شهادات ومذكرات

كُتَّاب القرية

منير لطفيإذا كان للقرية أن تفخر على المدينة، وحقّ لها أن تفخر، فسيكون الكُتّاب من كبْريات بواعث هذا الفخر، وعُدْ بالذاكرة إلى أعلامٍ في الأدب والفكر والسياسة والدّين والثقافة، أمثال طه حسين ورفاعة الطهطاوي وسعد زغلول والقرضاوي وأنيس منصور، وستجد للكُتّاب بصمة بارزة لا تُمحى، سواء من جهة صقل اللغة، أو شحذ الذاكرة، أو حبّ العلم، أو الارتباط بالقرآن ارتباطا وثيقا لا ينفكّ بمرور الزمن. ثمّ ارجع البصر كَرَّتيْن، وستجد أساطين القرّاء  رفعت واسماعيل والمنشاوي والحصري وغيرهم، هم أبناء هذه الكتاتيب وصنيعتها. بل إنّ بعض المؤرّخين ينسبون للكتاتيب دورا تاريخيا في الحفاظ على اللّسان العربي من الاندحار أمام اللسان الأعجمي إبّان السبعة عقود (1882-1954م) التي احتلّ فيها الإنجليز مصر.

ومن محاسن الأقدار، وهي عصيّة على العدّ والإحصاء، أن ذخرَت قريتي، كبقية القرى المصرية آنذاك، بستّة كتاتيب، احتلّ ثلاثة منها مركز القلب، بينما تناثرت الثلاثة الباقية خبط عشواء على الأطراف كحماة الثغور وحرس الحدود، ومنها كُتّاب شيخي محمد المنجي رحمه الله، والذي تجاورت عتبتُه مع عتبة بيتنا ولم يفصلهما سوى بضع خطوات بمقدوري مشْيها مغمَض العينين وطيّها قبل ارتداد الطّرْف. وما كان هذا الكُتّاب، كغيره من الكتاتيب، سوى غرفة مقتطَعة من صدر بيت الشيخ، يمتدّ أحيانا ويتوغّل صوب صالة واسعة عند ازدياد العدد وعجز الغرفة عن استيعابه، ولا مانع من استغلال (مصطبة) تحتلّ واجهة البيت، لا سيّما وقت العصر حين تهدأ  الشمس ويهبّ النسيم وتتراقص الأغصان وتعزف الأوراق لحن الحفيف.

عَشْر سنوات كحِجج موسى عليه السلام بمَدْيَن، أمضيتُها في رحاب هذا الكُتّاب المتواضِع مبنًى والعظيم معنى، بدأَت في سنّ الثالثة أو الرابعة، وتَوقّف قطارُها في سنّ الثانية أو الثالثة عشرة، بعدما دقّ جرس الصف السادس الابتدائي أو ما يُسمّى الشهادة، التي كانت حينذاك حدَثا جلَلا وعلامة فارقة تقتضي التفرّغ التامّ للمذاكرة، وليته ما حدث.

بدأْتُ الرحلةَ، كبقية أقراني، من وسط غرفة متربة جرى تبليطها لاحقا، نفترش فيها الأرض أو نقتعد  كيسا من الخيش يُعرف بالشِّوال نتأبّطه في الذهاب والإياب، ثمّ نُمضِي بياضَ النهار في التحديق بلوح خشبي أسود معلّق على الحائط، بعدما مُلئت صفحتُه بأحرف الهجاء وعلامات التنوين والأرقام الحسابية من واحد إلى عشرة، وما علينا سوى أن نردّد في حماسة الجنود وراء مقرئ حاذق يعيّنه الشيخ ويستبدله من يوم إلى آخَر، ويا سَعد مَن ينال هذا الشرف الرفيع؛ إذ يقف المقرئ  كالزعيم ونحن على الأرض جلوس كالعبيد، وفي يده عصا ونحن  كالأسرى عُزّل، وبيده سلطة الإبلاغ عن متقاعِس لا يزعق كباعة الأسواق ولا يصهل كالخيل في البرِّيّة.

 وما إن أتقنْت هذه المرحلة الافتتاحية المسمّاة بــ (التّخْتَه)، حتى قفزْتُ إلى مرحلة أرقى وهو مرحلة (وَزَنَ)، وفيها يودّع الطالب وسط الغرفة، فيسند ظهره إلى الحائط ويشرع في تعلُّم كلمات وعبارات وفقرات منتَقاة ضمن كِتاب مقرَّر بغْية إتقانها قراءة وكتابة، قبل أن يدخل المرحلة الثالثة وهي مرحلة (الجُزْء)، وفيها يصافح آي القرآنَ لأوّل مرّة ويشرع في حفظ جزء عمّ ثمّ تبارك ثمّ قد سمع، تمهيدا للصعود إلى علْية القوم في مرحلة (المصحف)، والبدء في مشوار جديد للحفظ من سورة البقرة إلى ما شاء الله له أن يتمّ.

 ويا له من مجد أثيل حين تحتضن المصحف بأجزائه الثلاثين جيئة وذهابا، وحين يصطفيك الشيخ لتحتلّ مكانه فتهزّ رأسك وتطوّح جذعك وتؤدّي مهمة استثنائية في التسميع لمَن هم دونك مِن طلّاب الجزْء، وذلك على عادة التفويض المعمول بها في قوامة المرحلة الأعلى على المرحلة الأدنى، خاصة حين يكون عددنا فوق طاقة الشيخ وتتكاثر عليه مسئوليات أسريّة يستدعي لها بعضَ كبار الطلّاب لإنجازها، ولكن –والحقّ يُقال- لم يصل الأمر إلى سُخرة سردها الكاتب السعودي أحمد السباعي في مذكّراته عن الكُتّاب قائلا: "كُنّا نُصطفَى لكثير من الخدمات؛ فمنّا مَن تخصَّص للمروحة إذا اشتدّ الحرّ على سيّدنا، أو يدلّك رجليه إذا احتاج إلى (التكبيس)، وفي بعض الأحيان يُسلمني نعاله أمضي بها إلى الخرّاز وأبقى إلى جواره في انتظار الفراغ من تسميره، أو يبعث بي إلى أمّه في دارها أعاونها في غسل الصحون وأعني بطفلته الصغيرة  عندها".

مع العلم أنّ عمر كلّ مرحلة من المراحل الأربع السالفة هي بالشهور والسنوات، وأنّ التفويض الممنوح  لطلّاب المصحف في التسميع يقتصر على (التَّبِّيتْ) دون (اللُّوحْ).. واللُّوح لمَن لم ير نور الكُتّاب ويستنشق عبيره، هو بضع آيات جديدات يتوجّب على الطالب حفظها يوميا، ويحرص الشيخ على أن يكون زمامه بيده وإشرافه عليه كامل، للتأكيد على مخارج الألفاظ والنطق السليم وأماكن الوقف والابتداء، ولكن دون تطرُّق إلى أحكام التلاوة النظرية التفصيلية أو تفسير المعاني وشرح المفردات. أمّا (التَّبِّيت)، فهو إعادة تسميع ما سبق حفظه من آيات السورة نفسها، على قاعدة أنّ ما تَكرَّر تَقرَّر. بينما (الماضي)، يُطلَق على ما سبق حفظه من القرآن كاملا، وعلى الطالب أن يقرأه منفردا كلّ يوم، ولا سبيل لمغادرة الكُتّاب والفرار من قبضته إلّا بعد إتمامه.. وذلك –وأيْم الله- نظام عجيب وفريد في كيفية تحصيل العِلم وحفظه وتثبيته!

وعلى هذا النحو حفظْتُ بحمد الله وتوفيقه ثلثَي القرآن، قبل أن يصدر الفرمان العائلي بالتوقّف عند هذا الحدّ، بدعوى التفرّغ للمدرسة والمساعدة في فلاحة الأرض التي لا تستثني صغيرا أو كبيرا ولا رجلا أو امرأة، ولكلٍّ دوره الذي يناسبه. ولا دخل للمادّة والتكلفة في هكذا فرمان، إذ إنّ ما يتقاضاه الشيخ لم يكن سوى قروش زهيدة تُدفع حين ميسرة، أو كيْلا معلوما ممّا تدرّه أرضنا السمراء من قمح أو شعير أو ذرة أو ما شابه.

وحين أفتّش عمّا أفرزه مكثي في الكُتّاب وحفظي لهذه الأجزاء العشرين؛ تطالعني نظرة التقدير من الأبويْن عليهما من الله سحائب الرحمة، ويلوح لناظري سيماء الزهو الذي تبديه العائلة في كلّ مناسبة تجمعهم مع غرباء يفتقرون إلى مثل هذا الفَسْل النحيف الذي يبهرهم بكَرّ الآيات تلو الآيات وهم صامتون مشدوهون كأنّ على رؤوسهم الطير! وحدِّث ولا حرج عن عبارات الثناء من المعلّمين حال إسنادهم مهمّة الإلقاء إليّ داخل الفصل وأثناء الطابور.

 كما لا أنسى كيف كان هذا الارتباط مع القرآن مدخلا للالتزام الخُلقي، ومانعا من الانخراط في ترّهات الصِّبا ومهاترات الطفولة؛ فيا ويلك إن نما إلى سمع الشيخ أنك تسبّ وتشتم، ويا خيبتك إن فاتتك الصلاة وأنت الحافظ لكتاب الله، ويا سواد ليلك إن ادّعى عليك أحدُهم سبّ الدِّين، وكثيرا ما كان يَصدر ذلك من الأطفال وهم يتناوشون أثناء اللّعب بالكرة الشّراب أو يتبارون في الركض من حارة إلى حارة، وحاشا لله أن يكونوا طرفا في معارك الأحجار السوداء مع عدوّتها البيضاء على رقعة الشطرنج.

ولعلّ برَكة القرآن كأوّل عِلم يقتحم عقلي الصغير ويسكن قلبي الغضّ، هو السبب الكامن فيما انتشيتُ به من ذاكرة نُعتت في شبابي وكهولتي بالحديدية، لدرجة إنْ شدّد أحدُهم عليّ بألّا أنسى طلبه، أَجبتُه: إنني لست سوى ذاكرة. وهذا ما خبرتُه أيضا في زميل حافظ لكتاب الله، كان أعجوبة في التذكّر وخصما عصيًّا على جحافل النسيان، ممّا أهّله للنبوغ الطبي والأستاذية في تخصّصه. وعلى صعيد الكتابة؛ ما مِن مشكل نحوي أو صرفي صادف قلمي إلّا وكان القرآن مرجعي في التثبُّت، فأقيس عليه وأمضي مطمئن البال. كما سيلحظ القارئ بلا عناء، تسرُّب الكثير والكثير من الألفاظ القرآنية داخل نسيج حرفي، وهذا شرف لا أتقصّده بل هو اللاوعي الذي يعمل من وراء حجاب فيقود السفين ويستدعي مخزون السنين.

ولأنّ أفضال القرآن ممّا يُعَدّ ولا يُعَدَّد ، فلا عجب إنْ ذكَر مشاهيرُ أهل الغناء- مع بُعْد ما بين القرآن والغناء وبُعد ما بينهم وبين أهل الله وخاصته- فضل الكُتّاب والقرآن  في تجويد أدائهم الصوتي، وهذا ما كتبه المؤرّخ الطبيب محمد الجوّادي  بقوله: "إن معامل اللغات كلها لا تستطيع أن تدرّب أحدا على نطق الحروف من مخارجها على نحو ما يفعل عرّيف الكُتّاب، وذلك أن النص القرآني متميّز  فيما بين حروفه وكلماته المتجاورة بالاقترانات والانتقالات التي لا يمكن تحقيق ارتباطاتها على هذا النحو إلّا بآلاف التمرينات الصوتيّة". ثمّ ضرب مثلا بأم كلثوم التي تكفّل القرآن الكريم –على حدّ قول الجوّادي- بتهذيب صوتها ونطقها ولفظها وتلفّظها ومخارجها ونغمها ونبرها.

كانت هذه إطلالة على زمن جميل للكُتّاب لا سبيل  لاستعادته بشحمه ولحمه، ولكن بمقدورنا بل ومن واجبنا استلهام فكرته والإبقاء على شعلة جذوته، مع الانتباه إلى توسيع ثقافة الشيوخ بتأهيلهم فيما يخصّ علم القراءات والتفسير والفقه، وخلْق بيئة صحيّة تجتاح زِير ماء الشُّرب الفخاري الأشبه ببئر ينضح منه الجميع دون احتراز، وتنسف الحمّام المفتوح المخاصِم للباب والماء، وتكسح فلَكَة العقاب التي قلّما نجا من هولها طالب. وقاتَل اللهُ زوايا مليئة بالغبار، طالما سكنتْها جيوش البراغيث، وقفزت كلاعبي السيرك من ثوب أحدنا إلى ثوب أخيه، قبل أن ترافقنا خفية من الكُتّاب إلى البيت، وتنضمّ إلى بقيّةٍ من جنْسها هناك لا تَنِي تثقب الجلد وتسفك الدم وتنقل المرض.

***

بقلم د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

في المثقف اليوم