شهادات ومذكرات

عبد الكريم شروس.. عاشق التعددية الدينية

شهد المجتمع الإيراني عبر تاريخه أعلام فكرية ودينية وفنية كثيرة ولا يزال، وهذه الأعلام قد شملت طروحاتها عناوين ومضامين متنوعة ومتعددة، منها شخصية فكرية فلسفية، تميزت بإيجابية صمتها وعلانيتها، هي شخصية دخلت المجتمع الإيراني من أوسع أبوابه الراقية ونالت الاحترام والمكانة، كذلك النقد واللوم والتجريح، إنه الباحث حسين حاجي فرج الدّباغ المعروف علمياً وفكرياً باسم المفكر والفيلسوف" عبد الكريم سروش"، والذي يعد أحد أبرز المثقفين في الذين والذين اهتموا بقضايا الدين والديمقراطية والتنوير الديني، حيث تعمق في التاريخ وأدخله في أبعاده المتعددة، كعلم الفلسفة ونظريات المعرفة من خلال إطارها التّاريخي وبنى نظريّته من خلال مقاربة المعلومات والمعارف الدّينيّة من جهة، والمعارف العصريّة من جهة أخرى، فلقد عمل على تثبيت الاستنتاج كضرورة للوصول إلى الأهداف المرجوة، فليس ضروريًا أن تكون حصيلة مواجهة المعارف الدينية والمعارف العصرية متعارضة، فكان طرحه لنوع “المعرفة العصريّة” وماهيتها حاضراً في أحاديثه وكتاباته، التي أكدت أن هذه النظرية تتوافق بشكل كامل مع مجتمع هذا العصر وواقعه.

لقد استطاع عبد الكريم شروس تخطي كل المناقشات غير المبرهنة، وعمل على إعادة المكررات والخلفيات التّاريخية، وطرق التواتر، والشّياع التاريخي، وكل ما من شأنه أن يقف سدًا في وجه الكمّ الهائل من الأفكار، وأّنّه استطاع  بالاعتماد على فكره الذاتي، تثبيت بحوثه ونظرياته، التي تقدم فيها حتى الوصول إلى الينابيع الصافية والرقراقة للمبادئ والمعتقدات، فأي محقق أو منظّر ينبغي أن يتمتع بتدرج أفكاره في سياقها التّاريخي للكشف عن منهجه وكيفيّة التوصل إلى نظريته.

لقد جسد عبد الكريم سروش في طريقة عرضه للأمور على النقد البناء، معتمداً على مداخل فلسفية للتوصل إلى فكرة أو نظرية معينة نابعة من الشخص نفسه حتى لو كانت تتعارض مع أفكار الجميع، إلا أنّه حرص على المدخل الكلامي لكونه محلُ اهتمام بحفظ دين عامة الناس، فإنّه يحدد للكاتب أو للباحث إطاراً للمعتقدات المسبقة، ولا يهتم بالمدخل الفلسفي بغزو الأفكار أو استقطاب الدّعاة أو الأنصار عن طريق التكرار المستمر للموضوعات، فإمكانية حدوث مثل هذا الأمر تلقائيًا في ما بعد متوفراً، إلا أن المدخل الكلامي يرمي منذ البداية أن يكون مَعلمُ الأخلاق والتربية لعامة البشر، وأن يغرس في الأرض بذوراً تغطي كل الأرجاء في المستقبل، وهو يسعى لتحقيق هذا الهدف، ولا أنسي كلمته الرائعة والتي قاله فيها :" لا التشيّع هو الاسلام الخالص، ولا التسنن، ولا الأشعرية هي الحق المطلق، ولا الإعتزال، لا الفقه المالكي، ولا الفقه الجعفري، ولا تفسير الفخر الرازي ولا تفسير الطبطبائي، لا الزيدية، ولا الوهابية، لا كافة المسلمين في معرفة الله وعبادته خالون من الشرك، ولا قاطبة المسيحيين إدراكهم الديني خالٍ منه، كلا بل لقد ملأت الدنيا الهويات غير الخالصة، فلم يتربع الحق في جهة من الجهات دون أخرى لتكون باطلاً محضاً، وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنى لنا هضم الكثرة بشكل أفضل".

كما يرى سروش أن الأجزاء المختلفة للمعرفة البشرية هي في تعاط مستمر في ما بينها، وإذا ما شهد العلم إبداعاً فإنه يترك تأثيره على علم الفلسفة، وأن تحوّل الفهم الفلسفي يغير فهم الشخص حول الإنسان والكون، وعندما يأخذ الإنسان والكون وجهاً آخر فإن المعرفة الدينية تأخذ معنى جديداً أيضاً. وهو يعتبر أن نظريته تعتمد من جهة على الفكر الديني التقليدي، وتأخذ بنظر الاعتبار من جهة أخرى مكتسبات الفكر والمعرفة البشرية، وبالتالي فهي منهج لطرح جديد وعصري للدين، وأن التحوّل والتطوّر في المعرفة الدينية ليسا ناجمين عن المؤامرة والخيانة ووسوسة الشيطان، بل من لزوم التغييرات القهرية في الكون، وحركة الذهن، وسعة استيعاب الفهم، وطموحات الفكر وتطلّعات الروح البشرية المعادية للجهل.

وخلافا لمطهري وعلي شريعتي لا يعد سروش المجتهدين من رجال إحياء وإعادة بناء الفكر الديني، لأن الاجتهاد لديهم هو تغيير في الفروع وليس تحوّلاً في المبادئ والأصول، ولذلك فهو يرى أن المستنير الحقيقي في إعادة بناء الفكر الديني هو الشخص الذي يجيز الاجتهاد في الأصول أيضاَ. إن الأمر المهم في هذه الدراسة هو المقارنة بين هذه النظرات من مختلف الجهات كالرؤى، والسبل، والمناهج التي تطرح لإحياء الدين، والمنهج المعرفي، وعلم الإنسان، وعلاقة الدين والدنيا، وعلاقة العلم والدين، ودوافع دراسة الفكر الديني، وسر خلود الدين ورسالته والمصلحين الدينيين.

إنه مفكر يطمح إلى شقّ طريق نحو نوع جديد من التعامل مع التراث الإسلامي، فقدّم قراءات تستجيب في آن واحد للشروط العلمية التي يفرضها العصر اليوم، ولأفكارنا الإيديولوجية التي تحركنا نحو التراث. فاعتبر واحداً من أبرز الوجوه والأصوات التي أسست ما يسمّى “علم الكلام الجديد” الذي يدرس الدين من خارجه، موظفاً الإمكانات السوسيولوجية المعاصرة ونظريات التأويل في تفسير الدين، ونشأته، والتعامل مع الوحي والنص الديني . حيث تناول القضايا الدينية لا بوصفه رجل دين مختص بل بوصفه متديناً من خارج المؤسسة الدينية يرفض أن تحتكر السلطة الدينية أو تحصر في طبقة أو فئة . ومن المحتمل أن يكون قد هدف في نظرياته الدينية عموماً ونظرية الصراطات المستقيمة خصوصاً، إلى تأصيل التعددية وشرعنتها الدينية لتحقيق التعددية السياسية والاجتماعية .

ولد سروش في طهران من عام 1945م، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة علوي الدّينية، ثم تخرج من جامعة طهران فرع الصيدلة، سافر إلى بريطانيا عام 1973م لإكمال دراساته العليا بين علم الكيمياء والفلسفة، وبعد اتمام دراساته عاد إلى الجمهورية الإسلامية عام 1980م مستلماً مهاماً ثقافية، وأصبح عضواً في مجلس الثورة الثقافية، وهي هيئة مكلفة بأسلمة الجامعات والدروس الجامعية، ليعود بعد ذلك للتفرغ في مجال البحوث الفكرية والعمل الأكاديمي.

ألّف الباحث والمفكر الإيراني، عبد الكريم سروشُ، العديدَ من الكتب في الفكر والفلسفة الإسلاميين، منها: "القبض والبسط"، "التراث والعلمانية"، "العقل والحرّيّة"، "الصراطات المستقيمة"، "التديّن والسياسة"، "بسط التجربة النبويّة"، وفي مؤلفاته هذه وغيرها انطلق من نقطتين أساسيّتين لهدم عرش القداسة الموروثة في العقل الإسلاميّ الجمعي، هما التجريبيّة والتعدّديّة. أراد بالتجريبيّة، تجريبيّةً دينيّة تقوم على ما أطلق عليه مفهوم "التطوّر الحضاري" للوصول إلى مجتمع مُتحرّر من سُلطة الدّين وهيمنته، وذلك في سبيل التحرّر من الأسطورة، إلى حكم يقوده العلم الحديث.

وتعد الأسطورة بالنسبة إلى سروش هي كلّ ما هو ديني، فيقول في كتابه "القبض والبسط في الشريعة الإسلامية": "لا بُدّ أن نسحب أيدينا من كون الفقه فقهاً وعلماً وديناً، لأنّ التفسير العقلاني في إطار حلّ المشاكل الاجتماعيّة والدنيويّة أمر متداول لدى جميع عقلاء العالم، ولا حاجة بنا إلى الالتزام مثلاً بالتطهير الشرعي؛ فكلّما يفرزه العلم الحديث في مجال الصحّة يجب العمل به، فلا يمكن القول حينئذ إنّ وظيفتنا تتركّز في إجراء الأحكام الإلهية في حركة الحياة، بل وظيفتنا تتلخّص في سلوك الطريق العقلاني في حلّ المشكلات الفردية والاجتماعية من خلال المصالح العرفيّة".

ولذلك من الواضح أنّ سروش يفاضل بين الفقه وبين التفسير العقلاني كما يسمّيه، فلا حاجة في العودة إلى الفقه للبحث عن حلول إلهيّة معلّبة وجاهزة لمشاكلنا وإسقاطها على أنماط حياتنا، ويُعلي شأن العقل على حساب الفقه التقليدي الموروث بنسختيه السُّنّيّة والشّيعيّة، والذي لا يزال مُهيمناً على جوانب حياة المسلمين وتفاصيلها إلى يومنا هذا. وبالتالي لا يمكننا القول بمجتمع إسلامي واحد أو دولة إسلاميّة واحدة، لها قانونها الشرعي الإلهي، بل هناك مجتمعات إسلاميّة متعدّدة، تختلف أحوالها، وأنماط معيشتها بحسب درجة تطوّرها العلمي. وهذه المجتمعات تتشارك في معتقدات عامّة، يمكن أن تكون خطوطاً عريضة، كالتوحيد مثلاً، وهذا ما يشير إليه الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن"، حين يقول بأنّنا أحياء نتّبع ما قاله أموات قبل مئات السنين، ويريد بذلك الأئمة الأربعة، فما كان يصلح فقهيّاً في زمنهم لم يعدّ ممكناً في زمننا، بحسب الأرضيّة المعرفية المتغيّرة.

لكن يبدو أنّ سروش تأثّر بابن المقفّع الذي رفض الدين انطلاقاً من مقياس عقلي، وبما أنّ الدين يُؤثِر الصّدق والعدل والعقل والحقّ، ممّا لم يجده ابن المقفّع في الدّين، فإنّه يرفضه. وكذلك فعل ابن الراوندي الذي يقول إنّ العقل أعظم نِعم الله، وهو الذي يُعرف به الرّبّ ونعمه، ومن أجله صُنع الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وفق ما يشير إليه أدونيس في "الثابت والمتحوّل". وهذا التوجه العقلاني دفع سروش إلى القول بأنّ أصل اللغة القرآنية، إنسانيّ، لم يتلقّها النبي بالوحي الإلهي مباشرة، فاللغة نتاج إنساني قديم لا أوّل له.

ولا شك أن المذهب العلمي التجريبي من أبرز أدوات جابر بن حيّان الذي يُعتبر مؤسّس النزعة التجريبية العلمية، -التي تبنّاها سروش-، وكيمياء جابر تمتاز بالميل إلى الناحية التجريبيّة واستبعاد الخوارق، بينما الكيمياء القديمة كثيراً ما تلجأ إلى الرؤيا والوجدانية، واستخدام فكرة الخوارق في التفسير.

أمّا التعدّديّة فهي تعدّديّة دينية تقوم على قراءات النصّ القرآني باعتباره "نصّ بشريّ"، أي أنّ النبي محمّد خلق اللفظ، وكلمات القرآن هي كلمات محمّد، والمعنى من عند الله. يقول سروش: خلق الله محمداً، وخلق محمد القرآن، فكان القرآن كتاب الله. فالوحي عند سروش لا يختلف عن إلهام الشعراء إلّا في كون النبي يخوض تجربة أسمى وأرفع؛ الوحي عنده أعلى درجات الشِّعر، وعلى هذا الأساس كان للنبي دور محوري في خلق القرآن، فالنبي يقوم بكلّ شيء لأنّ الإلهام والوحي نابعان من داخل النبي نفسه، ولا يتلقّاهما من مصدر خارجي مباشرة.

هنا سروش يريد تناول تلك المواقف التي وجدناها عند هيك، القائمة على رفض التحليل العقلي القائم على التعدد الذي يحول دون الاتفاق، وهذا ما نجده في موقف سروش الميال إلى التأكيد على التنوع الذي نجده في النصوص وفي تفسيرها التي تقوم على (فهم التنوع والسر في ذلك أنّ النص صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواء في الفقه أو الحديث أو القرآن من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النص والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة وهذه جميعاً مفروضة من خارج النص، وبما أنّ واقع الفكر متنوع لهذا كانت التفسيرات هي الأخرى متنوعة(.

وميزة سروش هنا أنه مفكر تكونت ثقافته ومنهجيته في البحث من أبعاد علمية متعددة فهو صاحب اختصاص في الصيدلة والكيمياء وهو متابع لأحدث الدراسات الغربية في التاريخ وفلسفة العلوم وعلم المعرفة (الإبستمولوجيا)، وهو إضافة إلى ذلك ناشط ثقافي وسياسي ومتبحر في علم الكلام والتفسير وأصول الفقه ومتذوق لأدبيات العرفان. ولعل ذلك ما دفعه إلى استمداد مفهومي "القبض" و"البسط" من الحقل الصوفي كعنوان لنظريته، ساعياً في ذلك إلى إبراز خاصية التحول والتغير التي تميز المعرفة البشرية ومن ضمنها المعرفة الدينية.  حيث يرى سروش أن الأجزاء المختلفة للمعرفة البشرية هي في تعاط مستمر في ما بينها، وإذا ما شهد العلم إبداعاً فإنه يترك تأثيره على علم الفلسفة، وأن تحوّلا لفهم الفلسفي يغير فهم الشخص حول الإنسان والكون، وعندما يأخذ الإنسان والكون وجهاً آخر فإن المعرفة الدينية تأخذ معنى جديداً أيضاً. وهو يعتبر أن نظريته تعتمد من جهة على الفكر الديني التقليدي، وتأخذ بنظر الاعتبار متجهة أخرى مكتسبات الفكر والمعرفة البشرية، وبالتالي فهي منهج لطرح جديد وعصري للدين، وأن التحوّل والتطوّر في المعرفة الدينية ليسا ناجمين عن المؤامرة والخيانة ووسوسة الشيطان، بل من لزوم التغييرات القهرية في الكون، وحركة الذهن، وسعة استيعاب الفهم، وطموحات الفكر وتطلّعات الروح البشرية المعادية للجهل.

وهذا الجانب المهم والحيوي لم يدركه التنويري عبد الكريم سروش في نقده لتاريخية الدين أو لدور البيئة والموقع والحال الاجتماعي في تنظيراته مركزا على أثر الجانب الحسي المادي في نشأة التدين ثم الدين لاحقا، وإن ذكر في بعض كتاباته أن أسس الدين تنبع في جزء منها لروحية النبي، وهنا يقصد الجانب المادي من الروح وليس الجانب الاعتباري العقلي الذي يمنح المنتج جزء من شخصية صاحبه أو الذي أنتجه، فلو لم يكن النبي عاقلا ومدركا لحدود أثر الدين وواعيا لما يقوله ومصمما على بسط فكرته في الواقع، لم ولن ينجح بعيدا عن فهمه للجزء الروحي أيضا للمتلقي والذي سيقبل ويؤمن في الدين، وهذا الجانب يتمثل في القدرة العقلية المقارنة التي سيجريها المتقبل أو الرافض استنادا إلى فطريته وتكوينه الطبيعي.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا المفكر التنويري حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور عبد الكريم سروش الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

المراجع:

1- عباس علي العلي: القراءة التاريخية كيفاً - عبد الكريم سروش مثلا 2،  الحوار المتمدن-العدد: 6653 - 2020 / 8 / 21 - 22:0

2- سروش، عبد الكريم، القبض والبسط في الشريعة، نقلته من الفارسية إلى العربية د. دلال عباس، منشورات دار الجديد، بيروت، 2002م.

3- نادين الطفيلي:  قراءة في أفكار عبد الكريم سروش، بيروت نيوز عربي .

4- فادي أحمد سهو: صراعات مستقيمة... سقوط عرش القداسة الدينية عند المفكّر الإيراني سُروش، السبت 26 ديسمبر 202001:30 م

5-عامر عبد زيد الوائلي: التعددية الدينية وتجلياتها عند "عبد الكريم سروش"، مؤمنون بلا حدود، 24 أبريل 2021.

 

في المثقف اليوم