شهادات ومذكرات

موسى ابن ميمون.. عاشق الثقافة الإسلامية

محمود محمد عليلا يخلو تاريخ أية حضارة من المبادلات الأدبية والتي تعد نتيجة طبيعية وحتمية لتواصل الحضارات فيما بينها خاصة وأن الحضارة لا تنشأ بمعزل عن سائر الحضارات الأخرى. وعند النظر إلى تاريخ الفكر اليهودي في ظل الخلافة العربية الإسلامية نجد أنه كان لاحتكاك اليهود بالعرب أعظم الأثر في ارتياد الثقافة اليهودية لآفاق معرفية حداثية شديدة التباين عن نتاجها الثقافي التقليدي.

وعند النظر إلى عالم بن ميمون نجد أنه بالرغم من تبوئه لمنصب رئيس الطائفة اليهودية في مصر واشتغاله بتفسير كثير من النصوص اليهودية المقدسة إلا أن عقليته كانت عربية إسلامية خالصة حيث إن نتاجه الفلسفي والديني سواء الذي كتبه باللغة العربية أو باللغة العبرية يتطرق إلى قضايا الذات والصفات الإلهية، وخلق الكون والإنسان، والنفس البشرية والجبر والاختيار، والبعث والخلود والسعادة الإنسانية، تلك القضايا التي كانت تمثل في مجملها محاور الفلسفة الإنسانية، تلك القضايا التي كانت تمثل في مجملها محاور الفلسفة العربية الإسلامية.

وقد عرف العرب موسى بن ميمون، بـ بأبى عمران عبيد الله، وهو طبيب وفيلسوف ولاهوتي يهودي، وتمر اليوم ذكرى ميلاده، إذ ولد فى يوم 30 مارس من عام 1135م، في مدينة قرطبة بالأندلس، وموسى بن ميمون من أطباء البلاط السلطاني فى عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، وليس هذا فقط بل كان أحد المقربين منه، حيث عاش موسى فى مصر فترة طويلة بمدينة الإسكندرية، وكان قد اشتهر بممارسته للطب، صار ابتداء منذ عام 1200م الطبيب الشخصي للقائد صلاح الدين الأيوبي.

وقد كتب عنه القفطي في كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، فقال إن «ابن ميمون اعتنق الإسلام علانية، وإنه عاش مثل المسلمين؛ فكان يرتل القرآن الكريم ويقيم الصلوات الإسلامية، حتى استتبت له الأمور. ثم ترك الأندلس مع عائلته، مرتحلاً إلى مصر التي كشف فيها هويته اليهودية». غير أن هذا الخبر مشكوك في صحته، لأن فترة استقراره بفاس، لا تتجاوز خمس سنوات، وكتب فيها «رسالة عمن يُكرهون على تغيير عقيدتهم»، ردا على الحاخامات بشأن أن الشهادة أفضل من تغيير العقيدة، إلى جانب رسالته الشهيرة إلى يهود اليمن المضطهدين، الذين رفضوا تغيير دينهم. ومما كان شائعا، آنذاك، نداء اليهود بمسايرة واقع الإكراه الديني، عن طريق التمسك سرًا بالعقيدة، والاستمرار في الصلوات، والتمسك بالأوامر والنواهي. ولقد عين رئيسا للطائفة اليهودية أيام صلاح الدين، منذ 1191 التي مكنته من تقلد منصب قاضي قضاة اليهود، والذي مكنه من التواصل مع اليهود في مختلف البلدان، كاليمن وفرنسا وهولندا وإسبانيا، حيث ترك أحكاما شرعية وقرارات وفتاوى غير هينة، لا يزال أثرها جليا في التقاليد اليهودية وفي تراثهم المكتوب والشفوي، لما أظهرته من قدرت على تنظيم الشأن الأخلاقي والسياسي لمعضلة الاضطهاد الديني والعرقي. فرسائله في قضايا الإكراه والإلزام على التعايش مع أديان مختلفة، تصدح بنبرة عقلية لا لبس فيها، وما تحمله من قيم إنسانية كونية، لا تنتصر للتعصب أو الإقصاء، بل تنادي بالتسامح وتعلي من شأن العيش المشترك.

ومن جهة أخرى فقد موسى بن ميمون على اهتمام الكثيرين لدرجة أن أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق ذكره فى مقدمة كتاب للدكتور إسرائيل ولفنسون أستاذ اللغات السامية بدار العلوم، تحت عنوان "موسى بن ميمون .. حياته ومصنفاته"، واعتبره من فلاسفة الإسلام؛ وقال الشيخ مصطفى عبد الرازق، إننى ممن يجعلون ابن ميمون وإخوانه من فلاسفة الإسلام، وقد قلت فى كلمة ألقيتها فى حفلة ابن ميمون بدار الأوبرا فى اول أبريل عام 1935م ما نصه: "أبو عمران موسى بن ميمون فيلسوف من فلاسفة الإسلام، فإن المشتغلين فى ظل الإسلام بذلك اللون الخاص من ألوان البحث النظرى مسلمين وغير مسلمين يسمون منذ أزمان فلاسفة الإسلام. وتسمى فلسفتهم فلسفة إسلامية بمعنى أنها نبتت فى بلاد الإسلام وفى ظل دولته، وتميظت ببعض الخصائص مع غير نظر إلى دين أصحابها ولا جنسهم ولا لغتهم.

ولقد كان لنشأة ابن ميمون في بيئة إسلامية مزدهرة فكريًّا ومتسامحة دينيًّا، أكبر الأثر على فكره وكتاباته الدينية والفلسفية مثله في ذلك مثل بقية أقرانه من العلماء والمفكرين ورجال الدين اليهود الذين نشئوا في ظل الحضارة الإسلامية، لدرجة أن البعض وصف ابن ميمون بأنه فيلسوف إسلامي وليس يهوديًّا، فالدارس للثقافة الإسلامية حين يقرأ كتابه “دلالة الحائرين” يرى أن ابن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية .

في هذا الصدد يقول الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون، ما نصه: (ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثرًا بالغ الحد حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة(.

فقد أخذ ابن ميمون العلم على أيدي ثلاثة من أبرز العلماء المسلمين في عصره، وهم ابن الأفلح، وابن الصائغ، وابن رشد، حين عكف – كما يذكر ابن ميمون نفسه – على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة 13 سنة، وهو ما تجلى في تأثره بفكر ابن رشد تحديدًا لاسيما في كتابه “دلالة الحائرين”. كما كان معجبًا ومتأثرًا جدًّا بالفارابي، ورأى أن كتبه في المنطق هي الأرقى والأفضل.

ويظهر في كتابه دلالة الحائرين اقتباسه الكثير من الكلمات العربية والإسلامية التي مصدرها القرآن الكريم، والمؤلفات الفقهية الإسلامية لا سيما ما يتعلق بقصة الخلق وما يعرف بغوامض العلم الإلهي، فقد وضعه على غرار بعض المؤلفات الفلسفية الإسلامية التي هدفت للتوفيق بين الفلسفة والشريعة؛ ليؤكد بعض الآراء الدينية ؛ إذ حاول تعريف اليهود بأصول دينهم وإعادة إحيائها مرة أخرى، لكن على نسق إسلامي، بشكل يتوافق مع الفكر الفلسفي الذي كان سائدًا خلال العصر الوسيط.

وتجلى تأثر ابن ميمون بالفكر الإسلامي أيضًا في هذا الكتاب، في رفضه التفسير الحرفي لنصوص التوراة، ودعوته إلى إعمال العقل فيها وإعادة تفسير المعاني ما وراء النص، إضافة إلى تأويله بعض النصوص ووضعه تفسيرًا عقليًّا وفسلفيًّا لها، ولهذا يعتبره اليهود واضع أساس التفسير العقلي لليهود على أسس إسلامية.

لقد أعجب موسى بن ميمون بالفلسفة والفلاسفة في الثقافة اليونانيَّة والحضارة العربيَّة والإسلامية، ونهل من علومها وتراثها المتنوع، وبسبب تأثره العميق بتراث الحضارة الإسلاميَّة عُدَّ من قبل كثيرٍ من البحثين –الغربيين والشرقيين- ضمن فلاسفة العرب والإسلام، بسبب عُمق خلفيَّته الحضاريَّة العربيَّة الإسلاميَّة، وشدة تأثره واقتباسه من علوم وثقافة علماء الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.

فيذكر الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون أنّ موسى بن ميمون: “في مناقشاته لنصوص التوراة إنَّما يصدر عن فكر وثقافة إسلاميين”، ويقول أيضًا: “ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا [=اليهود] غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلاميَّة تأثرًا بالغ الحدّ حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة”. وتقول الباحثة المتخصصة في الفلسفة اليهودية تمار رودافسكي: “كان من بين الفلاسفة المسلمين الذين تأثر بهم موسى بن ميمون كل من الفارابي وابن سينا وابن باجة وعلماء الكلام المسلمين”. ويؤكد الدكتور محمد خليفه حسن أنَّ كتب موسى بن ميمون “أعادت صياغة الفكر الدِّيني اليهوديِّ على أُسسٍ كلاميَّة فلسفيَّة متأثرة بالاتجاهات الكلاميَّة والفلسفيَّة الإسلاميَّة، وشارحةٍ للدين اليهودي على أسسٍ عقليَّة تأثرًا بالاتجاه الإسلامي”. ويقول الدكتور حسن حسن كامل إبراهيم: “تتلمذ ابن ميمون على أيدي الأشاعرة والمعتزلة، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن باجة، والغزالي، وغيرهم من علماء وفلاسفة العرب المسلمين…وتتلمذ موسى على أيدي المسلمين حاملي مشعل الحضارة والعلم في ذلك الحين”. بل بالغ بعض الباحثين المتأخرين والمعاصرين، فجعلوا موسى بن ميمون فيلسوفًا عربيًا إسلاميًا، حيث يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: “أبو عمران موسى بن ميمون…تخرج بدروس الحكيمين الأندلسيين الكبيرين: ابن طفيل وابن رشد…وإنني ممن يجعلون ابن ميمون وإخوته من فلاسفة الإسلام ومن فلاسفة العرب”. وكذلك الدكتور حسين آتاي الذي اعتبر موسى بن ميمون “فيلسوفًا إسلاميًّا” وإن كان غير مسلم، وكذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي عَدَّ ابن ميمون “مفكرًا عربيًّا إسلاميًّا”.

كذلك كان موسى بن ميمون كطبيب وعالم وفيلسوف أحيانًا يدعو إلى الأدب في التعامل والترفع عن السباب والشتائم في الخلاف، ويدعو أصحابه وتلامذته إلى ذلك، حيث يقول موجهًا كلامه إلى أحد تلامذته اليهود وهو يوسف بن عقنين، ويبدو أنَّ ذلك كان بسبب نزاعٍ داخلي بين اليهود؛ بين الموافقين والمخالفين له: “أنا لا أطالب أحدًا أن يحترمني، حتى إنني أتنازل عن الإهانات الكثيرة، ذلك أنَّ احترامي لذاتي، ورُقِي أخلاقي، أسمى لدي من أن أهزِمَ الحمقى، أطلب منك إن كنتَ تلميذًا لي، أن تيسر على نهجي وأخلاقي، فهذا أفضل لك، وليسبوك ولا تسبهم، ولتكن من المُهانين لا من المُهِنين”.

وكان يمكن لموسى بن ميمون -مع هذه المكانة والتأثير الكبير- أن يصنع دورًا إيجابيًا ويفتح مجالاً مهمًا في نشر وترسيخ روح التسامح وتقبل الاختلاف، وحسن التعامل مع الآخر، ولا شك أنَّه لو فعل ذلك لكانت لتعاليمه دورها العميق والمؤثر في ترسيخ تلك المبادئ، وخصوصًا بسبب ما كان يتمتع به من سلطة روحيَّة وعلميَّة ودينيَّة وفلسفيَّة.

إلا أن كتبه ورسائله –مع شديد الأسف- التي كتبها بالعربية أو العبرية -مع مناقضتها لتنظيره السابق عن رقي أخلاقه- تعج بالسباب والشتائم المُوجَّه إلى المفكرين والعلماء الذين يختلفون معه، من اليهود والنصارى والمسلمين، وكان كثيرًا ما يظهر احتقاره وسخريته من علماء المسلمين وجمهورهم، وينعتهم بأشد الألفاظ، مع عِظَم استفادته من تراثهم وتحريراتهم العلميَّة. هذه اللغة التي يستخدمها موسى بن ميمون، ذلك الفيلسوف الكبير، تجاه المسلمين مع أنَّه كان يعيش بين المسلمين في مصر وغيرها، وكانت له منـزلة كبيرة ومنصب رفيع، ويعامل باحترام وتقدير، وعُين طبيبًا لصلاح الدين الأيوبي وابنه، وعين بدعم من صلاح الدين أو من طرفه رئيسًا للطائفة اليهودية، ومع ذلك كان يكره المسلمين والعرب ويدعو عليهم بأن يهلكهم الله، مع استفادته من علمهم، ووجوده في مكان مرموقٍ بينهم. لقد كان موسى بن ميمون أحد علماء اليهود وفلاسفتهم الذين استفادوا من الحضارة الإسلامية واقتبسوا من فلاسفتها ومن علماء الكلام والجدل، وعاشوا فيها غالبًا بأمن بالمقارنة مع أمثالهم في أوروبا، وحصلوا على مكانة رفيعة بين المسلمين، والتقدير لهم والتقديم في المنصب، ومع ذلك كان يحمل في قلبه تلك المشاعر السلبية تجاههم!

ولهذا يمكن القطع، في هذا المقام، أننا أمام شخصية استثنائية لحاخام يهودي، علا شأنه ولمع نجمه في قلب الحضارة العربية، وشارك في إثرائها بنصيب وافر من الحكمة والمعرفة، كما مثل جسراً وقنطرة بين اليهودية والإسلام والمسيحية معاً، ما يؤكد رحابة واتساع صدر هذه الحضارة التي شارك في صنعها النصارى العرب، واليهود، وحتى العلماء من غير الجذور العربية، فقد كانت العواصم العربية ومنها القاهرة، رواق الأمم، يقصدونها من كل صوب وحدب، ويجدون في أفيائها الكثير من الأمن والأمان، الأمر الذي مكنهم من الإبداع العقلي والنقلي على حد سواء.

وعلى خلاف غالبية الفلاسفة اليهود الذين لا نعرف عنهم سوى النزر اليسير، فقد زود موسى بن ميمون الأجيال التي تلته بمعلومات كثيرة عن سيرته ومسيرته، سواء في رسائله أو وثائقه التي تم الاحتفاظ بالكثير منها، في وثائق الجنيزاة القاهرية، أي في موضع تخزين الوثائق، التي اكتشفت خلال القرن الماضي في معبد ابن عزرا بالفسطاط، وتمكن الباحثون عبر قصاصات هذه النصوص من إعادة بناء بعض التفاصيل المتعلقة بحياة موسى بن ميمون الذي عرف أيضاً بأسماء عدة أخرى، فاسمه العبري موشيه بن ميمون، كما عرف أيضاً في صيغته اللاتينية باسم «مايمونيدز»، وعرف اختصاراً في العبرية باسم «رامبام»، أما اسمه العربي فهو الرئيس أبو عمران موسى بن ميمون بن عبدالله القرطبي الأندلسي، وعرف كذلك باسم «المعلم»، أو «النسر العظيم".

ترك ابن ميمون خزانة أعمال دينية وفلسفية جديرة بالعناية، بالنظر إلى ما تحمله من بوادر عقلانية، على الرغم من اعتراض البعض على تصنيفها ضمن مجال الفلسفة، حيث ذهب ليو شتراوس إلى اعتبار كتاب «دلالة الحائرين» (1180) كتابا غير فلسفي، غير أنه من أهم الأعمال التي وضعت أسس فكر يهودي عقلاني متنور، وعدَّ في نظر بعض المؤرخين، أعمق كتاب حدد فيه ابن ميمون أسس فهم فلسفي للعناية الإلهية والكمال والسعادة، إلى جانب كتاب «المعرفة» الذي وضع فيه أسس الإيمان في الديانة اليهودية، كتاب «تثنية التوراة: قوانين القمر» 1166 مقال في صناعة المنطق (تتبع فيه نهج الفارابي)، «تفسير المشنا»، كتبه بالآرامية في فاس 1161 ونشره في مصر عام 1167. وهو بمثابة موسوعة في الشريعة اليهودية. تمكن صموئيل بن تيبون - قبل وفاة ابن ميمون 1204 - الذي ينحدر من مدينة ليون الفرنسية، من ترجمة الكتاب من العربية إلى العبرية، وجرى تداوله كثيرا في شمال إسبانيا وإيطاليا، ولقي معارضة شديدة وقوية، وجرت إدانة ابن تيبون، وأحرقت ترجمته في باريس وفي أماكن عدة، من قبل حاخامات اليهود الذين تخوفوا من أفكار ابن ميمون. كما ترك كثيرا من الرسائل، منها رسالة إلى يهود اليمن 1172. رسالة في التنجيم، رسالة البعث، وهي رد على انتقادات لرؤاه فيما بعد الموت والعالم الآخر 1191، إلى جانب 10 مقالات في الطب والمنهج العلمي، وعلاقة الطب بالفلسفة، ترجمت كلها إلى العربية والعبرية واللاتينية، وله تصنيف خاص للتلمود اليهودي، حيث كرس جهده لإعادة بناء العقيدة والشريعة اليهودية على أسس جديدة، ولذلك اعتبر أحد فقهاء الديانة اليهودية، نظرا لمحاولته التوفيق بين التعاليم اليهودية والمعارف الدنيوية. وعلى الرغم من اتسام بعض هذه الرسائل بطابع فوق طبيعي، بالنظر إلى هيمنة ميتافيزيقا أرسطو على زمانه، فما جاء به المعلم الثاني، كان بالغا في أثره على ابن ميمون، قبل أن يستكمل ابن رشد مشروعه النقدي تجاه ما ورثه القدماء عن الأفلاطونية الجديدة.

جرى تحريم أعماله في القرن الثالث عشر، وتمكن كثير من حاخامات اليهود من إقناع محاكم التفتيش بحرق أجزاء من كتابه «دلالة الحائرين»، الذي أثر في الفيلسوف باروخ سبينوزا، الذي اعتبره البعض الوريث الحقيقي لفلسفة ابن ميمون خاصة في التفسير الطبيعي.

وتزامن مخطط «دلالة الحائرين»، مع موت أخيه الذي آلمه كثيرا، وسبب له محنة، كبيرة إلى جانب انشغاله بتداوي النبلاء، بحيث لا يجد وقتا فارغا لاستكمال أبحاثه في الفلسفة، خاصة مع أرسطو الذي يقدره كثيرًا، وأعماله التي تمثل جذور وأسس جل الأعمال في العلوم، لكنها لا تفهم إلا بواسطة شروح «الإسكندر أفروديسيس»، و«ثيماستيوس»، و«ابن رشد".

وقد اشتهر ابن ميمون بنباهته وكفاءته العلمية والدينية. وكرس معظم وقته للعمل كطبيب، لا يجد الوقت الكافي للمطالعة والكتابة، حيث يقول في رسالته إلى أخيه: «أخبرك أني حظيت في الطب بشهرة واسعة في أوساط العظماء، مثل كبير القضاة والأمير. أما بالنسبة للعامة، فينظرون إلي بوصفي شخصا بعيد المنال. ويضطرني هذا الأمر إلى إضاعة طوال اليوم في القاهرة لزيارة المرضى من النبلاء. وعند عودتي إلى الفسطاط، أقضي ما تبقى من اليوم والليل في دراسة الكتب الطبية التي هي ضرورية لي. وأنت تعلم مدى صعوبة هذا العلم لكل إنسان دقيق ذي ضمير حي، ولكل من لا يرغب في إقرار شيء لا يستطيع البرهنة عليه ودون معرفة ما أشير إليه وكيفية شرحه. وأسفر هذا الوضع، عن أنه لم يعد لدي وقت كاف لدراستها، وهذا الأمر يزعجني. ولم أجد بعد الوقت اللازم لقراءة أعمال أرسطو.

وإلى جانب مساهماته في مجال الدين والفلسفة والتأويل العقلاني للتقاليد والطقوس اليهودية، فهو طبيب وعالم فلك، تتلمذ على يد ابن باجة وابن رشد، وكان الفارابي ملهمه الثاني بعد أرسطو، من جهة إيمانه بأن العالم تحكمه قوانين طبيعية، يمكن معرفتها من خلال البحث العلمي والتجريب. لهذا تعاطى الطب كثيرا في صفوف نبلاء مصر أيام صلاح الدين، حيث لا يجد الوقت الكافي للكتابة والقراءة، وفي الوقت نفسه، يتبنى العقلانية في بعض تجلياتها، وسارع إلى شجب الخرافة والتفكير الغيبي، معتبرا أن فهم العالم يجب أن يرتكز على العلم الطبيعي.

يبقى أن جهد ابن ميمون الفلسفي والديني والعلمي يحتاج إلى اهتمام الباحثين لاستشراف علاقته بابن رشد وسبينوزا والفارابي وأرسطو. ففي الوقت الذي نال فيه هؤلاء ما استحقوه من عناية، يبقى فيلسوفنا العقلاني مهمشا، على الرغم من المحاولات المتواضعة التي تقوم بها بعض المؤسسات الأكاديمية في هذا المضمار.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

المراجع:

1- إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون..حياته ومصنفاته، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1936، ص 4.

2- أحمد منصور: هل كان الحاخام اليهودى موسى بن ميمون من فلاسفة الإسلام؟

الثلاثاء، اليوم السابع 30 مارس 2021 07:00 م.

3- الأعلام (7/329).

4-عيون الأنباء في طبقات الأطباء (582).

5-تاريخ مختصر الدول لابن العبري.

6-فوات الوفيات (4/175).

7- محمد عبود، موسى بن ميمون…اليهودي -المسلم، المصري اليوم، 15 مارس 2010.

8- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الموجزة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2006 م، المجلد الأول، ص 343.

9- فاطمة نادي، موسى بن ميمون أن تكون يهوديا في دولة الخلافة الإسلامية، موقع ساسة بوست، 19 سبتمبر 2018.

10- حسن ظاظا، الفكر الديني الإسرائيلي. أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971، ص 159 – 160.

11- حسن حسن كامل ابراهيم، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الاسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، القاهرة، 2003، ص 45-53.

في المثقف اليوم