شهادات ومذكرات

المنصور بن ابي عامر.. أسطورة عصامية لن تتكرر

محمود محمد عليعندما فتح القائدان طارق بن زياد وموسى بن نصير، دولة الأندلس، قاموا بالقضاء على حكم القوط، عام 94 هجريًا، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وعينت الدولة الأموية العديد من الولاة حتى سقوطها.

وعقب سقوط الدولة الأموية، وهروب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، إلى الأندلس، وتأسيس الدولة الأموية بالأندلس، عاصمتها قرطبة، تعاقب الخلفاء الأمويين على الحكم، كهشام بن عبد الرحمن الداخل، وولده الحكم، وعبد الرحمن الأوسط، وعبد الرحمن الناصر، الذي يعتبر أعظمهم، وابنه الحكم المستنصر، حتى ظهر منصور بن أبي عامر، مؤسس الدولة العامرية، الذي حكم لمدة 50 عامًا، ولم يٌهزم في أي معركة ضد الفرنجة والصليبيين.

وذكر ابن خلدون، في تاريخه، أن «محمد بن أبي عامر تولَّى الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) حتى 392هـ، 1002م، وقضى المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها».

وكان اسمه كفيل بأن يدب الرعب في قلوب ممالك أوروبا في العصور الوسطي، وكان النصر في ركابه أينما تولي، وبلغت الحضارة الأندلسية اسمي مراتب الأبهة والعظمة في عصره، حيث جعل من مدينة قرطبة قبلة للعالم وعاصمة الدنيا، وقد تم إطلاق اسم ربيع قرطبة على عصره .

عٌرف عنه الشجاعة والمهابة والعطاء .. مقبل ومحب للعلم، وكانت له مائدة عامرة لكل من دخل داره، كريما معطاء، يجري العلماء والأدباء على إبداعاتهم، وكان يرفض كل من كان يعمل في النجوم والفلسفة والاستهتار بالعقيدة .. اتصف أيضا بحسن المسامرة والمنادمة .. يحب الوقار والهيبة ويكره الشخص المتبسط حتى في حضرته فلا يوفيه حقه ..

لقب بالحاجب المنصور المعافري، وكان جده المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد رحمه الله، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس واستقر بها، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين، والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وقد مات في مدينة طرابلس الغرب وهو عائد من أداء فريضة الحج، وأمه هي بريهة بنت يحيي من قبيلة بني تمتم العربية المعروفة.

ولد المنصور عام 327ه في الجزيرة الخضراء في بيت من أعيان تلك المدينة .. قدم محمد بن أبي عامر إلى قرطبة شابا لطلب العلم، والأدب، والحديث، فدرس الأدب على يدي " أبي على البغدادي " و" أبي بكر بن القوطية"، والحديث على يدي " أبي بكر بن معاوية " القرشي رواي النسائي، ثم بدأ حياته بأن افتتح دكانا أمام قصر الخليفة، يكتب فيه الرسائل والعرائض لأصحاب المصالح، فلفت نظر من في القصر بأسلوب كتابته وبجزالة عباراته.

التحق ابن أبي عامر بخدمة الخليفة الحكم المستنصر بالله  عندما رشحه الحاجب " جعفر بن عثمان المصحفي" ليكون وكيلا لعبد الرحمن أول أولاد الخليفة، وهو ما عينه عليه الخليفة بمواقفه من أم عبد الرحمن صبح البشكنجية، فعين لذلك في وربيع الأول 356 ه، ثمر ولاه دار السكة في 13 شوال 356 ه، ثم ولي خطة المواريث في 7 محرم 358 ه، فقاضيا على أشبيلية ولبلة وأعمالهما في 12 ذي الحجة 358ه .

وبعد وفاة عبد الرحمن صغيرا، بقي في خدمة أم الخليفة إلى أن أنجبت ولدها الثاني هشام، فأصبح وكيلا لهشام في 4 رمضان 359 ه، وفي جمادي الآخرة 361ه جعله الخليفة الحكم على الشرطة الوسطي، ثم أنفذه إلى المغرب في شوال 362ه بأموال كثيرة إلى المغرب لاستمالة زعماء البربر إلى جانب الخلافة، ثم أرسل مرسومه بتوليته قضايا لقضاة عدوة المغرب، ثم أسند إليه النظر على الحشم وهو في مرض موته .

وفي قترة خدمته لصبح البشكنجية، لجأ ابن أبي عامر إلى استمالتها بحسن خدمتها وإتحافها بالهدايا، والتي كان من أشهرها نموذجا مبهرا لقصر من الفضة أنفق عليه قدرا كبيرا من المال، وأهداه إليها في الفترة التي ولي فيها دار السكة أثار ذلك عددا من رجال الدولة الذين رأوا في صعوده في المناصب ما يقلقهم، فسعوا لدي الخليفة يتهمون ابن أبي عامر بالإنفاق من مال السكة، فأمر الخليفة بالتحقق من ذلك، وكان ابن أبي عامر قد أنفق منه بالفعل، فلجأ إلى صديقه الوزير ابن حدير ليقرضه ما نقص من اموال السكة، فأقرضه ابن حدير من المال ما أتم ابن أبي عامر به ما لديه من عجز.

بعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر، أصبح ابن أبي عامر واحدا من صناع القرار في الخلافة الأموية بالأندلس، وقوي حلمه القديم بالوصول إلى منصب " الحجابة"، وهو أعلى المناصب في هرم السلطة بعد الخليفة، خاصة أم الخليفة لم يبلغ التاسعة بعد، وكانت أمه من أشد المعجبين بشخصية ابن أبي عامر، وكانت اول تلك الخطوات هو تحطيم سطوة " الفتيان الصقالبة"، وهم جنود استقدمهم خلفاء بني أمية في الأندلس من عدة ممالك أوربية لتشكيل حاشيتهم والدفاع عنهم، بيد أنهم أصبحوا قوة مسلطة على رقاب المجتمع الأندلسي، فتخلص منهم بمساعدة الحاجب " جعفر المصحفي"، حاجب الخليفة الحكم المستنصر، وبعد أن فرغ ابن أبي عامر من الصقالبة، توجه المصحفي نفسه، فقد كان يري فيه سببا م أسباب الفساد في الخلافة، فتحالف مع قائد الجيش " غالب الناصري"، الذي كلن خصما لدودا للمصحفي حتي تخلص منه، ومع إزاحة المصحفي جلس ابن أبي عامر على كرسي الحجابة، وصيا على عرش خليفة صغير لا يحسن التدبير، فاستمال ابن أبي عامر قلوب فقراء الأندلس، بتوزيع الأموال، مستعينا في ذلك برواج التجارة وخزينة الدولة القوية، حتى أصبح دولة داخل الدولة الأموية، وتسمي بالـ" الحاجب المنصور ".

نجح المنصور في إدارة شؤون البلاد الاقتصادية،وشهدت البلاد في عهده رواجا اقتصاديا وزاد دخل الدولة، حتى بلغت الضرائب العادية في أواخر عصره 4،000،000 دينار، بل وبلغت جباية قرطبة في عهده 3،000،000 دينار .

ويقول الدكتور محمد عبد الله عنان، في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس»: «كان مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ، فكان من عادته الحاجب المنصور في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى».

ويقول «ابن الاثير»: «كان المنصور بن أبي عامر عالماً، محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وأكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيامه أعياداً لنضارتها، وأمن الناس فيها».

أدرك المنصور أن دولة الإسلام في الأندلس لن تهنأ بحضارتها واقتصادها المزدهر، ما لم تكبح أطماع الممالك الإسبانية في الشمال على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، مثل ممالك " ليون"، "قشتالة" و" نافارا" و" جيليقية" و" برشلونة"، والتي كانت تغير على حدود الخلافة، فقاد بنفسه تلك الحملات الحربية التي لم تنقطع عن تلك الممالك، صيفا " الصوائف" أو شتاءً " الشواتي"، وكان النصر حليفه في تلك الحملات التي بلغ عددها 57 حملة .

دانت له تلك الممالك بالطاعة، وبات اسمه مصدرا للفرع لتلك الممالك وسائر أوروبا، حتى أن البابا في روما، كان يعقد الصلوات من أجل صب اللعنات على هذا القائد الفذ، وفي العمارة توسع المنصور في بناء المسجد الجامع بقرطبة، حتى أصبح درة فريدة في تاريخ العمارة الإسلامية، وأعاد تجديد قنطرة قرطبة، وشيد مدينته الملكية المعروف بـ"الـزاهرة"، والتي نقل إليها دواوين الدولة .

توفي المنصور خلال عودته من إحدي حملاته العسكرية ليلة السابع والعشرين من رمضان عام 392ه، فأمر قبل وفاته بأن يدفن حيث مات، فدفن بمدينة سالم، وهي إحدي المدن العربية التي تقع شمال مجريط، وهي مدينة مدريد الحالية، وكان المنصور إثر كل حملة يفوم بها، يأمر بأن يؤخذ ما علق على ثيابه من غبار المعارك، حتى تجمع له صرة عظيمة من الثري، فأمر بأن تنثر عليه في قبره، ووضع على القبر لوحة رخامية نقش عليه :   آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيان تراه تالله لا يأتي الزمان بمثله أبدًا ولا يحمي الثغور سواه .....هنا يقع نصب الحاجب المنصور .المنصور بن ابي عامر (قلعة النسور).

***

د. محمود محمد علي

...................

المصادر

* ابن عذاري، أبو العباس أحمد بن محمد (1980). البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب. دار الثقافة، بيروت.

* عنان، محمد عبد الله (1997). دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الأول. مكتبة الخانجي، القاهرة.  .

* القضاعي، ابن الأبّار (1997). الحلة السيراء. دار المعارف، القاهرة..

* ابن حزم، علي (1987). رسائل ابن حزم الأندلسي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر - تحقيق إحسان عباس.

* المقري، أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد (1980). أزهار الرياض في أخبار عياض. صندوق إحياء التراث الإسلامي - دولة الإمارات العربية المتحدة.

* ابن الخطيب، ذو الوزارتين لسان الدين (1988). الإحاطة في أخبار غرناطة - المجلد الثاني. مكتبة الخانجي، القاهرة.

* العذري، أحمد بن عمر بن أنس (-). نصوص عن الأندلس من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار، والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك. منشورات معهد الدراسات الأسلامية في مدريد.

* نعنعي، عبد المجيد (1986). تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي. دار النهضة العربية، بيروت.

* المقري، أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد (1988). نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - المجلد الأول والثالث. دار صادر، بيروت.

* ابن خلدون، عبد الرحمن (1999). كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاونهم. دار الكتاب المصري، القاهرة - دار الكتاب اللبناني، بيروت.  .

في المثقف اليوم