شهادات ومذكرات

المعتزلة والعقل!!

صادق السامرائيالكتابة عن المعتزلة منتشرة في أرجاء الدنيا، والمقال يخص توجههم العقلي الذي سبقوا به البشرية قاطبة، فهم رواد تفعيل العقل ومنهج الشك، وسيكون مكثفا ومختصرا.

التوحيد والعدل، أو المعتزلة، حركة سياسية دينية فكرية فعّلت العقل وإتخذته منهجا للفهم، نشأت في البصرة في أواخر العصر الأموي، وإزدهرت في العصر العباسي حتى سنة (234) هجرية، ومؤسسها واصل بن عطاء (80 - 131) هجرية ، الذي جاء من المدينة المنورة، وتميز بذكائه وقدرته على الحفظ، وجرأته بطرح أفكاره وبفصاحته، ولديه صعوبة في نطق حرف الراء، فكان يتجنب الكلمات الرائية في أحاديثه.

وكان يحضر مجالس الحسن البصري في مسجد البصرة، وإختلف معه ذات يوم عندما قال: أن مرتكب الكبيرة، مؤمن وعاصي، فأجابه: ليس بمؤمن وعاصي، بل في منزلة بين منزلتين.

ومن حينها إعتزل مجلس الحسن البصري هو وعمرو بن عبيد (80- 144) هجرية، في زاوية المسجد، فقال الحسن البصري لقد إعتزلنا واصل.

وبرزوا في زمن المأمون والمعتصم والواثق، حتى أوقفهم المتوكل وأبعد (أحمد إبن أبي داؤد) الذي كان مسيطرا على الخلفاء قبله.

توفى واصل بن عطاء (39) سنة قبل ولادة المأمون (170 - 218) هجرية، الذي إتخذ مذهب المعتزلة نهجا للدولة. (أقول هذا للبرهنة على أنهم أطلقوا أفكارهم قبل إنشاء دار الحكمة ببغداد، وقبل ترجمات الفلسفة اليونانية)

والذي أزرى بهم تقربهم من السلطة، ففرضوا رأيهم بالقوة على الآخرين، وكان سيفا ذو حدين، ووبالا عليهم .

ومبادؤهم الخمسة: (الأزلية والألوهية، العدل، المنزلة بين منزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهم أكثر من عشرين فرقة، ومنهم العمرية والهذلية والجاحظية والواصلية وغيرهم.

ويتميزون بالقدرة الخطابية، والتحليل العقلي، ويجادلون وينافشون، ويتحمسون لنشر الفكر، وأخلاقهم عالية، ولباسهم جيد وموحد، ويتصرفون بوقار.

يؤمنون بتقديم العقل على النقل، فالعقل هو الحاكم على الشرع، والقادر على معرفة الله، والصواب من الخطأ والحلال والحرام، والحكم للعقل، فهو أداة نقدية، أخضعوا له النصوص الدينية، فما يقبله مقبول، وما لا يتفق معه من النص للعقل الأولوية، فيجنحوا للتأويل للتعقيل.

وعندهم الله واحد ليس كمثله شيئ، فينزهونه عن الصفات، فالذات الإلهية شيئ واحد، والقول بصفة وموصوف تعني تعددها، فصفات الله هي عين ذاته.

والإنسان مسؤول عن أفعاله لكي يكون الحساب واقعا، ويملك الحرية في أفعاله ولا يجبره الله على الفعل لأنه صاحب عقل، والفاسق ليس بمؤمن وليس بكافر، ولا يكفرون مسلما ، وعندهم لا شفيع ولا توسط ولا معجزات ولا كرامات، ومن الواجب التدخل لمنع المنكر ولا يُستثنى أحد، الرئيس والمرؤوس، بالنصح والموعظة، والقوة جائزة في حالة توفر الظروف، فالتعرض للحاكم يجب أن يكون مقرونا بالقوة اللازمة لذلك لكي لا يرتد وبالا على القائمين به.

ومن مثالبهم الكبرى فرضهم على غيرهم القول بخلق القرآن، الذي تسبب بالمحنة (212 - 234) هجرية، التي راح ضحيتها أفذاذ العلماء والمفكرين، فالقرآن عندهم مخلوق، أوجده الله كغيره من المخلوقات، فلم يكن موجودا فأوجده الله الذي تكلم به وأنزله، وهو مرتبط بأحداث في زمن محدد، ومستحدث وليس أزليا، وآياته لمصلحة العباد، وهم مخلوقون ومصالحهم متغيرة، فيه آيات تنسخ آيات، وتخاطب الأنبياء بأساليب مختلفة.

ومن أدلتهم الآية "إنا جعلناه قرآنا عربيا"، وما هو مجعول مخلوق، ويُتَّهَمون بالترويج لبشرية القرآن.

كانوا رواد الفكر الحر والعقل، ولديهم القدرة على إنتاج الأفكار والرؤى الفلسفية الراقية، وسبقوا دخول الفلسفة اليونانية إلى العرب، فلهم الأسبقية الفكرية والعقلية، وليسوا صدى للقادم من اليونان.

وضعوا أدوات الجدل ومناهج العقل الذي له منزلة مقدسة عندهم، فهو الرسول الباطني داخل النفس الإنسانية لقيادتها نحو الحقائق، وحجة على الإنسان، ومظهر من عدل الله وحكمته، وله القدرة على التمييز بين الخير والشر، وقادر لوحدة على الوصول إلى الصلاح.

ويقدمون العقل على النقل، فأدلة العقل هي الأصل، وأدلة النقل مؤيِّدة للعقل، فهو القادر على معرفة حقيقة الله، والعقل أول الأدلة للفهم.

وبرعوا بالنقد والشك المنهجي القائم على الدليل العقلي، فالشك أول الواجبات ويوصل إلى اليقين عن طريق العقل، فكانوا سبّاقيين في تأسيس الشك المنهجي، على مستوى عالمي فسبقوا ديكارت والغزالي الذي ربما أخذ أفكاره ديكارت.

ومنهم الجاحظ، الزمخشري، العلاف، معمر بن عباد السلمي، بشر بن المعتمر، ثمامة بن الأشرس، أحمد بن خابط، الفضل الحدثي، عيسى بن صبيح، وغيرهم من الأعلام الذين حفزوا آليات التفكير وأيقظوا العقل من الخمود والرقود.

وما أحوج الأمة لثورة عقلية تزعزع مستنقعات السذاجة والقنوط!!

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم