شهادات ومذكرات

سيد القمني.. عالم ومفكر مثير للجدل ومناهضا للفكر ألمتأسلم

3817 السيد القمنيسواء نتفق أو نختلف مع سيد القمني (1947-2022)، لكن لا ننكر أن الرجل يعد واحدا من أكثر مفكرينا المصريين إثارة للجدل بآرائه التصادمية الجريئة مع رجال الدين المسلمين وحركات الإسلام السياسي من جهة، واحتسابه ضمن التيار العقلاني والتنويري، مثل فرج فوده من جهة أخرى.. يتأرجح الموقف منه ؛ علاوة على ان معظم أعماله تناولت مرحلة حساسة من التاريخ الإسلامي، فالبعض اعتبره باحثاً بالتاريخ الإسلامي من وجهة نظر ماركسية، في حين أنه يعتبر نفسه من أتباع فكر المعتزلة.

كذلك يعد سيد القمني في أغلب أبحاثه أن العامل السياسي هو السبب في اتخاذ القرار الديني، وذلك في الفترة المبكرة من التاريخ الاسلامي، ويظهر هذا جليًا في عدد من كتبه مثال «الحزب الهاشمي تأسيس الدولة الإسلامية» في هذا الإصدار حاول القمني إظهار دور العامل السياسي في اتخاذ القرار الديني في التاريخ الاسلامي المبكر. ناقش دور البيت الهاشمي في التمهيد لتأسيس الدولة الإسلامية على يد النبي محمد، ورصد ما كان لديهم من تطلعات ليكونوا أصحاب حكم ورئاسة، وناقش أيضا دور مركز مكة التجاري في دعم تلك التطلعات، وإرساء قواعد الدولة الإسلامية الناشئة.

ولم يكن القمني الأول في قائمة منتقدي التراث والفكر الديني والمطالبين بالتجديد، لكنه يختلف عمن سبقوه في أنه اختار الاشتباك مستخدما ما سماه أسلوب "الصدمة"، ما جعل بعض منتقديه يعتبرونه باحثاً عن الإثارة وليس الفكر الجاد، واتهمه معارضوه بأنه لم يكن أميناً على المنهج العلمي والبحثي بقدر اهتمامه بإثارة الجدل من حوله.

وبحسب ما ذكرته في مقال سابق لي في صحيفة المثقف الإلكترونية، عن سيد القمني في 2020، حيث ذكرت بأن سيد القمني ينتسب إلى طائفة من الباحثين في علوم الدين، واجتماعيات الشريعة الإسلامية، ممن يفكرون خارج مناطق الصندوق التقليدي للفهم الديني، وهو ما جر عليه مصاعب حياتية قصوى جعلته في مرمى التكفير والتهديد بالقتل، كما فعلت في العام 2005 «جماعة الجهاد»، التي اتهمته بالخروج عن نواميس الشريعة، وبأنه «مارق» و«مرتد»، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة دق جدران خزان المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي، مواصلاً مسيرة مفكرون عرب وإسلاميين بعضهم قضى نحبه في هذا الطريق الزهرة.. راح القمني منذ حصوله على الدكتوراه في تأريخ علم الاجتماع الديني، يبحث في مناطق إشكالية في التاريخ الإسلامي، وفي النصوص الدينية، اسفرت عن عدد من الكتب جرى مصادرة اغلبها من قبل الأزهر، وتعرض بسببها إلى المحاكمة باعتباره «مرتدًا».

ولم اكتفي بذلك بل نقلت عن الكاتب الصحفي مجدي حسين بان القمني من الباحثين الذين وهبوا حياتهم للأسطورة والتاريخ والبحث في سراديب الاديان المقارنة، كاشفًا عن الجواهر التي تختفي وراء الانقطاع المعرفي والاغتراب عن النسق. ٱثر البقاء في صومعة البحث العلمي، راهبًا في محراب تاريخ المنطقة التي شهدت الأديان السماوية الثلاثة الكبرى اليهودية.. المسيحية.. الإسلام. رافضاً العمل في الجامعات ومراكز الابحاث، ويرجع السبب في نظره الي رفض اساليب التعليم ليس في الجامعات المصرية فحسب، بل في الجامعات العربية كلها، خاصة أن المادة العلمية التي يبحث فيها والمنهج الذي يستخدمه له من التميز والخصوصية ما قد يتعارض مع اساليب التعليم المعمول بها في مصر أو الوطن العربي، بل قد يحدث معه ما هو انكى من ذلك.. وأبحاث الدكتور القمني ترتكز على دراسة تاريخ الأديان والتاريخ المقارن وأساطير مصر القديمة، أي في المنطقة الحضارية الأولى، التى بعثت الدراسات فيها منذ أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن الماضي، وأوائل القرن الحالي، سعيًا لإثبات هذه الوحدة الحضارية في ديانات، وثقافات الشرق القديم. في حين يرى بعض النقاد، انه لا يفرق في تحليلاته بين ما ينتمي إلى السجل الخرافي ولا ذلك المحسوب على العقل، وإنما بموضعهما معًا في إطار الشروط التاريخية والثقافية التى فعلت في إنتاجهما. إنها المسافة الضرورية واللازمة مع التراث التي تجعل الإنسان يدرك أن ذلك المأثور في كليته ما هو إلا نتاج اجتهادات أهل عصوره.. عمل إنساني. وبحكم نقده العميق للاسلام السياسي والمراجعة التفكيكية للتراث الديني جعلت القمني في عين العاصمة باستمرار. ولم يكن، كما أشار الاستاذ اسامه خيي في احد مقالاته، صدفة أن بهدر دمه قبل عشر سنوات ولا أن يلاحقه محتسبة الإخوان والنظام معا في محاكمة شهيرة ترافع فيها، ليس عن نفسه، وإنما عن الفكر الحر بمعرفة عميقة بالفقه والشريعة والاصول. وهو ما فعله مع صنوه في جبهة التنوير، المفكر الراحل نصر حامد ابو زيد يوم كالوا له تهمة الخروج عن الملة وسعوا لتطليقه من زوجته. يجسد سيد القمني، الذي ساهم في إحياء تراث المعتزلة، امتدادا لتلك المدرسة والمنارة الشاهقة التى وضع حجرها الأساس مفكرون في قامة طه حسين وعلي عبدالرازق ولطفي السيد وسلامه موسى ومحمود أمين العالم وفرج فوده وسواهم كثير.

ولد القمني عام 1947 في إحدى قرى مدينة الواسطى في محافظة بني سويف (شمال صعيد مصر)، ونال شهرة واسعة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة بفضل المعارك الفكرية والمناظرات الإعلامية التي خاضها سواء مع قوى فكرية محافظة أو مع مثقفين من داخل معسكر "التنوير" الذي عد نفسه ممثلاً له. بدأ القمني رحلته مع الكتابة عبر سلسلة من المقالات كتبها في الأنثروبولوجيا التاريخية، وعلوم المصريات ضمن أعداد مجلة "الكرمل" الفلسطينية، التي كانت تصدر برئاسة الشاعر محمود درويش نهاية الثمانينيات. وشكلت تلك المقالات نواة لكتابه الأول "إيزيس وعقيدة الخلود"، ولم يثر الكتاب سجالات واسعة كتلك التي عرفها كتابه "النبي إبراهيم، التاريخ المجهول"، الذي أجرى فيه مقاربات تاريخية حول الديانة الإبراهيمية ومسارها في الجزيرة العربية.

وقد صعدت أسهم القمني في المجال العام خلال تسعينيات القرن الماضي عقب المواجهات الفكرية والأمنية التي شهدتها مصر مع قوى الإسلام السياسي، مما أدى إلى نمو حركة فكرية استهدفت نقد تلك التيارات على اختلاف مصادرها الفكرية والعقائدية. وشملت تلك الحركة مساهمات مفكرين بارزين من دارسي الفلسفة أبرزهم أستاذ الراحل، الفيلسوف فؤاد زكريا وآخرون من أنصار الفكر الاعتزالي، منهم المفكرون حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وشهدت مصر أيضاً تغييرات في سياساتها الثقافية بحيث تولى مثقفون يمثلون القوى الليبرالية مواقع مؤثرة داخل المؤسسات الثقافية وعلى رأس مطبوعاتها، وكان من أبرزهم الناقدان الراحلان جابر عصفور وغالي شكري. وبينما راج الحديث في الأوساط الثقافية عن "التنوير" الحكومي مع صعود تيار الإصلاح الثقافي من داخل الدولة، انتقد ممثلو الإسلام السياسي هذه الوجوه، بزعم تمثيلها الأفكار اليسارية المناهضة للفكر الإسلامي.

وفي السياق ذاته تولت دار سينا في مصر ودور نشر أخرى مماثلة، نشر مجموعة من المؤلفات لباحثين، أبرزهم المستشار محمد سعيد العشماوي والشيخ خليل عبد الكريم وسيد القمني الذي حقق مؤلفه "الحزب الهاشمي" نجاحاً كبيراً أسهم في تكريس اسمه كصوت نقدي في مجال الدراسات المرتبطة بالتاريخ الإسلامي. وتوالت بعد هذا الكتاب مجموعة من المؤلفات التي كانت تحقق مبيعات كبيرة وتحظى بانتشار في أوساط معارضي الحركات الدينية الراديكالية ومنها "حروب دولة الرسول"، و"قصة الخلق"، و"النسخ في الوحي".

وأظهر القمني في معظم هذه المؤلفات دور العامل السياسي في اتخاذ القرار الديني داخل دولة الخلافة، فضلاً عن مركزية قبيلة قريش في تأسيس الدولة الإسلامية والانتقال من القبيلة إلى الدولة. ودعا إلى التفرقة بين الدين والفكر الديني، فضلاً عن اهتمامه بدراسة القرآن الكريم في سياقه التاريخي وفحص أسباب النزول.

وبسبب ميله نحو السجال وخوض مناقشات فكرية ومناظرات استنزفت قدراته في معارك كلامية، اتهم القمني بأنه لم ينجح في تطوير أدواته النقدية، وبالتالي فإن الكثير من النقد الموجه إلى مؤلفاته لم ينطلق من القوى الفكرية التي ناهضت أفكاره، وإنما جاء أيضاً من المعسكر الذي انتمى إلى آرائه في شأن المطالبة بدعم القوى المدنية، لإفساح المجال أمام وجودها في الفضاء العام، حتى إنه اتهم بتزييف وثيقة حصوله على درجة الدكتوراه.

وفي رباعيته المثيرة للجدل والتي بدأت بكتابه "الحزب الهاشمي"، و"حروب دولة الرسول"، و"الدولة المحمدية"، و"النسخ في الوحي"، حاول القمني أن يقدم قراءة اجتماعية سياسية للسيرة النبوية، ووصف كتبه الأربعة بأنها "ليست في الدين ولا في أي من علومه، إنما هي محاولة استكشافية للحكمة الإلهية على أرض الحجاز، وكيف هيأت تلك الحكمة الواقع لتقبل الدعوة"، بحسب تصريحاته الصحافية وقتها، مضيفاً: "لا أنا مفسر ولا مفتي، إنما باحث يستخدم المنهج العلمي بخطواته الدقيقة لقراءة واقع أرضى، بعد أن تحدثوا كلهم في الغيب السماوي".

والقمني أعلن في مناسبات عديدة وعبر الإعلام، أنه لا ينقد الدين، بل التراث البشري الذي يقرأ النصوص الدينية، ومن تصريحاته: "كان التراث الإسلامي عندي هو محل النقد والتفنيد والدرس وليس الإسلام كدين"، واعتبر أن انتقاده من المؤسسات الدينية الرسمية، بسبب أن "كتاباته تسحب عنهم القدسية وتسقط عنهم الوجاهة الاجتماعية والسيادة، ولذلك يريدون اغتيال الكلام المختلف، حتى لا نعود نميز بين الصواب والخطأ"، وأضاف: "لو كان كلامي خطأ فلماذا لا يتركونه ليثبت صوابهم وسلامة موقفهم أمام الناس؟ أم أنهم يعلمون صوابه وأنه يكشفهم أمام المسلمين المخدوعين فيهم، لذلك يحرمونه ويكفرونه حتى يصرفوا الناس عن معرفته؟".

وقد غيب الموت الكاتب المصري سيد القمني (1947-2022)، إثر أزمة قلبية، بعد حياة حافلة بالصخب، والجدل، والمعارك وإثارة الأسئلة بسبب انتقاده التراث الديني ومطالبته بالتجديد، ورحلة فكرية تميزت بمواجهات حادة مع الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية من جهة، وتيارات الإسلام السياسي من جهة أخرى، وأسفرت عن 30 كتاباً ومئات الأبحاث والمقالات.

وقد نعاه الدكتور خالد منتصر قائلا:" رحل سيد القمنى، واحد من أهم قامات التنوير العربى، رحل بعد أن شكّل وعى جيل لم يكن يعرف أن علوم الدين القديمة من الممكن أن توضع على مائدة تشريح علوم حداثية جديدة مثل علم الاجتماع الدينى واللسانيات ومقارنة الأديان والأنثروبولوچى، رحل بعد معارك مريرة ضد فكرة الوصاية الدينية وتسلط الإسلام السياسى، كاد يفقد فيها حياته، وتعرّض أثناءها للتهميش والتهديد والمطاردة. ميلودراما قصة رحيله -وقد كنت قريباً منها- لها دلالات عن وضع المثقف العربى المتعفف الشريف، كيف ينتهى به الحال إذا أصر على الاستقلال برأيه، نهاية «سيزيف» الذى ما إن يدحرج الصخرة إلى أعلى الجبل حتى تسقط، تتدحرج ثانية إلى أسفل وسيزيف يحاول ويكرر المحاولة وسط طعنات زومبى الغوغاء المتربصين وامتعاض النخبة الكسولة، وها هى بعض أقوال القمنى التى لن يمحوها الزمن، والتى تلخص لكم لماذا يكرهه الأصوليون ويشمتون فى موته، كتب القمنى: فى هذا الزمن يتصور بعضنا أنه ممثل الرب فى الأرض وأنه الوحيد الذى اطلع على المقصد الإلهى من كل نصوصه دون غيره من البشر، ومن ثم ينفى ويصادر ويكفر رأياً يخالفه لأن رأيه هو الصواب المطلق ورأى أى مختلف معه هو الكفر المطلق.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- خالد منتصر: وداعا خالد منتصر، الوطن، 10:03 م | الإثنين 07 فبراير 2022.

2- فهد المضحكي: رحل سيد القمني.. المناهض للفكر ألمتأسلم، الحوار المتمدن-العدد: 7160 - 2022 / 2 / 12 - 10:10

3-  نرمين ضيف الله: رحيل سيد القمني.. تعرف على سر حذف كتب أجرأ باحث إسلامي، الدستور، الأحد 06/فبراير/2022 - 09:41 م.

4-محمد شعير: سيد القمني.. رحل الكاتب ويبقى الجدل، الشرق، 07 فبراير 2022 17:22آخر تحديث:07 فبراير 2022 17:23

5-أحمد عبد الحكيم: قصة المناظرة التي قتلت المفكر المصري فرج فودة، الاثنين 10 يونيو 2019 1:49.

في المثقف اليوم