شهادات ومذكرات

جعفر آل ياسين والريادة الفكرية في الفلسفة الإسلامية

3710 جفر ال ياسينيعد المرحوم الأستاذ الدكتور "جعفر بن مرتضى آل ياسين"-  (1932 _ 2008) علامة فلسفية بارزة في الدرس الفلسفي العراقي المعاصر، فضلاً عن العربي والإسلامي، وذلك لما قدمه من دراسات فلسفية معمقة في الفلسفة اليونانية، والإسلامية والتراث العربي الإسلامي، فهو من الذين تحدثوا عن أصالة وعظمة الفلسفة الإسلامية، وأنها وليدة أفكار إلهية تنبع من التكوين الديني الإسلامي لمؤسسي المدارس الفلسفية الإسلامية ؛ كالفارابي وابن سينا وغيرهم من عباقرة العالم الإسلامي.

ولم يقف إنتاج "جعفر آل ياسين" (مع حفظ الألقاب) على التأليف الفلسفي الإبداعي فقط، بل توجه صوب تحقيق النصوص الفلسفية لكبار الفلاسفة المسلمين، وقد توج توجهه العلمي في بداية حياته الفلسفية مثلما أشرنا إلى ذلك في بداية حديثنا عن سيرته العلمية إلى تحقيق نص ابن سينا في السماع الطبيعي من الشفاء، لينتقل بعدها إلى تحقيق رسائل الفارابي الفلسفية، ليكون الدكتور آل ياسين في تحقيقه لنصوص رسائل الفارابي أحد أهم المحققين العراقيين والعرب الذين أسهموا بجد في الكشف عن فلسفة الفارابي ونشرها،

فضلاً عن ابن بلده العلامة العراقي الكربلائي المرحوم الدكتور محسن مهدي (ت2007م)، والذي هو الآخر (د. محسن مهدي) قد حقق نصوصاً كثيرة للفارابي الفيلسوف ومنها كتاب الحروف، وكتاب الملة، وكتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، وكتاب فلسفة أرسطو، ولربما وبحسب وجهة نظرنا المتواضعة، فإن المرحوم الدكتور محسن مهدي يحتاج هو الآخر دراسة فلسفية عراقية تظهر إسهاماته في نشر النصوص الفلسفية الفارابية.

لقد جمع " جعفر آل ياسين " في شخصه الكريم، نزعة دينية أخلاقية نابعة من خلال تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص الفلسفة الإسلامية المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد للفلسفة الإسلامية، وعند المتخصصين في الفلسفة الإسلامية هناك علاقة قوية بين الجانبين، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي

علاوة علي تحلي " جعفر آل ياسين " بأدب جم يعكس معدنه الطاهر وتربيته العائلية فهو كما يقول أ . د. جعفر عبد المهدي صاحب:" نجل العلامة آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين.. لم اشعر بالملل قط من زياراته اليومية لبيتي أو الجلوس معه لساعات طويلة، وعلى العكس من ذلك كنت أتبرك بأنفاسه.. كان رحمه الله عزيز النفس رفيع الشأن غزير العلم يتوافد عليه طلبة الدراسات العليا من مختلف أنحاء ليبيا،وقد تم تكليفه بأمانة الدراسات العليا في قسم الفلسفة بجامعتنا".

وهو من جيل الكبار كما قال ا.د. علي المهرج من أمصال: مُحسن مهدي، وكامل مصطفى الشيبي، ومدني صالح، ونمير العاني، وحسام محيي الدين الآلوسي، وياسين خليل، وعرفان عبدالحميد، ولحق بهم عبد الأمير الأعسم، على ما بينهم من اختلاف، كل بحسب تخصصه وتوجهه المعرفي والأيديولوجي.

قال عنه أ.د حسن مجيد العبيدي قائلا بأن الدكتور جعفر مرتضى آل ياسين:" يحتاج منا نحن الدارسين للفلسفة في العراق المعاصر، المزيد من الاهتمام بما طرحه من آراء ومواقف فلسفية عديدة في كتبه، والكشف عن منهجه ومرجعياته الفكرية والفلسفية التي دفعته للاهتمام بالفلاسفة المسلمين والكشف عن أصالتهم وعبقرياتهم الفلسفية، كل ذلك بروح علمية وموضوعية تبغي الكشف عن الحقيقة ليس إلا، وغير مسبوقة بأحكام عن هذا الدارس المتفلسف أو غيره. لأن في هذا البحث عن هؤلاء المتفلسفة في العراق المعاصر إنما يقوم على رد الجميل لأهله، من هؤلاء الأساتذة الكبار الذين علمونا وعلموا الأجيال الطالية للفلسفة روح التفلسف الحقيقي والبحث في أصالة الفلسفة الإسلامية بخاصة.

ولد الدكتور " جعفر آل ياسين " في بغداد عام 1929، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة وبدرجة الشرف من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1953، ثم - عمل مدرسا على الملاك الثانوي للفترة من 18/10/1953 ولغاية 1/6/1958 في المدرسة النظامية ببغداد، ثم نقل إلى رئاسة مجلس الخدمة العامة في 1/6/1958، ثم التحق بالبعثة العلمية لوزارة التربية بتاريخ 1/1/1959 إلى بريطانيا وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بتاريخ 31/7/1962 من الكلية الملكية البريطانية التابعة لجامعة أكسفورد، ثم أعيد تعيينه بوظيفة مدرس في كلية الآداب بتاريخ 25/9/1962 بموجب الأمر الجامعي 14655 في 25/9/1962.

علاوة علي أنه شغل مهام رئاسة قسم الفلسفة وكالة للفترة من عام 1964 ولغاية عام 1966، ثم رقي إلى درجة أستاذ مساعد بتاريخ 1/1/1967 بموجب الأمر الجامعي 2933 في 26/1/1967، ثم أعيرت خدماته للتدريس بجامعة الكويت للعام الجامعي 1967-1968 بموجب الأمر الجامعي 24156 في 4/7/1967. عاد للعراق وباشر وظيفته بعد انتهاء فترة الإعارة في 1/9/1970، ثم تولى رئاسة قسم الفلسفة ابتداء من 7/9/ 1970 ولغاية 1/9/1974 وذلك بموجب الأمر الجامعي 39410 في 28/9/1970، ثم رقي إلى درجة أستاذ مشارك بتاريخ 12/10/1973 بموجب الأمر الجامعي 720 في 8/8/1973، ثم  رقي إلى درجة أستاذ بموجب الأمر الجامعي  43466 في 30/10/1974.

وقد أعيرت خدماته للتدريس بجامعة العين في دولة الإمارات العربية المتحدة للعام الجامعي 1977-1978 وانيطت له هناك مهمة رئاسة قسم الفلسفة إلى حين عودته إلى جامعة بغداد في 2/12/1979، ثم تمت إحالته على التقاعد بمرسوم جمهوري بتاريخ 18/12/1979 وتم الانفكاك بتاريخ 12/1/1980، ثم بعد إحالته على التقاعد اتجه إلى التركيز نحو التأليف والتحقيق، ولصاحب السيرة كتابات منذ نعومة أظفاره  في كثير من المجلات والصحف العراقية والعربية، منذ أن كان تلميذا في المرحلة الثانوية. فقد كتب في مجلة (الآداب) العراقية ومجلة (العرفان) اللبنانية وكان له فيها عمود تحت اسم (ابن الشاطئ). وله مراسلات مع المرحوم عباس العقاد ضمن مجلته (الرسالة) وغالبا ما كان العقاد يرد عليه بعبارة ( يسألني الأديب البغدادي جعفر آل ياسين).

ومن مؤلفات " جعفر آل ياسين ": ابن سينا وفلسفته الطبيعية، جامعة أكسفورد بريطانيا 1964، الإنسان وموقفه من الكون في العصر اليوناني الأول، الكويت 1970،  فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط، ط3،بغداد 1985، مؤلفات الفارابي (بالاشتراك) بغداد 1975، المدخل إلى الفكر الفلسفي عند العرب، ط4، بيروت 1983، فيلسوفان رائدان، الكندي والفارابي، ط2 بيروت 1983،  الفيلسوف الشيرازي، بيروت 1978، الفارابي، كتاب تحصيل السعادة(تحقيق) ط2 بيروت 1983، المنطق السينوي، عرض ودراسة للنظرية المنطقية عند ابن سينا بيروت 1983، فيلسوف عالم، دراسة تحليلية لحياة ابن سينا وفكره الفلسفي، بيروت 1984، الفارابي في حدوده ورسومه، بيروت 1985، الفارابي، كتاب التنبيه على تحصيل السعادة (دراسة وتحقيق) ط2، بيروت 1987، الفارابي، رسالتان فلسفيتان، (دراسة وتحقيق) بيروت 1987،  فلاسفة مسلمون، القاهرة 1987، الفارابي، كتاب التعليقات (دراسة وتحقيق) بيروت 1988، الفارابي الأعمال الفلسفية، الجزء الأول (دراسة وتحقيق) بيروت 1992، ابن سينا، السماع الطبيعي (دراسة وتحقيق) بيروت 1996... الخ.

إن " جعفر آل ياسين " حين تقرأ له أي كتاب من كتاباته في الفلسفة الإسلامية،  يشعرك بالمتعة، وأقصد بالمتعة متعة الأفكار، وهي تغزو عقلك في زحف هادئ، لكنه معزز بالدليل والبرهان، فيرغمك علي تقبلها باقتناع، ومتعة الروح التي تتسرب إلي كيانك من رقة الأسلوب وعذوبة الكلمات وسلاسة العبارات . كل ذلك يعكس مدس قدرة الأستاذ علي توظيف قدراته اللغوية وثقافته الوسيعة لخدمة أغراضه العلمية التي تجسدها بحوثه ودراساته .

وثمة بعد آخر في شخصية " جعفر آل ياسين " العلمية، ويتمثل في منهجيته في البحث، تلك المنهجية التي تكشف عن اقتدار وكفاءة عالية في الالتزام لقواعد المنهج العلمي وضوابطه، فهو تعلمنا منه كيف أفصل المجمل، ونكشف عن المستور من المعاني التي تخفيها ظواهر النصوص، ونوضح الغامض من الأفكار، كما علمنا بألا نترك شارة ولا واردة تتصل اتصالاً وثيقاً بالموضوع إلا ويجب علي أن نذكرها أو نشير إليها في البحث .

وثمة بعد آخر تعلمنا من  كتابات " جعفر آل ياسين " وهو كيف يتسني لنا أن نحدد موضوع البحث تحديداً دقيقاً، وأن نعمد إلي إبراز أهم عناصره ومحاوره وأبعاده،  ثم نستعرض الآراء  التي قيلت بخصوص كل عنصر، وأن نردها إلي أصولها ومصادرها الأصلية، بحيث نكشف  بهذا عن مدي تأثر اللاحق بالسابق من الفلاسفة والمفكرين والباحثين؛  ثم نتابع الفكرة في تناميها وتطورها منذ نشأتها، حتي نصل إلي منتهي ما وصلت إليه لدينا من تناولوها بالدراسة؛ بحيث نكشف عما طرأ علي الفكرة أو النظرية من انتكاسة، أو إضافة، أو تجلية، أو دعم، أو هجوم نقدي، أو تأصيل عقلي وفكري، وأن نضع ذلك كله في منظومة علمية تبث الروح في النظرية، وأن تثير في القارئ ميلاً عقلياً إلي احتضانها أو النفور منها، بمبررات عقلية – منطقية في كلتا الحالتين، بحيث تفرض علينا أن نتخذ موقفاً ما، دون أن نقتصر علي مجرد التلقي أو السرد والحكاية .

وقد وافته المنية وانتقل إلى جوار ربه قبل أن ينجز تحقيق كتاب (النجاة) لابن سينا.. وهنا أقول مع نزار قباني:  وداعاً .. أيها الدفتر.. وداعا يا صديق العمر، يا مصباحي الأخضر.. ويا صدرا بكيت عليه، أعواماً، ولم يضجر.. ويا رفضي .. ويا سخطي .. ويا رعدي .. ويا برقي .. ويا ألمًا تحول في يدي خنجر .. تركتك في أمان الله.. يا جرحي الذي أزهر.. فإن سرقوك من درجي.. وفضوا ختمك الأحمر.. فلن يجدوا سوى امرأة..

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور " جعفر آل ياسين"  لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع:

1- أ . د. جعفر عبد المهدي صاحب: في ذكرى رحيل العلامة الدكتور جعفر آل ياسين، مقال منشور لتاريخ 2010-10-04

2- ا.د. علي المهرج: جعفر آل ياسين والريادة الفلسفية، ضمن سلسلة (مفكرون عراقيون) 2 .. 22 يونيو، 2020

3- حسن مجيد العبيدي: الدكتور جعفر آل ياسين  السيرة والإنجاز الفلسفي، 25 سبتمبر، 2016

 

في المثقف اليوم