين شيئا عاديّا مطروحا في وجه نقيض له.ومن النقيضين يتولّد تأليف جديد له نفس المصير..

ولن يصبح الفنان فنانا بالمعنى الثقافي لهذا الوصف في نظر حلمي الناجح إلا متى اعترف أوّلا بهذه النسبيّة التطوّرية ثمّ بتمثّلها في نفسه وإحلالها محلّ الدم والأعصاب في جسمه..

 الطريق إلى المشهد الإبداعي للفنان التشكيلي:

 ومن هنا فإن الطريق إلى قراءة -المشهد الإبداعي-للفنان حلمي الناجح من حيث هو مزيج بين المعاناة وبناء الشخصية ليست سهلة ومعبّدة..وليست آلية، إنّها صياغة للخطاب الجمالي نفسه ولجمالية الفعل الفنّي لدى هذا المعلّم.فهي تعتمد على إحداث أشغال قرائيّة وتأويليّة معقّدة من أجل تحويل الملامح التشخيصية والتمثيليّة للشكل إلى معطيات رمزيّة دون الإخلال بمستوياتها الجمالية.

ونراهن على ثقافة تاريخ الفن وتراكماتها حتى نجد ما يساعدنا على تأصيل البحث على رمزيّة ما للتشخيص وترسيمها داخل تاريخ اللغة التشكيلية ومن ثمة حتى لا يغادر البعد الرمزي مستوى- اللوحة الفنيّة -المستقلّة في تعريفها الشكلاني (مساحة من أشكال وألوان حسب موريس داني)..

كمن يتكلّم صامتا ينحت حلمي الناجح عن طريق ما يحذفه يتبع خطا وهميا إلى حيث علامته.

قبر الهناءة: هناك حيث بلاغة الصمت لا تستر بل تشف.ولا يفسد الوضوح غموض العاطفة.فما يلمسه هذا النحات من الأشياء التي ينحتها بقصد مسبق هيأتها الحياة تلك الهيئة التي تقيم بعدا عن النظر المباشر في الفعل أو في الدلالة.

العسل بالنسبة لدودة القز أو العطر بالنسبة للوردة.

هناك يكون النحت فرصة للقفز على ما نراه ليكيلا ننحته.وفرصة لكي تتخلّص الأشياء المنحوتة من بعدها الرمزي لتحضر كما هي من غير تواطؤ بصري مسبق. الروح تسبق المعجم. الإزميل والمطرقة : أدواته إزميل ومطرقة لكنها أبدعت أشكالا حاكت الحياة كما رآها ببصيرته فنفخ فيها من روحه المسكونة بهواجس القلق والخوف والتشظي ولكن من دون التخلي عن الحياة القاسية بدليل منحها قبسات من نفسه..

حلمي كما أعرفه يجيد الإرتماء في البرزخ الفاصل بين الواقع الصادم والأسطورة المحببة فمن الحصوة القاسية والكرة الأرضية ونهايتها المقضومة أو المشؤومة، ونهاية اللحن الإنساني، أو الرّوح الملهمة في القيثارة المغروسة في عمق الأرض كسكين حادة، ننتقل إلى «أدونيس وعشتروت» وقصة الحب الخالد والهالك بينهما، والخيول البيضاء الحالمة المحلقة في الفضاء الفسيح المنفلت من كل قيد، وننتهي في حضن الأم الرؤوم والطفولة الوادعة، وكذا في العودة إلى الحضارة الفرعونية وعظمة خلودها. هكذا هي لوحات الفنان حلمي الناجح، وإنّي أراها تنطق بلسان حجري، وما أعمق صمت الحجر وبرودته وقسوته حين يشهر»عودي إلينا أيتها الأم-الأرض فنحن أبناؤك» هكذا -حلمي-كما أعرفه..

قاده النحت من حيث لا يدري إلى نوع من التبتل المترف والإكتفاء الزاهد، وقناعة نبيلة لا تفزعه المظاهر الخارجية لأنّه مطلع على خوائها.

عاد-بالأمس البعيد- إلى موطنه الأم(تطاوين)- بعد رحلة تسكّع في ربوع الشمال-عاد محمّلا بمعطيات رمزية تتكئ على دراية وثقافة بصرية وسيطرة تامة على خامة الحجر، وتأكّد ميله للبناء الهندسي الصرحي في تعامله مع الكتلة واستلهامه لتجليات الأنثى التي بدت-في إحدى منحوتاته-كزهرة اللوتس في اندفاعها إلى أعلى وعلاقتها بالفضاء الخارجي.

حاولت-ذات مرّة- استنطاق إحدى منحوتاته فلم أفلح..استعصى علي الأمر (الإقرار بالعجز أمام عظمة الفنان فضيلة)-فحلمي الناجح- فنان مسكون بهاجس الغموض، وتسكنه الرغبة الجامحة في القفز على المألوف والمعتاد، لذا إلتقت أفكاره مع خامة الحجر المعاند، فجاءت ابداعاته في النحت مفعمة بحس المصور التجريدي الذي يحاول إبراز القيم الجمالية للخامة عن طريق ثراء العلاقات التشكيلية، فهو يصقل الأشكال ويهذبها ويحورها برؤية تجريدية مع احتفاظها بكل العلاقات المرتبطة بالموضوع الأصلي..

وهنا تتجلى عبقرية الإبداع..

إذن هو دائما حلمي الناجح.من أقاصي الشمال إلى ربوع الجنوب حلمي ذاته وهو يطارد شبحا يسكنه.

شفقته التي تتسلّل من عينين متعبتين، هلعه وهو يهرب بيديه من الدرس. حلمي المقيم في ذعره : حلمي يرى بيديه ما يلمسه بعينيه. هو دائما المقيم في ذعره من أن يكون ذاته.. ذاته التي لم يتعرّف عليها بعد.. ولكن..ذعره ارتطم هذه المرة-بفجيعة-لعلها قدره الإستثنائي الصاعق!..

لم يكن يخشى الموت فلطالما قال لي بسخرية موغلة في التحدي:» إن زارني الموت يوما، فسأبتسم له..وفي هذه الحالة سيفرّ منّي»..

خوفه الوحيد يكمن في حرصه على ما أبدعت يداه وأقصد-أعماله الفنية-التي أنجزها بحبر الرّوح ودم القصيدة..تلك الإبداعات الفنية (المنحوتات) تسلّل إليها ذات يوم وفي غفلة من الجميع -شبح لئيم-سكب على جزء منها-دهنا أكثر بياضا من العدم-ودمّر بعنف حفاة الضمير جزءا آخر..

هذا ما حدث للفنان-حلمي الناجح-وهو يرى-ما لا نرى-..

!..يرى بعينين متخمتين بالآسى عصارة الروح وهي تسكب دمع سخيا..بحجم المطر

***

محمد المحسن - ناقد تونسي

 

في المثقف اليوم