شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (27): جورج ستگلر

3705 ستكلر(1911 – 1991) George Stigler

هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة شيكاغو وأحد القادة البارزين في مدرستها الفكرية، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1982. وهو الباحث الذي تميزت كتاباته بالعمق ووضوح المعنى، حيث انصب جل اهتمامه على محاولة فهم الواقع الاقتصادي والوقوف على اسباب مشكلاته الاساسية والسعي لمعالجتها بالحلول العملية المعقولة، مبتعدا في ذلك عن الانشغال بتصميم النماذج الرياضية لتلك الحلول وتعقيداتها واغترابها عن اغلب  القراء بما في ذلك طلاب العلم واساتذته.

ولد جورج عام 1911 في رنتن، وهي ضاحية من ضواحي مدينة سياتل- ولاية واشنطن في اقصى الغرب الامريكي.  هاجر والداه في ايام شبابهما وقبل ان يتعرفا على بعضهما الى الولايات المتحدة خلال السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر. جاء والده من بڤـيـريا Bavaria وجاءت والدته مما كان آنذاك يدعى المملكة النمسو-هنگارية. كان لقاؤهما بالصدفة في أمريكا فارتبطا بعلاقة حب وتزوجا وانجبا جورج، طفلهما الوحيد، الذي تعلم لغة االابوين الألمانية وبقي يتكلمها لمدة طويلة رغم انه تعلم الانكليزية في المدارس الامريكية.

أكمل جورج كل مراحل دراسته في سياتل وتخرج في جامعة واشنطن عام 1931.

بعد الجامعة مباشرة حصل على فرصة ثمينة للالتحاق بجامعة نورثويسترن الاهلية في إيڤـانستن - إلينوي لاكمال الماجستير في البزنس MBA.  في عام 1933  حصل على منحة دراسية من جامعة شيكاغو لدراسة الدكتوراه، والتي نالها عام 1938. في عام 1936 وعندما كان ما يزال طالبا في مرحلة الدكتوراه في جامعة شيكاغو جاءته فرصة للتدريس في كلية آيوا الحكومية لمدة سنتين. وهناك تعرف فيها على الاقتصادي المعروف تي دبليو شُـلتز. وحين اكمل الدكتواره ذهب للتدريس في جامعة منيسوتا بين 1938 و 1946. ومنها حصل انتدابه خلال سنوات الحرب الثانية للعمل في قسم البحث الاحصائي التابع لجامعة كولومبيا الذي كان من ضمن فريق العمل المشرف على مشروع منهاتن العسكري الامريكي- البريطاني- الكندي المشترك لانتاج القنبلة النووية الاولى.  حين وضعت الحرب اوزارها وبعد انتهاء مدة عقده مع جامعة مينسوتا ذهب للتدريس في جامعة براون في پروڤـدنس- ولاية رود آيلند، ومنها عاد الى كولومبيا استاذا من 1947 الى 1958، علما انه امضى السنة الاخيرة منسّبا الى مركز دراسات علوم السلوك الذي التقى من خلاله بزملاء اصبحوا رفاقا للطريق فیما بعد كـ كنيث أررو وروبرت سولو وملڤـن ردر.

خلال الخمس سنوات التي امضاها ستگلر في جامعة شيكاغو، تتلمذ على يد رهط من كبار الاقتصاديين من اتباع مدرسة شيكاغو في الفكر الاقتصادي،  وتأثر بزملاء متفوقين اصبح لهم شأن كبير في عالم الفكر الاقتصادي فيما بعد. وكان محظوظا ان يكون الاستاذ المشرف على اطروحته الاقتصادي الشهير فرانك نايت. يقول ستگلر في سيرته الذاتية التي قدمها الى لجنة جائزة نوبل:

" حين دخلت جامعة شيكاغو، كان في قسم الاقتصاد ثلاثة من عمالقة هذا العلم: فرانك نايت، الفيلسوف المتميز بنزوعه لمذهب الشك المعرفي والذي كان منشغلا آنذاك بجداله الطويل مع المدرسة النمساوية. وكان هناك جيكب ڤــاينر، تلميذ التاريخ الاقتصادي المسحور بمنطق التوازن والانضباط الفكري، والثالث كان هنري سمنز الذي اعتنق العقلانية اللامركزية في الاقتصاد. وكانوا قد أثروا على تكويني الفكري تأثيرا بالغا. هذا اضافة الى الاساتذة الآخرين والطلاب الزملاء الذين اخص منهم ملتن فريدمن و دبليو ألن والس. يواصل ستگلر وصف قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو بأنه بؤرة فكرية تخمرت فيها الكفاءات واشتغلت فيها العقول النيرة التي لم أكن قد رأيتها من قبل، الامر الذي يفسر انجذابي لها وتأثري بها".

في عام 1963 اصبح ستگلراستاذا متميزا بموجب منحة چارلس وولگرين للتميز. وفي نفس العام انتخب كزميل لجمعية الاحصاء الامريكية، ورئیسا لجمعية مونت پلرن للفترة 1976-1978. في عام 1977 أسس "مركز دراسات الاقتصاد والدولة" في جامعة شيكاغو، وفي عام 1987 مُنح الوسام الوطني للعلوم.

قدم ستگلر عدة مساهمات مهمة يقع اغلبها في نطاق الاقتصاد التطبيقي، كاقتصاديات المعرفة والمعلومات المتوفرة لدى المستهلك، واقتصاديات النظم والاجراءات والقوانين التي تضعها الحكومة لتنظيم وضبط النشاط الاقتصادي، واقتصاديات المنشأة الصناعية وسلوك الانتاج فيها. كما يحسب له طرقه لمواضيع جديدة وافكار واعدة اثبتت اهميتها فيما بعد حيث تلقفتها وطورتها الاجيال اللاحقة من الاقتصاديين.

جاءت أولى مساهماته الهامة في بداية عقد الستينات في موضوع جديد هو المعلومات واهميتها الاقتصادية. وكان قبل ذلك قد انشغل بنشر موضوعات اقتصادية مألوفة عن السعر والكلفة والانتاج والتوزيع. ففي عام 1961 نشر في مجلة الاقتصاد السياسي مقالته الرائدة الموسومة "اقتصاديات المعلومات" والتي هيأ فيها الفرصة لبقية الاقتصاديين أن يأخذوا ألف حساب لتأثير الاعلانات التجارية وما تطرحه من معلومات بقصد ان تفضي الى زيادة المبيعات. وكان طرق هذا الموضوع قد آل الى دراسة كلفة التقصي والبحث عند المستهلك وتأثير ذلك على المنتج وقرارات التسعير. وكذلك تأثيرها على مدى سعي المستهلك للحصول على نوعية افضل للسلع والخدمات وطبيعة ودور المعلومات التي يستقيها المستهلك والمنتج معا. وفي هذا السياق نشر مقالة اخرى عام 1962 بعنوان "المعلومات في سوق العمل" تبعها بكتاب "المفكر والسوق" عام 1964 وهو عبارة عن مجموعة دراسات نشرها عام 1962 و1964، و"المواطن والدولة" عام 1975، و"الاقتصادي كواعظ ومبشر" عام 1982.

في عام 1962 جاءت مساهمته الهامة الاخرى بدراسة مشتركة مع الاقتصادية كلير فريدلاند عن قطاع الكهرباء نشرت في مجلة "القانون والاقتصاد" وكان عنوانها مثيرا، "ما لذي يريد ان يقننه المقننون؟" وفيها كان قد قلب الطاولة على دعاة تقنين النشاط الاقتصادي وتشريع النظم والقوانين الحكومية لكي تكون وسائل فعالة لتصحيح المواضع التي تفشل فيها آلية السوق الحرة لخدمة المصلحة العامة. وكان في هذه الدراسة قد خلص الى القول بأن تشريع الحكومة للنظم والقوانين التي يفترض ان تنظم النشاطات الاقتصادية غالبا ما يبدأ بهدف نبيل لخدمة المصلحة العامة لكنه قد ينتهي أما بالفساد الحكومي واهمال تحقيق الهدف أو أسوء من ذلك وهو عكس الهدف لكي يخدم المنتجين بدلا من خدمة المستهلكين. وبهذا فانه في هذه الدراسة أنهى وهم خدمة المصلحة العامة باثباته العكس حيث ان نظم واجراءات الحكومة المفروضة من اجل توفير الكهرباء للمواطنين بشكل معقول لم تكن قادرة على منع الاحتكارات من التصعيد المتزايد لاسعار استهلاك الكهرباء. وكان قد واصل دراسته لهذا الامر الى ابعاد اخرى.  ففي عام 1971 نشر"نظرية النظم والقوانين الاقتصادية التي صرح فيها ان مشرعي القوانين وواضعي النظم والاجراءات الاقتصادية غالبا ما يقعون تحت تأثير هيمنة المصالح الخاصة فيجدون انفسهم منجرفين بتيار الاموال المغرية وقوة الكارتيلات في التأثير على جميع الاطراف، بدلا من ان يجدوا انفسهم سائرين مع مجرى مايحتاجه المواطنون من خدمات. كذلك ذهب ستگلر للقول ان الحكومة تكون احيانا سببا رئيسيا في احتكار بعض الانشطة الاقتصادية عندما تسمح او تتواطئ مع اصحاب المصالح الخاصة وتشركهم في  صياغة النظم والاجراءات بما يخدم مصالحهم ويعرقل نشاط منافسيهم، فيحدث ان تكون النتيجة ان بعض الاجراءات الحكومية الرسمية تكون نافعة لقطاع معين وضارة لقطاع آخر. وتواصلا مع هذا الموضوع نشر كتابه الرائد في هذا المجال " Theory of Regulation"  الذي فتح من خلاله افقا اكاديميا جديدا سمي  Regulatory Capture الذي ركز على ظاهرة قيام بعض اصحاب المصالح الخاصة من افراد وعوائل وكتل وجمعيات واحزاب باستغلال النظم والقوانين بصياغتها او تطبيقها بالشكل الذي يميل لترجيح مصالحهم الخاصة وبكلفة باهضة يتحملها الجمهور العام. وقد تطورت جوانب اخرى لهذا الموضوع فيما بعد لتصبح حقلا دراسيا خاصا باسم "الخيار العام" Public  Choice الذي يبحث في الاثار الاقتصادية للسلوك السياسي ودور المصلحة والمنفعة والمسؤولية في الصراع بين الخيار الفردي والخيار الجمعي وموقف اصحاب القرار ونتائج ذلك على الجمهور العام.

يقول الاستاذ رچرد شملنسي في مقالته الموسومة "مساهمات جورج ستگلر في النظرية الاقتصادية" المنشورة عام 1981 في مجلة الاقتصاد الاسكندنافية بأن مساهمة ستگلر الهامة الاخرى كانت في الاقتصاد الصناعي. فقد بدأ اهتمامه في هذا الشأن عام 1949 عندما بدأ بانتقاد طروحات رائد هذا الحقل ادوارد چمبرلن الذي بدأ التنظير في هذا المجال خلال ثلاثينات القرن الماضي ولكن بدون ان يعطي امثلة تطبيقية تسند النظرية. وهذا مافعله ستگلر حيث استخدم نماذج مارشل الكلاسيكية مع ايراد امثلة تطبيقية من واقع المنافسة والاحتكار في السوق الواقعية. وبهذا فقد اكمل ستگلر ما كان ناقصا في الفهم العام للاقتصاد الصناعي الذي اسسته مدرسة هارفرد. فعلى سبيل المثال،  اعتبر ستگلر منحنى الطلب المتعرج في سوق الاحتكار اداة تحليلية ناقصة لانها غير قادرة على التنبؤ بتغييرات السعر المتكررة. وكان لذلك وقعا نافعا في الادب الاقتصادي مما حدى به ان يستفيض بشرح ذلك في مقالته المشتركة مع جيمس كندل المعنونة "سلوك الاسعار الصناعية" المنشورة عام 1970.

وقبل ذلك بسنتين كان قد نشر كتابه "المنشأة الصناعية" عام 1968 والذي جمع فيه كل مقالاته التي تناولت السلوك الاقتصادي في القطاع الصناعي . هذا الكتاب ساعد في تحويل موضوع الاقتصاد الصناعي الى فرع مستقل يعتمد التحليل النظري والتطبيقي الذي تطور فيما بعد، خاصة من خلال كتاب فريدريك شيرر الضخم "هيكل السوق الصناعية والاداء الاقتصادي" المنشور عام 1970.

واخيرا، وليس آخرا فقد زود جورج ستگلر المكتبة الاقتصادية بدراسات مهمة في تاريخ الفكر الاقتصادي جمعتها جامعة شيكاغو في كتاب هام ونشرته عام 1965 بعنوان "مقالات في تاريخ الفكر الاقتصادي".

عرف جورج ستگلر بين زملائه وطلابه بانه شخص خفيف الظل ميال للطرائف والتندر حتى ان هذه الميزة زحفت في مناسبات معينة الى بعض مقالاته التي كتبها باسلوب تهكمي ساخر، خاصة تلك المقالات التي انتقد فيها السياسات الاقتصادية.

وكما فعل صديقه وزميله في جامعة شيكاغو ملتن فريدمن فقد احب جورج زميلته في القسم مرگرِت ماك وتزوجها عام 1936 وكان له منها ثلاثة ابناء.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم