شهادات ومذكرات

زكي مبارك وسفوداته مع طه حسين حول كتاب "النثر الفني"

محمود محمد عليالمعارك الأدبية والأزمات بين المثقفين، ليست ظاهرة حديثة، فمنذ فترة ازدهار الأدب في مطلع القرن الماضي، شكلت الخصومة بين كبار الأدباء والمثقفين وجها أدبيًا وإبداعيًا، بينما اتجهت المعارك في فترتنا الحالية إلى النميمة والسب والقذف، وبدلا من تبادل الآراء بالحجة، يوجه بالشتائم والألفاظ الخارجة، وفي الماضي كانت أزمات المثقفين كانت تبدأ بطرح وجهة نظر حول عمل أدبى أو إبداعي لأديب معين، ومهما كان وجه الاختلاف، كانت الإبداع والأدب هو السبيل الوحيد للرد، فترى العقاد يرد على طه حسين بمقال، والعقاد مع المفكر والأديب اللبناني مارون عبود، وغيرهم، بالمقالات والكتب والدراسات.

وبحسب الأديب أنور الجندي في كتابه "المعارك الأدبية في مصر منذ 1914-1939"، مثلت المعارك الأدبية قطاعًا حيًا من قطاعات الحياة الفكرية في الأدب العربي، كانت له أهميته وخطورته في مجال النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية ومفاهمي الثقافة نقد الكتب الأدبية، ويوضح المفكر الراحل أن المعارك تلك دارت في البداية بين المحافظين والمجددين، ثم دارت بين المجددين أنفسهم، متظرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضوعين هامين: "معركة مفاهيم الثقافة، ومعركة مفاهيم الأدب، وكان أبرز أعلامها في معسكر المحافظين أحمد زكى باشا وفريد وجدى، والرافعي، ومحمد أحمد الغمراوى، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، بينما فى معسكر المجددين: العقاد والمازني وزكى مبارك وهيكل وطه حسين وسلامة موسى.

ولفت "أنور الجندي" إلى أن المعارك لم تتوقف بل زادت حدتها من خلال "زكى مبارك"، حيث كانت روحه التواقة للمجد تلقيه دوما في ساحات المعارك حتى وإن لم يملك من أسلحتها غير ذهنه المتقد وروحه الناقدة، فلم تفارق المطرقة يده يوما، ليشهرها في وجه أبرز أدباء ومفكري عصره: طه حسين، أحمد أمين، العقاد، أحمد لطفي السيد، أحمد زكي باشا، المازني، الرافعي، سلامة موسى.

لقد أبغض "زكى مبارك" أبغض هدوء الموادعة وإيثار السلامة، وأحب ضجيج التحدي ومطاولة الكبار، فأكسبته معاركه الكثيرة أعداء كُثر، لكنه لم يتراجع أو يتوقف عن الطرق بمطرقته على رأي خالفه أو أديب خاصمه، وفي الأزهر حيث تلقى تعليمه لزم الشيخ المهدي أربع سنوات، فالشيخ سيد المرصفي سبع سنوات، واصطفاه الثاني ليقدمه بين تلامذته، بعد أن عاين نبوغه، وروي عن الشيخ الأزهري: إني لأخشى أن يضيع منا زكي مبارك كما ضاع طه حسين.

ولم يتباطأ "زكى مبارك" بالفعل عن السير على درب طه حسين، فالتحق بالجامعة المصرية عام ١٩١٦، ليتتلمذ على يد "عميد الأدب العربي"، وساقه طبعه إلى أن يناطح أستاذه، وفي إحدى المحاضرات، قال لطه حسين: لا تتعالموا علينا ففي وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين، وكان نتيجة هذه المناطحة أن أسقطه العميد مرتين بامتحان الليسانس، ليتأخر حصوله على أولى شهاداته بالجامعة المصرية إلى عام 1921.

وأثناء دراسة "زكى مبارك" الجامعية قامت ثورة ١٩١٩ فعرف فيها خطيبا مفوها تثير كلماته الحماسة في النفوس، ولا غرابة، فهي ميدانه الذي تتوهج فيها نفس كنفسه، وكان طبيعي أن تطلبه سلطات الاحتلال الإنجليزي فطاردته أشهرا، ثم اعتقلته كأسير حرب ٩ أشهر، خرج بعدها إلى الدرس والبحث، بجانب الكتابة الصحفية، ليتولى رئاسة جريدة الحزب الوطني "الأفكار" عام ١٩٢١، إلى أن تقدم للحصول على درجة الدكتوراه في موضوع "الأخلاق عند الغزالي" عام 1924، ولم يسلم حجة الإسلام من مطرقته، ليغيظ كثيرين، ومنهم ممتحنوه، فمنحوه الدرجة العلمية بتقدير جيد جدا.

وقد عُين "زكى مبارك" بعدها في الجامعة بعقد مؤقت، وفي هذه الفترة نشط في تتبع الحركة الأدبية بالنقد والتقويم، ونشر المقالات بانتظام في جريدة البلاغ، ثم تطلعت بعدها نفس أديبنا التي لا تهدأ إلى الحصول على الدكتوراه من السوربون، كما أستاذه اللدود طه حسين، فالتحق بالجامعة الفرنسية عام ١٩٢٧ على نفقته الخاصة، إثر فشل مسعاه في الحصول على منحة دراسية، فكان يضطر إلى قضاء الصيف بباريس ويعود إلى القاهرة في الشتاء فيوزع وقته بين التدريس والصحافة ليجمع من المال ما يعينه على استكمال دراسته، وفي العامين الأخيرين قرر أن يقيم إقامة دائمة في فرنسا حتى يتم بحثه على الوجه الأكمل معتمدا على راتب جريدة البلاغ المتواضع بعد أن عينته مراسلا لها بباريس.

وفي سنة ١٩٣١ يتقدم "زكى مبارك" للامتحان، فيواجه ممتحنيه قائلا: لقد جئت لكم لأصحح أخطاءكم ومفاهيمكم فأرجو أن تعترفوا بالخطأ وأن تمنحونى الدكتوراه.. لم يعترف الأساتذة بخطئهم، كما طالبهم مبارك، لكنهم منحوه درجة الدكتوراه عن رسالته: النثر الفني في القرن الرابع الهجري.

ويصف طه حسين الكتاب بقوله: "كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتاب"، وتبدأ المعركة بين القطبين ويخرج طه حسين من الجامعة في وزارة إسماعيل صدقي ويدافع عنه زكى مبارك ثم يعود طه حسين للجامعة ويتغير الجو السياسي، ويرفض طه حسين تجديد عقد زكى مبارك بل يفصله من الجامعة فيقوم زكى مبارك بالهجوم عليه، وقد جاء هجوم زكي مبارك تواصلًا منه مع معارك سابقة وعنيفة شنها ضد طه حسين، بدأت من 11 نوفمبر 1932 إلى أول ديسمبر 1941 وفقًا لما يذكره " أنور الجندي" في كتابه "زكى مبارك"، موضحًا أن "زكى مبارك"، حين عاد من باريس بعد حصوله على الدكتوراه عن "النثر الفني في القرن الرابع" وطبعها فى مجلد ضخم شمل أكثر من 900 صفحة من القطع الكبيرة، سئل طه حسين عنها، فقال: "كتاب من الكتب، ألفه كاتب من الكُتاب"، ومن هنا انفتحت باب معارك زكى مبارك ضد طه حسين على مصراعيها، وحدثت فيها مضاعفات برفض طه حسين تجديد عقد مبارك أستاذا في كلية الآداب عام 1934، فقال مبارك كلمته المعروفة: "لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه"، في حين وصفه طه حسين: «الرجل الذى لا يخطو إلى كلمة إلا احتال على رأس عفريت".

ويرد "زكى مبارك": "أنا راض عن كلمتك فإنك تشهد لى بالعبقرية.. وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلاً مثلك في سبيل الحق ولكن لنطل على "عينة" من هذه المساجلة الظريفة والبديعة أيضاً.. فقد تعددت جولات هذه المعركة.. مما لا يتسع المجال لذكرها جميعاً رغم طرافتها وظرفها.

وفي رسالة بعثها "زكى مبارك"، إلى طه حسين قال فيها : " أنا أعرف الدكتور طه حسين، أقسم جهد اليمين ليمسخن كتابي مسخاً، وليمحونّه من الوجود وليُصيّرن اسم زكى مبارك مرادفاً لاسم عيسى بن هشام.

ويستطرد "زكى مبارك"، فيقول :" سألت جميع الناس أن ينقدوا كتابي (النثر الفني).. لقد سألت فلاناً وفلاناً... وكان الدكتور طه هو الرجل الوحيد الذى لم أسأله على الإطلاق فكيف تخطيته مع أنه يكتب كل يوم.. يا دكتور طه : كنت أنتظر أن تفرح بكتابي، لأنه كما تعلم جهد أعوام طوال، ولكن خاب الظن وعرفت أنك وسائر الناس تغضب وتحقد، وكنت أرجو أن يكون عندك شئ من تسامح العلماء.. تعال نتحاسب يا ناسى العهد ويا منكر الجميل، لقد مرت أعوام لم يكن يذكرك فيها بخير أحد غيرى، وهل كان في أصحاب الأقلام من انبرى للدفاع عن طه حسين غير تلميذه وصديقه زكى مبارك. لقد ذكرتك بالخير في جميع مؤلفاتي؟. فهل يضيع عندك كل هذا المعروف لأنى بددت أوهامك في كتاب (النثر الفني)؟

ولم يكتف بذلك بل يقول "زكى مبارك"،:" أما الأحقاد التي تتلظى في صدر طه حسين فستقضى عليه شر قضاء وتنكل به تنكيلاً، ولن تدوم له أيام الطغيان. ولن يبقى له فلان وفلان، والكرسي الذى يجلس عليه في الجامعة هو أقل ما أنتظره من الجزاء فى المستقبل القريب، إن أعظم منصب في الجامعة لا ينيلنى من المجد ما أنالنى كتاب (النثر الفني)، ستفنى أحجار الجامعة المصرية وتباد ذكرياتها ثم يبقى ذلك الكتاب على مر الزمان، والذين يحاربوننى لم يطمعوا في محاربتي إلا لظنهم أنى رجل أعزل لا أنحاز إلى حزب من الأحزاب وليس لي في الحكومة عم ولا خال، ولكن خاب ظنهم فإن الحق أعز وأقوى، وسيرون كيف أزلزل أرواحهم وكيف أملأ قلوبهم بالرعب وكيف أريهم عواقب ما يصنعون.. إن النصر سيكون حليف من يصلون النهار بالليل في تثقيف عقولهم، أما الثرثرة الفارغة التي يعتصم بها طه حسين فلن يكون لها في عالم الجد بقاء.. لقد انكشف أمر طه حسين منذ أصدرت كتاب (النثر الفني) فقد بيّنت أغلاطه وسرقاته، وتحديته أن يدافع عن نفسه، فتخاذلت قواه ولم يملك الجواب، وعرف الأدباء في المشرق والمغرب أنه لا يملك شيئاً أصيلاً، وأن مؤلفاته ليست إلا هلاهيل انتزعها من كلام الناس، وأن ما يدعيه من الآراء ليس إلا صوراً ملفقة انتزعها مما يقرأ ويسمع، لأن قلمي ليس إلا محنة صبها الله على طه حسين. ولعله انتقام من الله على طه حسين".

وهنا يتضح لنا مما سبق أن استقلاله وحدة طبع زكي مبارك وعنف قلمه جر عليه خصومات ألزمته عسر الحياة، فأنهى السنهوري بتحريض من النقراشي عمله في وزارة المعارف، ورفض طه حسين تجديد عقده للجامعة، ما دعا أديبنا إلى قولته المشهورة: لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه، وفي هذه الأثناء أعد رسالته الثالثة للدكتوراه عن التصوف الإسلامي، لينالها مع مرتبة الشرف عام 1937، ويسافر بعدها إلى العراق، منتدبا إلى دار المعلمين في بغداد عام 1938 فيقضى بها أخصب فترات حياته، وينتج عددا من أهم كتبه، مثل: ليلى المريضة في العراق، وعبقرية الشريف الرضي، ووحي بغداد.

وذلك لم ينل زكي مبارك حظه من المناصب نتيجة لـسببين رئيسين، أولًا: معاركه الأدبية مع أقطاب عصره كطه حسين، وعباس العقاد، والمازني وغيرهم. ثانيًا: تفضيله الابتعاد عن التيارات الحزبية الممالئة للقصر والنفوذ البريطاني، وبسبب قلمه الذي طاح به في الجميع سقط في امتحان الليسانس مرتين على يد د. طه حسين، وطرد من عمله مرتين مرة على يد محمد حسن العشماوي والثانية على يد عبد الرازق السنهوري، ولم يثنيه كل هذا عن طريقة أو يدفعه إلى تغير أسلوبه بل كان دائماً يبحث عن خصوم ليدخل معهم في جوالات ينتصر فيها، ومنهم أحمد شوقي، سلامة موسي، العقاد، لطفي جمعة، وأحمد حسن الزيات، مصطفي صادق الرافعي، أحمد زكي باشا، والمازني وغيرهم فلم يسلم منه أو من قلمه أحد من معاصريه، حتى إنه كتب مخاطباً وزير المعارف إسماعيل المعارف (لن أطيع أمرك، إلا يوم يقوم الدليل على أنك وزير فقد أسلمت أمور الوزارة إلى قباني بلا ميزان).

وقد حصل على وسام الرافدين من العراق في 1947، كتب 45 كتابًا منها عبقرية الشريف الرضي، ألحان الخلود، العشاق الثلاثة، ورواية واحدة "دموع العشاق"، وكتابان باللغة الفرنسية، إلى جانب ألف مقال متنوع بالصحف، توفي في 23 يناير 1952 بعد ساعات قليلة من سقوطه في شارع عماد الدين وشُق رأسه ودفن في مسقط رأسه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع:

1- أنظر مقال بعنوان "معارك فكرية.. شخصنة المعارك، المصري اليوم"، الأربعاء 02-09-2009 23:00 |

2- محمد السيد الطناوي: زكي مبارك.. ثورة أديب، أصوات، يونيو 1, 20182٬214 3 دقائق

3-فاطمة عمارة: شاعر الأزهر المشاغب ومصحح أخطاء المستشرقين.. محطات في حياة زكي مبارك، الأهرام، 5-8-2021 | 15:34

4- أنور الجندي: زكي مبارك دراسة تحليلية لحياته وأدبه، القاهرة، بدون تاريخ.

5-  ................ : المعارك الأدبية في مصر منذ 1914-1939"،  القاهرة، بدون تاريخ.

5- أنظر مقال بعنوان "وجه المعارك الأدبية الجميل".. مبارزة طه حسين والعقاد الأشهر، الأربعاء، 05 يونيو 2019 11:07 م

 

في المثقف اليوم