شهادات ومذكرات

احمد حسن الزيات، عميد النثر الفني في العصر الحديث....

محمود محمد عليفي النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري شهدت مصر نهضة أدبية وفكرية، شملت كل فنون الأدب وألوان الفكر، وازدانت الحياة بكوكبة من فحول الشعراء، وكبار الكُتّاب، وأئمة اللغة والبيان، وأساطين العلم والفكر، وقادة الرأي والتوجيه، ودعاة التربية والإصلاح، وجهابذة الفقه والقانون، ونجوم الصحافة والأدب، واجتمع لها من هؤلاء الأعلام ما لم يجتمع لها في قرون طويلة، منذ أن أصبحت مصر إسلامية الوجه، عربية اللسان.

وكان أحمد حسن الزيات-   " 1885- 1968" واحدًا من هذه الكوكبة العظيمة التي تبوأت مكان الصدارة في تاريخ الثقافة العربية ؛ حيث وَلَج إلى هذه الكوكبة ببيانه الصافي، وأسلوبه الرائق، ولغته السمحة، وبإصداره مجلة "الرسالة" ذات الأثر العظيم في الثقافية العربية صار يمثل عملاق من عمالقة الأدب المعاصرين، وصاحب مدرسة نهل الأدباء والمتأديون من معينها بعد منتصف القرن الحالي.

لقد سطر العديد من المقالات في الدعوة إلى التحرير من قيود الماضي، والاهتمام بدراسة الأدب بطريقة منهجية منظمة، دون إهدار تراثنا الإسلامي العظيم، له مقالات ممتعة في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع، عامرة بألوان الفكر النير، والرأي السديد، تفيض بإحساس دافق، وشعور متألق، وحماس هادر  فكان بحق بمثل أحد كبار رجال النهضة الثقافية في مصر والعالم العربي، رابع الثلاثة الكبار: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد.

لكن الأديب العراقي جمال الدين الألوسي يذهب أبعد من ذلك فيقدمه على هؤلاء الثلاثة، إذ يقول: «الزيات أحد الكُتاب القلائل، الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون ويعالجون أدبها عن فهم وإدراك، أمثال العقاد، والرافعي، وطه حسين، ولكن الزيات أقوى الثلاثة أسلوبا، وأوضحهم بيانا، وأوجزهم مقالة، وأنقاهم لفظا. يُهَنْدِسُ العبارة قبل أن يُسطِرها على الورق، ويصطفى الكلمة قبل أن يرصفها مع لِداتها، يُعنى بالازدواج، ويُغرم بالتجنيس والطِّباق. وعند الكثرة الكاثرة هو أكتب كُتاب المقالة الأدبية المثالية، وأشد الكُتاب التزاما بالأساليب العربية المُشرقة، وأكثرهم عنايةً باللفظ الأنيق للمعنى الرفيع، يُعطى الكلمة حقها، ويُقدِرها حق قدرها».

ويميل إلى الرأي السابق كثيرا صلاح حسن رشيد في كتابه "مجمعيات أحمد حسن الزيات" فيقول :"إنه كان عميداً للأساليب العربية في القرن العشرين، فهو مدرسة عريقة في البلاغة الجديدة، والتفنُّن الصياغى، والأداء المُحكم، والتجديد في الألفاظ والمعاني، ومُصاولة فحول العربية، وبلغائها أمثال عبد الحميد الكاتب، والجاحظ، وابن العميد، وأبى حيان التوحيدي، وغيرهم من أعلام الكتابة العربية، حتى أصبح ركناً ركيناً من أعمدة الأدب الحديث".

ولد الزيات في قرية كفر دميرة القديم التابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية بمصر في 16 جمادى الآخرة 1303 هـ/2 إبريل 1885 م، ونشأ في أسرة متوسطة الحال، تعمل بالزراعة. تلقى تعليمه في كتاب القرية، فحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة، ثم أرسل إلى أحد العلماء في القرية المجاورة ليتعلم القراءات السبع وأجادها في سنة واحدة.

ثم التحق الزيات بالجامع الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وظل فيه عشر سنوات، وتلقى في أثنائها علوم الدين واللغة العربية، إلا أنه كان يفضل الأدب فتعلق بدروس الشيخ سيد علي المرصفي الذي كان يدرس الأدب في الأزهر، كما حضر شرح المعلقات للشيخ محمد محمود الشنقيطي، أحد أعلام اللغة العربية البارزين آنذاك.

واتصل بطه حسين، ومحمود حسن الزناتي، وكانوا يقضون أوقاتا طويلة في دار الكتب المصرية لمطالعة عيون الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء. ولكن لم يكمل الزيات دراسته بالأزهر وإنما التحق بالجامعة الأهلية فكان يدرس بها مساء ويعمل صباحا بالتدريس في المدارس الأهلية. والتقى الزيات في عمله بالعديد من رجال الفكر والأدب في عصر النهضة، مثل: العقاد، والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد.

ولقد اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسا للقسم العربي فيها في عام 1922 م، وفي أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وكانت الدراسة بها ليلاً، ومدتها ثلاث سنوات، أمضى منها سنتين في مصر، وقضى الثالثة في فرنسا؛ حيث حصل على ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة 1925 م. في عام 1929 م اختير أستاذا في دار المعلمين في بغداد، فترك العمل في الجامعة الأمريكية وانتقل إلى هناك.

ويعتبر الزيات ممن لهم الفضل في التأليف عن تاريخ الأدب العربي في وقت لم يكن التأليف في هذا المجال قد نضج، إذ أخرج كتابه " تاريخ الأدب العربي " سنة 1335 هـ / 1916 م. وصدر سنة (1335 هـ= 1916م)، ثم أصدر “في أصول الأدب” سنة (1352هـ= 1934م)، و"دفاع عن البلاعة" سنة (1364 هـ= 1945م) وهو كتاب في النقد الأسلوبي، قصره الزيات على بيان السمات المثلى للأسلوب العربي..

ولكن أعظم أثر أدبي للزيات هو مجموعة مقالاته التي كان يفتتح بها كل عدد من أعداد رسالته. وهذه المقالات التي كانت تطالع القراء كل أسبوع في صدر كل عدد من "الرسالة"، قد جُمعت في مجلدات أربعة، كما أنَّ الرسالة التي استمرت أكثر من عشرين عاماً قد ضمَّت في أربعين مجلداً.

وللزيات علاوة على هذه الأجزاء الأربعة التي تضم مقالاته الافتتاحية للرسالة مقالات أخرى نشرها في غير الرسالة بعد إغلاقها، وهذه المجموعة من المقالات قد جمعت في مجلد خامس بعنوان "في ضوء الرسالة"، وتأتي أهمية مقالات الزيات من كونها تمثل أغزر كتاباته، كما تمثل إسهامه الواضح في النهوض بفن المقال أولاً، ثم تحدد وجهته النثرية وطريقته الفنية ثانياً، أما وجهته النثرية، فهي الوجهة الأسلوبية، التي اتجه إليها قبله المنفلوطي، ثم اتجه إليها معه طه حسين والرافعي، وهي الوجهة التي تقابل الوجهة الفكرية، التي اتجه إليها أولاً لطفي السيد، ثم أصَّلها من بعده العقاد وهيكل والمازني.

ولم يقصر جهوده على التأليف وكتابة المقالات الأدبية والنقدية، بل كان له دور في الترجمة، فترجم من اللغة الفرنسية إلى العربية "آلام فرتر" لجوته سنة ( 1339هـ= 1920م) ورواية "روفائيل" للأديب الفرنسي لامرتين، وذلك في أثناء إقامته بفرنسا سنة (1344هـ= 1925م).

وقد عالج الزيات في أدبه كثيرًا من الموضوعات السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين الدين والتضامن الاجتماعي، وحارب المجالس الوطنية المزيّفة، وقاوم المحتل، وعبّأ الشعب لمقاومته، ورسم سبل الخلاص منه.. يقول الزيات: “إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل، وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار”.

وقد شغل بعض المناصب العلمية الشرفية منها: عضويته في مجمع اللغة العربية بمصر، والمجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع العلمي العراقي في بغداد، ولجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر، كما رأس تحرير مجلة الأزهر في الخمسينيات.

وقد ظفر الزيات بتقدير الدولة فمنحته جائزتها في الأدب سنة 1373 هـ / 1953 م عن كتابه " وحي الرسالة " الذي يجمع مقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلة الرسالة في مجالات النقد والأدب والاجتماع والسياسة وتميزت تلك المقالات بأسلوبها الأدبي الرفيع، الذي يعيد إلى الأذهان ما كانت عليه الأساليب العربية القديمة من سمو ونقاء.

ولما عُدل قانون جوائز الدولة، وأصبحت جائزة تقديرية، لا عن كتاب، بل صارت تتويجا لحياة كاملة، كرمته الدولة مرة أخرى فمنحته سنة 1382 هـ / 1962 م جائزة الدولة التقديرية في الأدب، كما اختارته عضوا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.

وظل الزيات محل تقدير وموضع اهتمام حتى وفاته في القاهرة في صباح الأربعاء الموافق 16 ربيع الأول 1388 هـ/12 مايو 1968 عن عمر ناهز 83 عاما. وقد نقل جثمانه إلى قرية كفر دميرة ودفن فيها.

على أن حلم الزيات الذى لم يتحقق طيلة حياته، وأدركه الموت قبل تحقيقه، أبصر النور العام الماضي فقط، بعد نحو 53 عاما من وفاته، فقد ظل الأديب الراحل يتمنى أن يكتب سيرته الذاتية في حياته، وشرع في كتابة مقالات كثيرة لتكون بذرة لهذا الكتاب، لكن مؤلف الكتاب د. عبدالرحمن بن حسن قائد تولى هذه المهمة صلةً لرحم الأدب، وبرًّا بتحقيق أمنية الزيات هذه التي ظلَّ يتمنَّاها نحو أربعة عقود، فسماه "ذكرى عهود أشلاء سيرة ذاتية للأديب الكبير حسن الزيات" حررها، ورتبها على عهود حياته، ونظَّمها واعتنى بها كما كان يريد أن يفعل أو كما لعله قد فعل، حتى استوى كتابًا مشرق الوجه، من أجمل ما تتمنى قراءته في أدب السيرة الذاتية البليغة المعاصرة.

أخيراً، هذا هو "الزيات"، وهذا هو أثره الكبير في ريادة أدبنا الحديث وفي نهضة النثر وفي ازدهار فن المقال، وغني عن البيان أن وجهة الزيات الأسلوبية وطريقته الفنية يمكن أن تقدم أعظم الفائدة إلى كل من يريد أن يصقل قلمه ويحسن كلمه ويسمو بأسلوبه، وأثر الزيات في ذلك كأثر رفاقه من الكتاب الأسلوبيين، الذين لا غنى عن إبداعاتهم للمتأدبين والمحررين والمشتغلين بالكلمة العربية الجليلة، ومن يريدون أن يبدعوا نثراً فنياً بلغتنا الجميلة.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي أستاذنا " أحمد حسن الزيات " حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأديب الأريب ولعل هذا يتوافق مع كلمته الشهيرة "لحم الضأن تأكله الضباع وتبيت الأسود جوعانة"، فكان كل هذا بمثابة عوامل أسهمت في تكوين صورتنا عنه والتي ستظل طوال العمر صورة الأديب الأريب الذي رغم هذه المأثر المتعددة وغيرها لم ينل حقه الطبيعي من التقدير والشهرة وهما اللذان تركا لأنصاف الأساتذة فلم يعرفه الكثيرون من الأجيال الصاعدة  ؛ فتحية طيبة لأستاذنا " أحمد حسن الزيات " الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للأديب الأريب الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء؛ وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله أحمد حسن الزيات ، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.................

المراجع:

1- نعمة رحيم العزاوي ـ أحمد حسن الزيات كاتبًا وناقدًا ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1986م.

2- نعمات أحمد فؤاد ـ قمم أدبية ـ عالم الكتب ـ القاهرة – 1984م.

3- محمد مهدي علام ـ المجمعيون في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ 1406 هـ= 1986م.

4- أحمد نمام: أحمد الزيات.. صاحب “الرسالة” (في ذكرى وفاته: 16 ربيع الأول 1388هـ)، اسلام أون لاين.

5-  ــ محمد القزاز : أحمد حسن الزيات.. «الرســـالة» لا تزال تقرأ، مقال منشور بالأهرام  في 31 مارس 2021.

6-  عبد العزيز بدر القطان:أحمد حسن الزيات.. إمام النثر العربي في العصر الحديث، 25 آذار 2021 18:39

 

في المثقف اليوم