شهادات ومذكرات

ماريو بينبدتي.. سيرة النضال والادب

علي حسينلا تخجل من أي سؤال إذا كان صادقا. غالبا ما تكون الأجوبة هي التي تستدعي الخجل، لأن النفاق عادة ما يظهر فيها: أن تفكر شيئا و تقول عكسه.

ماريو بينيديتي من روايته " بقايا القهوة "

عنما توفي الشاعر والكاتب الأوروغواياني ماريو بينيديتي عام 2009 كتب إدواردو غاليانو مواطنه وصديقه: ماذا سيحل بهذه المدينة في غيابه؟ وماذا سيحل بنا بدون انتظار كتابه القادم؟ . يتذكر غاليانو انه كان يحلم بان يصبح احد ابطال منتخب الارغواي بكرة القدم، إلا ان تقوّس في القدم منعه من ان يحقق حلمه الأثير،، لكنه مع مرور السنين اكتشف ان العالم لا يختلف عن ملعب كرة القدم، فقرر ان يصبح صحفيا في محاولة للبحث عن اجابة على سؤال يؤرقه: " لماذا نرى السياسيين يتحدثون لكنهم لا يقولون شيئاً؟ والمدارس تعلم الجهل، والقضاة يعاقبون الضحايا، ورجال الشرطة لا يكافحون الجريمة لأنهم مشغولون بارتكابها.. والإفلاسات تصبح مجتمعية بينما الأرباح تكون خاصة جدا".هذه الاسئلة طرحها على صحفي اكبر منه بعشرين عاما وقد اجابه ذلك الصحفي آنذاك: " تعلم ان تجد الاجابات بنفسك "، كان هذا الصحفي هو ماريو بينيديتي المولود في 14 ايلول عام 1920 في احدى قرى جنوب الأوروغواي، والده صيدليا ووالدته تعمل في مجال الكيميائيات، في صغره تعلم الانكليزية والالمانية، وفي السابعة عشر من عمره قرأ فرانز كافكا، يتذكر كيف وجد نسخة من رواية " القلعة " معروضة على واجهة احدى المكتبات، اشتراها بمصروفه الشهري، وضعها في حقيبة المدرسه، وما ان دخل البيت حتى ذهب باتجاه غرفته، استلقى على السرير، فتح الكتاب وبدأ بقراءة السطر الاول: " كان الوقت ليلا عندما وصل (ك) . كانت القرية غارقة في ثلوج كثيفة، ولم يكن الناظر الى التل الذي يقوم عليه القصر يرى شيئا، فقد كان الضباب والظلام يحيطان به كل الاحاطة، ولم يكن هناك شعاع من نور، ولو خافت، يظهر شيئا من ملامح القصر الكبير". في اليوم التالي قال للمعلم الذي سأله ماذا يطمح ان يصبح في المستقبل: لقد وجدت مهنة ممتعة، الادب . بعد سنوات سيترجم اعمال كافكا الى اللغة الاسبانية، يتذكر في صباه ان والده كان يتعرض دائما الى مشاكل مالية، مما اضطر والدته ان تبيع جزء من اثاث المنزل .ترك الدراسة ليعمل ميكانيكيا، قبل ان يعمل في محل لبيع ادوات السيارات، وفي لحظة قال لصاحب المحل: لن اعمل في مهنة اخرى غير الكتابة، سافر الى الارجنتين وهناك عمل في الصحافة، نشر عام 1949 اول كتبه وكان مجموعة قصصية بعنوان: " هذا الصباح "، لم يلاق الكتاب النجاح قال لاحد الصحفيين: " انتهى بي الأمر ان دفع للناشر "

استهوته الصحافة فعمل بها سنوات متنقلا ما بين الارجنتين واسبانيا وبلاده الاورغواي، عام 1950 يصبح مديرا لتحرير المجلة الادبية " نومير "، وفي هذا العام يحصل على جائزة ادبية عن مجموعته القصصية " هذا الصباح "، سافر الى كوبا والتقى غيفارا وكاسترو الذي ارتبط معه بصداقة عميقة، وكان كاسترو يبعث له برسائل يناقش فيها قصصه ومقالاته، استقر في كوبا لسنوات حيث عمل في مجال النقد السينمائي، وادار احدى دور النشر في هافانا .4110 ماريو بينبدتي

في الستينيات سيشارك مع مجموعة من الاصدقاء تاسيس حركة باسم " التومباروس " وقد تاثرت الحركة بافكار غيفارا، وبسبب الفقر والظلم والنظام الاستبدادي قرر بينيديتي مع صديقه موخيكا لدى انريكي ارو، الذي اصبح عام 2010 واطلق عليه لقب افقر رئيس في العالم، أن يحذوا حذو كوبا، من خلال تدمير النظام القديم وتجربة شيء جديد، وقد استمدت الحركة اسمها من من ثائر پيروفي من القرن الـ١٨اسمه " توباك أمارو الثاني " وقد اصبحت التوباماروس أحد أشهر الحركات الثورية في أميركا اللاتينية على الصعيد العالمي، دفعت المفكر الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه ان يشد الرحال الى الاورغواي ليلتقي بعض افراد هذه المجموعة وليكتب عنها درسة صدرت بعنوان " نحن التومباروس " – ترجم الى العربية في بداية السبعينيات -، وقد تبنت الحركة الكفاح المسلح ضد نظام الأوروغواي خلال سنوات الستينات والسبعينات، وذلك في سياق من النهوض الثوري في أميركا اللاتينية كلها خلال تلك الفترة ضد الأنظمة الدكتاتورية والعسكرية التي كانت سائدة في معظم بلدان المنطقة.

وكان ثوار التوباماروس قد استطاعوا أن يلفتوا إليهم أنظار العالم من خلال العمليات الجريئة التي قاموا فيها في أواسط الستينات، وهذا ما يعبّر عنه دوبريه بالقول: " إن الأصداء الإعلامية لأحداث ربيع عام 1968 التي عرفتها الاوروغواي، البلاد الصغيرة ذات الثلاثة ملايين نسمة، جذبت إليها أنظار العالم أجمع بسبب الأعمال التي قامت فيها مجموعات من الثوار ليسوا، كما يبدو، مثل غيرهم. لقد مالوا نحو استخدام الخداع والدهاء أكثر من اللجوء إلى العنف وحرصوا على أن يعطوا سمات تربوية لعملياتهم مما جعل السلطات الاستبدادية القائمة موضع سخرية السكان "

عام 1972 يلقى القبض على تسعة من قادة التوباماروس ومن بينهم موخيكا. كان بينيديتي في الارجنتين حيث تم اعتقاله وتم ترحيله الى بلاده، ليمضي اربعة سنوات في السجن الى ان صدر عفو عنه عام شرط ان يترك البلاد، فقرر السفر الى كوبا، ثم استقر عام 1977 في اسبانيا ليعيش منفيا بعيدا عن وطنه وزوجته التي كان عليها ان تبقى في الأوروغواى لتعتنى بوالدتيهما. عام 1974 سترشح النسخة السينمائة من روايته " الهدنة " لجائزة افضل فيلم اجنبي في مهرجان الاوسكار، عام 1982 تمنحه كوبا وسامها الوطني، عام 1983 يعود الى الاورغواي، ليمارس مهنته المفضلة الصحافة، عام 1986، استلم جائزة الاداب البلغارية عن أعماله الشعرية وقصصه . كما مَنحته منظمة العفو الدولية في بروكسل عام 1987 جائزتها الذهبية عن روايته "ربيع بزاوية مكسورة" . تمنحه العديد من دول اميركا اللاتينية اوستها الوطنية مع شهادات الدكتوراه الفخرية، وسيتنقل ما بين الاورغواي واسبانيا

عام 2004 تقرر حكومة الاورغواي انتاجا فيلما وثائقيا عنه "ماريو بينديتى ومفاجآت أخرى"، الفيلم بطولة بينديتي .بعد وفاة زوجته عام 2006 أقام في حى بوسط مدينة العاصمة مونتفيديو بشكل نهائي، عام 2006 حاز على وسام فرانسيسكو دى ميراندا، وهو أعلى درجة امتياز تمنحه حكومة فنزويلا للمساهمين في العلوم أو التعليم أو تقدم الشعوب،

وفي السنوات العشر الأخيرة تأرجحت إقامته بين إسبانيا وأوروغواي بسبب مرضه بالربو وبناءً على توصيات طبية بتجنب البرد، ولكن بتفاقم حالته الصحيه قرر البقاء بمونتيفيديو. حاول بينديتي اجتياز صدمة وفاة زوجته التي رحلت عنه بعد ستة عقود من زواجهما بالكتابة. حيث أشارا في فصلاٍ من كتابه "من الأغانى التي لا يتغنى بها" قائلاً "بكل صراحة حياتي لم تكن سهلة بعد رحيل زوجتي ". في نيسان من عام 2009 نظمت زوجة الكاتب خوسيه ساراماغو، "سلسلة قصائد" كمُبادرة لدعمه عالمياً بسبب العزلة التي فرضها على نفسه .

في 28 ايار عام 2009، ينهي بينيديتي هدنته مع الحياة، ليقطع تلفزيون الاورغواي برامجه معلنا وفاة اكبر ادباء البلاد، تقرر الحكومة ان تضع جثمانه في مجلس الشيوخ ليتسنى لعشرات الآلاف القاء النظرة الاخيرة على الكاتب الذي استمد افكاره من حكايات الناس واحلامهم وآمالهم، يلقي إدواردو غاليانو، كلمة حزينة على الجثمان: " بينيديتو بالإيطالية تعني مبارك والشيء الوحيد الذي أستطيع قوله هو هذا، طوبى للنساء والرجال النبلاء والكرماء مثل بينيديتي" .

صدرت روايته الشهيرة " الهدنة عام " 1960" وسرعان ما حققت لبينيديتي شهرة عالمية حيث ترجمت الى اكثر من 40 لغة وطبعت اكثر من 100 طبعة بالاسبانية، وكتب عنها غابريل غارسيا ماركيز: " باستثناء بينيديتي لم يستطع احد ان ينقل لنا اجواء كافكا الحزينة بمثل هذا الصدق " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

في المثقف اليوم