شهادات ومذكرات

دروب الابداع

(الأمثلة والشهادات صور من تجارب وحياة حنا مينة)

قد يكون المحرض لتلك المقالة ما قرأته من سير ذاتية وقد تكون هي تجربتي الشخصية وفي جميع الأحوال أجزم أن الابداع مرتبط بنشأة غير طبيعية بحيث تصير صور الذاكرة العالقة محرضاً رئيسيا وأساسياً في المسيرة الابداعية باعتبارها تختزن طاقة كامنة، وهي (أي الطاقة) تخرج بأشكال مختلفة كما حصان جامح انطلق لتوه وفق مسارات رسمها الهوى وللهوى حكايته الموغلة في الذات المشبعة حتى الثمالة .

وكي لا تبدوا كلماتي موشحة بالغموض اسمحوا لي بتلك المقاربة من المعلوم أن الحرارة والضغط الجوي هما إحدى مسببات الهواء ليهب وينعش ما حوله من كائنات وأشياء وقد يشتد ليصير أكثر عصفاً. وباعتبار الانسان يختصر الطبيعة والكون في كينونته يمكن المقاربة هنا ما بين تراكمات الضغط النفسي والحياتي وما يولده من حرارة داخلية من جهة والضغط الجوي من الجهة الأخرى. فحين يتوالد عن ذاك الضغط الجوي ما ذكرته من هواء ورياح يتوالد الهوى وتتوالد الحاجة إليه من رحم الضغط النفسي والتجارب المتفردة والهوى هو إحدى مراتب الحب وهو كلمة رديفة للهواية اما التواصل مع الهواية فقد يوصلها للشغف والإدمان وقد يأخذها للاحتراف (والاحتراف من الحرفة والمهارة واحتراف الصنعة يعني صارت مصدر رزق وعمل يومي وهنا تكمن الخطورة في الفن حين يتحول الفنان لرغبة السوق والتوجهات المغرضة للمسوقين)

كان السؤال الذي يشغلني سابقا هل هو افتقاد الحب أم هو الحصول عليه ذاك الذي يتوج السمات الجمالية والابداعية في نتاج الفنان وجوابي السريع هنا يستند لتجربة ذاتية وتحليل ورؤيا موضوعية قد أطرحها لاحقا في كتاب الحب هو المحرك الأساسي للإبداع وهو حين يمتلك الجرأة على اختراق ذاك السياج المشكل من مخاوف رافقت المجتمعات الانسانية خلال عقود طويلة حين أمسكت بعصا الأديان عبر مفاهيم وتفسيرات خاطئة لا تتسم بالمرونة .... حين يمتلك الحب تلك الجرأة الانسانية الغير مفتقدة للمشاعر اللحظية حينها فقط يسقى عبر علاقات الجسد الاكثر حساسية والأكثر قدرة على استشفاف جمال اللحظات العابرة وحينها فقط تصفو وتسمو الروح عبر تلك الحركات كما صلاة خاصة تقربها للالتحام بالجسد الكوني .. تتحول تلك التجربة لذكرى تعكس احساسا بالبرودة والانتعاش ينمو الحب ويتسع ليشمل الكون بأسره وبكل تفاصيله زهرة _شجرة ... ألخ

فتصير(أي الروح ) الأقدر على نقل تلك الرسالة الكونية رسالة المحبة هذه عبر نفحات ابداعية مؤطرة بأشكال مختلفة رسم أدب شعر فن مسرح ..الخ

قد يتساءل سائل عن فنانين لا يقلون أهمية افتقدوا للحب وأعطوا أقولا هم يعطون من بحر الذاكرة التي تعيدهم للحظات عاشوها في زمن مضى ربما طفولتهم وربما حيوات أخرى ربما وربما .... تلك الصور في ذاكرتهم تأخذهم لترجمتها في أعمال ابداعية

أما القسوة وافتقاد الحب فقد يحول الهوى إلى رياح عاتية وعاصفة بفعل الضغط الزائد ولهذا الضغط أثران متعاكسان أولهما قد يسير باتجاه سلبي ونسبي على المجتمعات كرياح هتلر العاصفة التي اجتاحت العالم بأكمله لتخلف وراءها المزيد من الضحايا ولترسم شكلا مختلفا لخارطة العالم القادم وبالمقابل قد تحمل أثرا ايجابيا حتى وإن سقط بعض ضعاف النفوس في مرماها من مواهب متواضعة وملوثة بالغطرسة والكبرياء الكاذب كرياح عباقرة آخرين حققوا شهرتهم وأوصلوا رسالتهم للعالم القادم ضمن زمن قياسي وخير مثال على ما ذكرته هنا عاصفة فان غوغ وبيكاسو في التشكيل والفرق بين تلك العاصفتين أن الأولى هبت بعد رحيل فنان سبق عصره إذ كان مغمورا في زمنه أما الثانية الثانية فقد استطاعت أن تجد أرضا خصبة لها في زمنها

وأيضا يمكن أن يكون هنا حنا مينة خير مثال يذكر في الأدب الروائي والواقعي حتى وإن ادعى البعض أن شهرته وابداعاته وصلت متأخرة وما كانت لتصل لولا بعض رواياته التي حولت لمسلسلات وأفلام كالشمس في يوم غائم ونهاية رجل شجاع ... وأنا أقول هنا هذا هو قدر المبدعين من منشأ فقير في بلدنا وقد تسلحت البرجوازية فيه بجميع الوسائل الساعية لصد رياح الابداع والمبدعين لتبقى الصدارة لقليل من ضعاف الموهبة بينهم ومن المدعين ... وما أشبه حياة حنا مينة بحياة فان غوغ في معترك الشقاء ذاته حتى وان اختلفت التفاصيل فالواقعية الرمزية في الأولى تقابلها واقعية تعبيرية في الثانية وكلاهما يخدم تلك الروح التواقة لتلخيص خلاصة تجربة حياة ومعاناة وتقديمها على طبق الأدب والتشكيل لمن حولهم بالذات لكن لقوة الابداع اجنحة قوية تجعله يطير ليمتد إلى العالم بأسره.

حنا مينه سيرة حياته

وُلِدَ حنا مينه في اللاذقية عام 1924، الذكر المخلص والمنتظر بعد ثلاثة بنات وثلاثة مصائب اتسمت بها عقليتنا السلفية المتوارثة وخصوصا في أوساطنا الفقيرة المحكومة بالقيم البالية وبالخوف من الوسط المحيط وقد تعاون ذاك الوسط من ذوي القربى والجيران على إذلال والدة حنا مينة أم البنات ليصير هاجسها ولادة ذكر يكم أفواه المتغطرسين والمتغطرسات.

كان حنا مينة هو الذكر المخلص وهو منحة السماء التي جاءت بعد عناء ولكنها كانت مهددة بالأمراض لحكمة أرادها رب العباد فهو الذي يهب الذكور والإناث وكلاهما واحد في الأساس الخلقة الكاملة هي المطلب .. وعلى الأم أن تتوجه لربها بالدعاء ليحفظ لها وليدها بعد ما شهدته من عناء.

استجاب الله لدعاء الوالدة وتضرعاتها ونجا حنا مينة من موت كان محتم كان يحوم حول فراشه خلال طفولته المبكرة وبقي الفتى نحيلا ضعيفا حتى مراحل متقدمة من عمره ويقول في هذا : أن ضعفه حرمه من الاشتغال كعتال في المرفأ فوجد له معلمه عملا آخر وهو الكتابة على أكياس البضاعة ومن المفارقات المضحكة ,انه حين التقى بمعلمه في دمشق بعد زمن طويل أراد أحد أصدقائه أن يذكر المعلم به فقال له : حنا مينة كاتب وروائي معروف وكان جواب المعلم أعلم هذا جيداً فقد تعلم الكتابة على الأكياس

بكت الوالدة كثيرا حزنا على حظها في السابق وفرحا بقدوم وليدها في اللاحق ولكن حنا مينة الذي ولد في قلب الخطر صار عاشقا للخطر فلازمه ذاك الأخير في سني حياته القادمة في السجون والمنافي ... الجزاء الطبيعي لكل باحث عن الحرية ولكل ساع لتحقيق العدالة الانسانية والاجتماعية

رفض حنا مينة الاستكانة للاستعمار الفرنسي رفض السكينة والاستكانة والحياة الهادئة والمستقرة وأبحر في قلب الخطر ليقترب من المعنى الحقيقي للحياة وليرسم فلسفته ورؤيته الخاصة والتي تعكسها معظم أعماله الروائية التي تحمل ذاك النفس الواقعي إنما بحس جمالي قادر على أن يلبس اللهجات المحكية ثوب الأدب في رواياته لتصير هي الأقرب والأقدر على محاكاة وترجمة عذابات الناس وهمومهم وهي الأكثر قدرة على تبني طموحاتهم وأحلامهم وتطلعاتهم من خلال تقمصهم لأبطال قصصه المعجونين من خبز الحياة ومن وجعها فهم أناس طبيعيون يعيشون بيننا ويتمتعون بقيم الشهامة والرجولة وبالقيم الرائجة في مجتمعاتهم وضمن جماعاتهم والتي تؤهلهم لاكتساب شعبيتهم واحترام الناس لهم وتتوجهم كقادة ومؤثرين على من حولهم لا من خلال مناصب يشغلوها انما من خلال مواقف يظهروها

ابطاله أناس عاديون من لحم ودم تحركهم مشاعر الغيرة والحب يحركهم حبهم للأصدقاء وللأرض التي يعيشون عليها فنراهم يغضبون ويعشقون وو وو والخ

ابطاله هم حنا مينة ذاته وقد عركته الحياة وعاركته منذ نعومة اظافره ومنذ نعومة اظافره وهو يواجه شظى العيش بالعمل ويسعى بغير بلادة أو كسل أو ملل وهو بفضل حساسيته العالية استثمر ما واجهه في تلك الحياة ليقدمه عبر أعمال روائية البسها ثوب الجمال من خلال تكريسه للقيم الرائجة والمواقف البطولية وتحميلها تلك الرمزية القادرة على تمكينها لتصير قابلة للإسقاط على مناحي كثيرة لتحيا وتكتسب أهميتها وشرعيتها في كل زمان ومكان لن أقف في مقالتي هنا عند أي عمل من أعمال حنا مينة الكثيرة انما اسمحوا لي أن أستقصي الأسباب والمسببات التي وضعته في هذا المكان.

وإحدى أهم تلك المسببات هي شكل وصوله لتلك الحياة فقد وصل كمخلص ومنقذ لعائلة مكونة من أم وثلاثة إناث وهنا يمكن أن نتصور أن المستقبل أمامه سيكون مفتوحاً ليأخذه في أحد الاتجاهين المتعاكسين

فكونه الذكر الوحيد هذا قد يدفع بالعائلة لإفساده عبر تركيز الدلال عليه وتلبية جميع طلباته ليتحول مستقبلا لفتى عاق واتكالي على أهله حينها ستأخذه الحياة من فشل لآخر واعتقد أن ذاك الاتجاه كان بعيد الاحتمال في نشأته لعدة أسباب أهمها الوضع الاقتصادي والحياة التي فرضت عليه العمل مبكرا إذ أن الحياة كانت قاسية عليه أما دلال والدته له فكان حبا يقويه على مواجهة تلك الحياة ويغذي مشاعره وأحاسيسه ليوجه مستقبله لاتجاهات أخرى مرتبطة بالفن والأدب أما السبب الآخر فهو ترتيبه بين أفراد العائلة فربما كان لذاك الدلال أثره السلبي الأكثر خطورة لو كان هو أكبر أفراد الأسرة حينها تضيق احتمالات النجاة من ذاك الاتجاه أو على الأقل يصير مستقبل حنا مينة معلقا بخيارات أخرى بعيدة عن الفن والأدب ... فالسلطة المبكرة غالبا ما تعيق العقول وخصوصا حين ينو إحساس الذكورة المقدسة عند أصحابها

ومن حسن حظ حنا مينة أنه كان الولد الرابع بعد ثلاثة بنات. فإن كان وراء كل رجل عظيم امراءه قد تكون أمه أو حبيبته فوراء حنا مينة أم وثلاث أخوات مؤمنات بأن نجاح العائلة وتفوقها لن يتحقق إلا من خلاله هذا ما حفره المجتمع في وجدانهم قبل أن يولد حنا مينة ورب ضارة نافعة فتعيير الأقارب لأمهم أم البنات ثم ما حفره المجتمع في وجدانهم غلب تلك الغيرة التي قد تتشكل بوجود ولد ذكر ووحيد بينهم

أما المسبب الآخر الذي رسم لحنا مينة مكانه ومكانته المستقبلية

فهو حياة الفقر والحرمان التي عاشها وأكبر حرمان فرضه الفقر ويمكن أن نستذكره هنا الحرمان من التعليم فهو حين حرم من التعليم بسبب الفقر وهو الفتى النجيب سيبحث عن ضالته في مكان آخر يعوضه ذلك الحرمان وتدريجيا تكشف له ذلك المكان حين صار يعاين تجاربه الحياتية ويبحر مستخلصا المواقف والعبر في أعمال روائية

الاسباب والمسببات كثيرة والمطلع بعين محلل وباحث تستطيع سبر الأغوار سيجد أن كل تفاصيل الحياة التي مر بها حنا مينة من تنقله بين عمل وآخر إلى مواقفه الرافضة للانتداب والتواقة للحرية إلى حياة المنفى والسجون إلى علاقاته العاطفية ومغامراته في المجهول

تبقى المرأة والبحر سر السحر وسر جمال الحياة والروايات في أعمال حنا مينة وفي أعمال كثيرة وإن تأملتم تستشفون ماذكرته عبر بصيرتكم الخبيرة

من وحي تجربتي الشخصية اختم بعبارات كتبتها سابقا في سطور في التشكيل

* إن الإنسان ليس وليد اللحظة، وإن راودته تخيلات أو قرارات في أن يولد من جديد ويعيد تأسيس وبناء علاقاته الفنية والاجتماعية (تجديد الذات)، حتى المولود الجديد له أساسات وموروث اجتماعي من تاريخ الآباء والأجداد.

* أي عمل أو انجاز نقوم به الآن مؤسس له منذ لحظة الولادة ، أو ربما من قبل

نحن لا نرى الأشياء الخارجية بنفس الطريقة ولا نعبر عنها بنفس الطريقة والا لكان العالم ممل

عملية الخلق الفني هي تجديد مستمر يتجاوز الفنان فيه نفسه ويتعلم من غيره يتأثر ويؤثر وبذلك يتحقق شكل من أشكال الحوار والتواصل الثقافي

التأثيرات واردة للوصول إلى الجديد والمختلف بشرط إن لا تتحول إلى تبعية ولا يحمي الفنان منها إلا تمثيله لذاته والبحث في الجذور الفنية المحلية والتراثية ليتمكن من تقديم رؤية جديد تضيف إلى الفن العالمي وتغنيه.

أما انتماء الفنان لجذوره وتفاعله مع فن حقيقي هذا ينضج تجربته ويضيء على خصوصيته

* التأثيرات غير المباشرة أمر ضروري ووارد

*في العمل الفني الكمية مطلوبة والاهم النوعية وللانطباع الأول له أثره الذي يدوم طويلا

* ما يعنيني أن أكون صادقا مع ذاتي أمثلها إلى أبعد الحدود

***

للفينيق حسين صقور

في المثقف اليوم