شهادات ومذكرات

لمحات من حياة الفيلسوف اليوناني دايوجين

عُرف عن سقراط انه لم يكتب أي شيء، لكننا على الأقل لدينا حوارات كُتبت بواسطة المعاصرين له مثل افلاطون وزينوفون اللذان ادّعيا انهما سجّلا ما قاله.  الفيلسوف دايوجين Diogenes (404-323 قبل الميلاد) ربما كتب او لم يكتب أي شيء، غير ان المصادر اللاحقة أوردت عناوينا لأعمال مفقودة نُسبت اليه. هناك ايضا رسائل يُقال انها له رغم الاعتقاد الشائع انها زائفة. لكن ديوجين لم يتوفر له سجل معاصر لأفكاره. كان علينا ان نعيد تشكيل حياته وأفكاره من اقتباسات ونوادر من مصادر جاءت بعد وقت طويل من وفاته. بعضها ربما صحيحة، اخرى أقل وضوحا، العملية أشبه بمحاولة عمل لعبة تركيب الصور المقطوعة بدون وجود صورة يمكن العمل منها،حيث اننا ليست لدينا جميع قطع اللعبة، وان بعض القطع التي لدينا قد لاتنتمي للّعبة ابداً.

لنبدأ بما يبدو مؤكدا نوعا ما.  وُلد ديوجين في مدينة سينوب sinope اليونانية على الساحل الجنوبي للبحر الاسود. سينوب كانت مركزا تجاريا رئيسيا. انها تقع في نهاية طريق تجاري من بلاد ما بين النهرين وكانت ترسل البضائع الثمينة الى قلب العالم الهيليني. والد ديوجين (هيكسياس) كان مصرفيا وايضا يتولى مهمة سك النفود. هذا قاد الى فضيحة اشترك بها اما ديوجين او اباه او كلاهما. كان من المعتاد القول ان شخصا ما "أعاد ختم" العملة . لاحقا، وصف ديوجين هدفه بـ "إعادة ختم" الكائن البشري. ديوجين نُفي من سينوب، هذا أدى الى أول نكتة ساخرة نُسبت اليه: عندما قال شخص ما  ان"مواطني سينوب حكموا عليه بالنفي، أجاب، "نعم، وانا حكمت عليهم بالبقاء حيث هم الآن".

ذهب ديوجين الى المنفى في اثينا، المركز الفكري للعالم الهيليني. هو درس تحت اشراف انتيثينس Antisthenes، أحد أتباع سقراط. انتيثينس شارك في جزء صغير من مسرحية في حفل زينوفون ولم يُدرج في الحفل كمواطن اثني المولد. هو كما بالنسبة لديوجين، كان شيئا خارجيا. هو كان ايضا حذرا من ان يدرّس طلابا، لكن وكما تذكر القصة، عندما أصر ديوجين وهدّده انتيثينس بعصاه، أجاب ديوجين "اضرب ان كنت ترغب، انا اقدم لك رأسي، لكنك سوف لن تجد عصاك قوية بما يكفي لتدفعني بعيدا عن خطابك". وكما يقول كاتب سيرة ديوجين (لايرتيوس) ،"منذ ذلك اليوم هو اصبح تلميذا له، وكونه في المنفى، كافح ليعيش حياة بسيطة".

سقراط الذي مات عندما كان ديوجين شابا، حاول ايضا ان يعيش حياة بسيطة . هو عادة يمشي حافي القدمين رغم انه يلبس خفا عند المناسبات وكان يرتدي الملابس الرثة، لكنه امتلك بيتا وعائلة. وبينما كان يمشي في السوق، اشتهر سقراط بقوله "كم عدد الاشياء التي لا احتاجها". ديوجين سار على خطى سقراط في بساطته وصولا الى استنتاجاتها المنطقية، وبقدر ما فعل افلاطون، المعاصر لديوجين،والذي اسماه "سقراط المجنون". تستمر القصة في ان ديوجين شاهد فأرا يأكل بقايا الخبز اليابس الذي كان يتناوله ديوجين، وكان متحمسا ليقلل حياته الخاصة الى الحد الادنى. لذا هو اختصر ملابسه بعباءة واحدة يستطيع طويها مرتين لتجعله باردا في الصيف ودافئا في الشتاء. هو باستمرار يمشي حافيا. يحمل حقيبة لبعض اللوازم التي يحتاجها خاصة طعامه . هو عاش مستجديا، لكنه كان يرغب بالدعوة لغداء  - مع انه رفض مرة الغداء للمرة الثانية من مضيف لم يكن يشعر بالراحة عندما استضافه في المرة الاولى. هو لم يكن لديه  بيت وكان ينام في وعاء كبير من الفخار سمي "البرميل". قصة اخرى حول تقشفه هي انه امتلك كوبا خشبيا ولكن رماه بعيدا عندما رأى شابا يشرب الماء براحتي يديه، وادرك انه سلفا لديه ما يحتاج للشرب. احدى أفضل القصص عنه هي انه اعترف بحاجته للراحة الجنسية. من اللافت،انه بسبب سلوكه "الطبيعي" و"الحيواني"  اصبح يُعرف بـ "الكلب" وفلسفته سميت الكلبية.

فلسفة دايوجين

ولكن ماذا علّم ديوجين وكيف؟ "كيف" يسهل الجواب عليها. هو بدأ التعليم بواسطة الأمثلة، وبواسطة الطريقة التي عاشها. لم يطرح ديوجين فلسفة منهجية وانما طرح تحدّيا منهجيا. التحدي كان لإفتراضات المجتمع اليوناني المتحضر. قصة اخرى حوله كانت انه يشعل مصباحا في ضوء النهار ويمشي حوله قائلا "انا ابحث عن انسان نزيه". هو قصد بذلك انه يبحث عن فرد يفكر ويعمل لنفسه بدلا من اتّباع غرائز القطيع. (الفردية في اثينا كانت فقط لمالكي البيوت من الذكور). موقفه تجاه الدين كان، على الأقل مشككا. هو اشار الى تصادم الدين مع الأخلاق: "عندما جادله الاثنيون ان يجعل نفسه معلما، قائلين ان التعليم ينال موقعا متميزا عند الآلهة، قال "من السخف ان ملك اسبارطة Agesilaos ورجل الدولة Epaminodas يعيشان في الوحل بينما الناس التافهين عديمي القيمة ينعمون في جزيرة بليست فقط لأنهم كانوا متعلمين". (جميع الأقوال والاقتباسات لديوجين مقتبسة من دايوجين ،الكلب: اقوال ونوادر، روبن هارد،2012).

وكما  في سقراط، كان ديوجين في الاساس أخلاقيا. هو كان يسأل السؤال ، كيف يجب ان يعيش الانسان؟ لكنه عرض حلا اكثر ثورية من سقراط، و أجاب عليه ليس بالتحدث وانما بالعمل والبيان. ربما البيان كان بعيدا جدا، لأنه كان متهما عادة بالتواضع المفرط. 

حتى الان كل شيء معقول. ولكن عندما يغادر ديوجين اثينا فان كل القصص حوله تصبح عرضة للسؤال. يقول احد بينما هو يبحر الى ايجينا اُلقي القبض عليه من قبل قراصنة وبيع كعبد (هي مشكلة شائعة في السفر في ذلك الوقت، حصلت مرة الى افلاطون). حسبما يقال استجاب ديوجين لهذا التعامل بالقول "كم هو استثنائي لو ان احدا لديه خنازير او أغنام ينوي بيعها، يقوم بتسمينها حتى تسمن، ومع ذلك عندما يتولى احد مسؤولية تجاه افضل المخلوقات - الكائن البشري، يُترك يتضور جوعا بلا طعام حتى يصبح هيكلا عظميا ثم يُباع مقابل اغنية". هذا المنطق أقنع القراصنه لإطعامه وزملائه الأسرى حتى وصلوا سوق العبيد في كورينث corinth. القصة تشير الى عدم عقلانية سلوك القراصنة.

عند الوصول الى كورينث، عُرض للبيع. الدلال سأل، "ماذا تعرف عن كيفية ما تفعل ؟" أجاب ديوجين: "انا سأقوم بافضل عمل لو أي شخص يريد شراء سيد". في كورينث يوضح ديوجين أشهر لقاء له في حياته وهو لقاء الاسكندر الاكبر. طبقا للقصة كان ديوجين يستمتع بضوء الشمس في بستان بمدينة كورينث، عندما سمع الاسكندر بشهرته كحكيم، جاء لمقابلته . واقفا امامه،قال الاسكندر،"اطلب ما ترغب مني" أجاب ديوجين، "ابتعد من أمامي". هذه العبارة قد تعني لا تحجب عني ضوء الشمس، ولكن ايضا ربما تعني "لاتحجب الضوء الذي أمنحه للعالم". كاتب سيرته يورد عناوين لـ 13 حوار و7 تراجيديات (ديوجين سمى التراجيديات دمى كبيرة تُعرض للحمقى). احد الحوارات كان عنوانه بوردالوس والذي يبدو من المرجح جدا ان ديوجين كتبه.

كورينث ايضا توفر قصة اخرى هامة عن حياة ديوجين : "عندما اُبلغ ان فيليب المقدوني على وشك ان يهاجم كورنيث، وكان جميع المواطنين يمارسون عملهم الشاق ومنغمسين في واجباتهم، بدأ ديوجين بلف جرته الى الامام والخلف ، وعندما سأله احد عن سبب قيامه بذلك، أجاب "لأنه عندما يكون كل شخص منهمك في عمل شاق، فمن الصعب علي ان لا احرك ساكنا، لذا الفّ جرتي لأني ليس لدي عمل آخر استطيع القيام به". بمعنى آخر: كل شخص آخر منهمك في نشاط لا معنى له ضمن عقلية الحشد، ولهذا انا ايضا اقوم ببعض النشاط الخالي من المعنى.

استنتاج

سعى ديوجين ليبيّن بالأمثلة كيف يعيش المرء حياة مستقيمة ومستقلة بالاعتماد على الذات وقريب من الطبيعة ان أمكن. رغم ان ذلك هو الطموح لكننا يجب على الأقل ان نسأل الى أي مدى يمكننا اتّباع ديوجين في هذا الاتجاه. أنصار ديوجين سألوا فعلا هذا السؤال، لكنهم وبشكل عام لم يتّبعوه على طول الطريق. غير ان هناك ايضا مدرسة ساخرة في الفلسفة أثّرت لاحقا وبشكل كبير على الرواقية. اتباع المدرسة ايضا كانوا مؤمنين بعمق بأهمية الفرد واستقلاليته واختياراته.

ان موت ديوجين هو ايضا يكتنفه الغموض. احدى الروايات تقول انه مات بنفس الطريقة التي مات بها الاسكندر. طبقا لاحدى الروايات انه ارتكب الانتحار بحبس أنفاسه، اخرى تقول انه مات بعد ان تناول اخطبوطا  نيئا ليثبت انه لا حاجة هناك للطبخ. اخرى تقول انه كان يقطع الاخطبوط ليطعم بعض الكلاب لكن أحد الكلاب عضه من قدمه. ديوجين "الكلب" مات بواسطة كلب، مثل البطل أخيل الذي مات بجرح في قدمه. قيل ان ديوجين أوصى بان لا يُدفن وان يُرمى جسده في نهر ليسوس. لكن بوسناس pausanias يذكر في (دليله لليونان) : "عندما يقترب احد من مدينة كورينث، سيرى من بين العديد من النصب التذكارية على طول الطريق نصب ديوجين السنوبي الذي دُفن قرب البوابة، ويُعرف بين اليونانيين بـ الكلب. ربما الكورنيثيين قاموا بذلك  لأنهم يدركون كم سيزعجه ذلك. 

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم