شهادات ومذكرات

في اليوم العالمي لمحبي الكتب: انا اقرأ.. إذا أنا أحب

علي حسين"لقد تعلمت أنه لا يمكنك أن تكره كتابا ما حتى تجربه! فلتفعل ذلك"

إميلي برونتي

منذ ان تصفحت اول كتاب في حياتي، وحتى كتابة هذه السطور، وانا اعيش علاقة حب دائمة مع الكتب، ما ان ادخل مكتبة  حتى اشعر بنشوة غريبة لحظة النظر الى الكتب، وغالباً ما كانت الأغلفة تقذف بي الى عالم مجهول، بينما كنت أرغب بكل كياني أن أغور في أعماق هذه الكتب، وحين أتمكن من الحصول على كتب جديدة، يبدأ قلق آخر، البحث عن عناوين جديدة آخرى، كنت أًبحث في رفوف المكتبات مرهوباً بالأسماء هذا تولستوي وذاك ايمانويل كانط، هنا يقف جان جاك روسو الى جانب هنري برغسون، من بعيد ينظر اليهم سارتر ساخراً، فيما فكتور هيغو لاتحلو له الصحبة الى مع بلزاك. في زاوية ما يقبع الجاحظ فيما يندب ابو حيان التوحيدي حظه، فيما يقدم لي عبد الرحمن منيف نصائح عن الحياة  . كنت مثل طفل ضائع وسط غابة كبيرة، يتطفل النظر في وجوه الآخرين، شعور بالسعادة يغمرني، وأنا أمارس لعبة بعث الموتى من قبورهم.

هل القراءة سبب لأن تمتلئ حياتنا بالكتب، يكتب اندريه مالرو: "ليس هناك كاتب دون مكتبة"في القرن الثامن عشر كان لورنس ستيرن قد كتب رواية"حياة وآراء حضرة المحترم‏، السيد ترسترام شاندي"وفيها أراد أن يروي لنا المزيد من الحكايات، حتى إنه قام باقتباس فقرات من عشرات الكتب التي قرأها، ليتنقل من سيرفانتيس الى سويفت ومونتاني ورابليه، ونجده يتعامل مع هذه الاقتباسات والنصوص كأنها جزء من روايته، حتى أن جيمس جويس يكتب بعد مرور مئة وخمسين عاماً على صدور رواية ترسترام شاندي، إنها أقرب ماتكون الى مكتبة متكاملة.

في العام 1922 يكتب الشاعر الفرنسي أراغون:"في كل ما أقرأ تقودني الغريزة بقوة شديدة الى البحث عن الكاتب وإيجاده وتفرسه وهو يكتب، وإلى الإصغاء الى ما يقوله، لا إلى ما يرويه، حتى إنني في النهاية أجد هزلية التمايزات المعتبرة بين الأجناس الادبية، كالشعر والرواية والفلسفة، كل هذا بالنسبة لي كلام".

في أثناء عملي بائعاً للكتب، كانت الكتب التي تصل الى المكتبة كثيرة جداً، وكنت أصاب بالحيرة في اختيار ما أقرأه، وأسال نفسي هل أستطيع قراءة كل هذه الكتب، بالطبع لا، يكتب أمبرتو إيكو:"تزخر المكتبات الجيدة بملايين الكتب، ولو افترضنا أننا نريد قراءة كتاب كل يوم، فهذه 365 كتاباً في العام، ولو فعلنا ذلك على مدار 10 سنوات، فسنقرأ حوالي 3600 كتاب، ولو تسنى لأحد أن يفعل ذلك من سن العاشرة حتى الثمانين، فسيكون قد قرأ 25,200 كتاب وحسب".

تكتب فرجينيا وولف في مقالة بعنوان " كيف نقرأ كتاباً كما يجب ": " من البساطة أن نقول بما أن للكتب تصانيف، فيجب علينا أن ننتقي من كل صنف ما هو مفيد وخليق بأن يمنحنا الجديد. يبقى هناك الذين يسألون عما تعطينا إياه الكتب. غالباً ما نأتي الى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة ضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبرياءنا. إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب. لاتُملِ. إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقا في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه." – داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي-

يمكنني أن أتذكر الأنفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918 وجهتها الى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الانسان..اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته منزل بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة:" هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد ".4088 علي حسين

في الألف الأخيرة من تاريخ البشرية اصبح الورق جزءاً من حياتنا. ربما لايسأل أحد منا ما هي هذه الورقة التي نقرأ فيها، إنها أمامنا شيئاً مستوياً أملس، ولكن هل هذه خدعة، قرأت مرة في كتاب جميل بعنوان"المادة في حياتنا"، إن هذه الورقة الملساء ما هي إلاعبارة عن تل من ألياف متناهية الدقة تشبه حزمة قش.لايمكننا الشعور ببنيتها المعقدة لأنها هُندست على نطاق مجهري يتخطى حاسة اللمس أحياناً، أصبح الورق وسيلتنا لإنجاز رحلة الى عوالم جديدة. والكتابة على الورق هي فن تجسيد الأفكار والرؤى والتخيلات. يؤكد البرتو مانغويل إن الكتابة تنتمي إلى مجموعة فنون الإستحضار المتعلقة بتصوير الأفكار والمشاعر ونقلها. وذات مرة سُأل اينشتاين وكان منهمكاً في الكتابة: ماذا تفعل؟ فأجاب: أحاول استكشاف العالم وتأمله في حيز صغير اسمه الورقة".

في مكتبتي اليوم، الرفوف تئن تحت ثقل أنواع الكتب وصنوفها، ومنها كتب مكررة، أقتنيتها لمجرد إعادة ترجمتها أو طباعتها أو اختلاف نوع الورق، لكني لا أستطيع التفريط بها لأنها تشكل جزءاً من ذاكرتي، في كتابها " القراءة الجامحة " تكتب دونالين ميلر:" عند اختيار الكتب نسترجع عمراً بأكمله من خبرات القراءة، أو محيطنا من أصدقاء القراءة الثقات، أو نصائح لنقاد، وهي تجربة ناجحة، فنحن نادراً ما نقرأ كتاباً لانستمتع به، أو على الأقل نقدره، ولهذا يبدو عليّ الانزعاج أمام فكرة التخلص من الكتب الزائدة " .

كانت مكتبة فكتورهيغو تضم آلاف الكتب، خصص لها طابقاً كاملاً في منزله الكبير،ويكتب في يومياته: " في صباي كنت ألتهم الكتب إلتهاماً أينما أجدها " . وفي هذه المكتبة زاره غوستاف فلوبير، الذي يكتب رسالة لوالدته ": أخيراً استمتعت برؤية فكتور هيجو عن قرب، فحدقت به مشدوهاً، كما أحدق في إناء مملوء بملايين الجواهر الكريمة، متأملاً كل صغيرة وكبيرة تصدر عن هذا الرجل الذي يجلس بجواري على مقعد صغير، مدققاً النظر في يده اليمنى التي كتبت كل الروائع الجميلة قائلاً لنفسي هذا الرجل الذي جعل قلبي ينبض أشد نبض عرفته منذ ولِدت، والذي أحببته أكثر من جميع مَنْ لم أعرف " .

يكتب الفيلسوف الروماني سينيكا إن الحياة الأكثر سعادة هي أن تعيش مع الكتب. آمن الفلاسفة القدماء إن باستطاعة الكتب أن تمدنا بالسعادة، وتتيح لنا التحكم بالسعادة، وتتيح لنا الكتب التحكم بأهوائنا وتصحيح الأفكار المغلوطة، فالكتاب يقودنا الى علاقة متوازنة مع الحياة.

(نظرا للأهمية الكبرى للكتب في حياة الإنسان، تم تحديد أكثر من يوم في العام للاحتفال بالقراءة والكتب وما يتعلق بها، وفي 9 آب يُحتفل باليوم العالمي لمحبي الكتب، لتشجيع عشاق الكتب للاحتفال بالقراءة والأدب).

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

في المثقف اليوم