شهادات ومذكرات

في ذكرى وفاة عمّي الطاهر وطّار

من مآثر عمّي الروائي

لم أعتبره أخطأ في حقّي حينما جئته لأول مرّة فنادى مسؤولة المكتبة وقال لها:

- خذي منه الملف وبسرعة أنجزي له بطاقة الانخراط.

فقلت له:

- لم آت لأجل هذا الغرض يا عمّي الطاهر.

فضِحك ونظر إلي بأكثر دقّة:

- مواطنو ولاية الجلفة خصوصا الذين صارت (ريّاشتهم) جافّة من الماء. هؤلاء لا يأتونني إلا لأجل ذلك، بل يفرحون ويعتبرونها غنيمة كبيرة، عندما أسلمهم البطاقة أراهم يضيفونها إلى ألبوم بطاقات انخراط في جمعيات أخرى، يفعلون ذلك متفاخرين أمامي، وكأنهم على يقين من أن الموقف لا يعكس نفاقا مشينا بما تعارف عليه الأدباء القدامى بأنه نضال. كانوا يبدون أمامي كأولئك الذين يريدون أن يحصلوا على دفاتر تدريب عسكري من دول متعدّدة، دون أيّ نيّة في ممارسة الحرب لصالح أحد هه هه.. الأعجب من ذلك أن بعضهم لمّا أخذتهم العزة بأقدمية انخراطهم بدؤوا (يتزَزْعمون[1] ويتريأسون[2]) عليّ وعلى روّاد المكتبة من المنخرطين الجدد!

حمل جبهته على راحة يده وهوى ناحية المكتب، تأوّه طويلا حتى كاد يصفّر، ثم ضرب بخفّة على ظهر يدي وأنا أضعها على المكتب:

- خذ راحتك يا ولدي فلعلّك جئت لأجل شيء أعظم، خصوصا وأنك انتظرت طويلا في قاعة المطالعة دون ملل ولا غضب، أكثرهم لا يعرفون بأني كل يوم في شأن جديد من القراءة والكتابة، تخبرني الكراسي التي حملت أجسادهم مُكرهة بأنهم انصرفوا غاضبين. أمّا أنت فقد أدهشتني وأنت قادم ناحية مكتبي، رأيت كأنك تمضغ خطواتك إلي، وبخفقات قلبك كأنك تود أن تملأ أرضية الجاحظية وسطحها وكل جدرانها بالكتابة، إنك تستطعم زيارتك إلي كما يستطعم الصّائمون الحلوى في عيد الفطر، نظراتك تمسح مسحا دقيقا كل تفاصيل الديكور خاصّتي، كأنك قادم ليس لقراءة كتبي، بل لتقرأ كل الأشياء المحيطة بي وبها.

فعلا فقد كان يغلب عليّ الصمت بسبب عسر استيعابي للمقابلة وللمواقف التي تتوالى علي، خصوصا حفاوته الصّادقة ودبلوماسية الفائقة، جعلني أشعر بأنني كاتب كبير قدم إليه من بلاد بعيدة، شعرت بأني أشبه أولئك القُدامى الذين كانوا يسافرون من الشّام إلى بغداد ومنهما إلى بلدان كثيرة، وفي كل بلد يتركون أثرا أتوا به من بلدانهم، ثم يرجعون من البلدان التي زاروها بأثر مختلف، دفعني إلى هذا الجلل من المشاعر  رغم أنّي لا أساوي شيئا في عالم الكتابة والإبداع. لكن كان عليّ أن أقول شيئا حتى لا يتحوّل انبهاري الصّامت إلى عاهة قد تكون مستديمة!

- خلاص يا عمّي الطاهر لقد انخرطت في الجمعية - عفوا - في الكتابة و(الّلي كان كان)!

فضحك مجدّدا:

- ودون ملف ولا بطاقة؟

- أمّا الملف فماذا أريد بعد أن لفّتني قامتك احتراما وتقديرا، وأمّا البطاقة فإني أخال الجاحظية بما حوت من كتب صورة شمسية، والجزائر بيضاء مساحة نكتب فيها ما نشاء مما تستحق من روائع. دعك من وثائق الهوية فإن القانون يُلزمها بأن تتجدّد كل عام، أما مشاعرنا فتظل ثابتة إلى يوم الدين!

سألني عن اسمي وعندما أجبته قال لي:

- استمر في حرق ألوان لغتك، وعلّمهم أن للنّار مآرب شتى غير الطهي كحاجة متداوَلة بين الأكلة، وعلّمهم أيضا أنه يمكننا أن نرسم باللغة لوحات عجيبة، كتلك التي يُنقّب عنها الرسّامون بألوانهم!

شربت معه الشاي - عفوا - شرب معي الشّاي، - عفوا مرّة أخرى - فمن بلاغة تواضعه لا أدري من الذي كان يشرب شايَه مع الآخر، وفي لحظة صامتة تناول كل منّا كأسه فعرفت أننا كنا نشرب الشّاي مع بعض! بعد ذلك لا أريد أن أكذبت عليكم وأقول بأني عدتُ إلى بيتي على متن حافلة، الحقيقة عدت على متن رواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي".

***

عبد الباقي قربوعه

..................

[1] ) من الزعامة.

[2] ) من الرئاسة.

 

في المثقف اليوم