شهادات ومذكرات

في ذكرى رحيلِ كاتبِ العرائض الذي أحرجَ خالَهُ الوزير

على الرغم من أنّ تأريخَ ولادتهِ كان معروفاً لدى المثقفين (1926) إلاّ أنهُ حين قدّم شهادتهُ في الذكرى الثلاثين لرحيل بدر  شاكر السيّاب (في الإحتفالّية التي أقامها معهد العالم العربيّ في باريس فى يناير 1995م) ذكر ولادتَهُ على نحو دراميّ، إذ استرجع حواراً كان قد دار بينهُ والسيّاب في الخمسينّيات جرى هكذا:

(سألني بدر شاكر السّياب عن عام ولادة الفنان الخالد جواد سليم؟فقلتُ: العام 1926م، ثم أردف سائلاّ: وعام ولادة الفنان خالد الرّحال؟، فقلتُ: في العام 1926م، نفسهِ ، ثم أومأ لي: وعام ولادتك؟ فقلت: نفسه سنة 1926، فما كان منهُ إلاّ أنْ صاح بصوتٍ مرتفع: وأنا كذلك من مواليد العام 1926م، إذاً  فقد وُلدتِ العبقريةُ الإبداعيةُ فى هذا العام تحديداً.

وحين ذكّرتهُ أنّ عبد الوهاب البّياتي أيضاً من مواليد سنة 1926 م، انبرى رافضاً متبّرماً مدّعياً أنّ البياتي ليس من مواليد عام العبقرّية، أنما قد يكون من مواليد سنة 1927م، أو سنة 1925م، رغبةَ من السيّاب في إبعادِ العبقرّيةِ عن البياتي مع سبق الإصرار، والترصد. (إنهُ بُلند الحيدريّ رابع الثلاثة الكبار في حركة الحداثة الشعريّة الأولى في نهاية الأربعينيات الذي عرفتهُ شوارع بغداد، وأرصفتها صعلوكاً مع) حسين مردان (رافضاً وصايا العائلة البرجوازيّة التي كان ينتسب إليها، مفضلاً عليها حياة التشرّدِ لينعمَ بالحريّة قولاً، وفعلاً، ويحرم نفسهُ من إكمال التعليم.

عاش متمّرداً، وظلّ كذلك حتى آخر يوم في حياته، فهو لم يكتفِ برفض عائلتهِ البرجوازيّة المتشبّثة بالحكم حين هرب من قصرها ليتوسّد أرصفة بغداد، إنّما ليتحدَّاها ويضعَ كرسيّاً (علبة من الصفيح) ومنضدة قديمة (من خشب متآكل) في باب وزارة العدليّة التي كان يشغل منصب الوزير فيها خالهُ داود باشا الحيدري ليعمل بكل نكايةٍ كاتبَ عرائض للمتظلمين.

تعرفتهُ أول مرّة سنة 1961م، حين كان يعمل نائباً لمدير عام مصلحة المعارض العراقّية، وكان عمري آنذاك عشرين ربيعاً، فطلبتُ منهُ مساعدتي في تعييني بائعَ تذاكر في معرض 14 تموز التجاري (الذي أصبح بعد حين معرض بغداد الدوليّ) لكونهِ نُسّبَ إليه مديراً عاماً، فزوّدني في اليوم نفسه ببطاقة العمل التي عليها توقيعُهُ، وبـ(شارة المعرض) اللتين مازلتُ أحتفظ بهما اعتزازاً بإمضائهِ وهديته، فعشتُ مرفهاً شهراً كاملاً هي مدة المعرض.

وبعد المعرض كنتُ ألتقيه بين الفينة والأخرى في الإتحاد العام للإدباء والكتاب فى العراق، والإتحاد العام لشبيبة العراق في منطقة السعدون حتى سنة 1963م التي تمّ فيها إلقاءُ القبض عليه بعد انقلاب 8 شباط الدمويّ، لكنّهُ أُنقذ من الموت بأعجوبة فكانت بيروت أولى منافيه، فظلّ فيها ما يزيد على ثلاث عشرة سنة، عمل فيها أستاذاً للغة العربية في ثانوية برمانا ، ثم مديراً لها، كما تولّى رئاسة تحرير مجلة (العلوم) الصادرة عن دار العلم للملايين، عاد بعدها سنة 1978م، إلى بغداد فعين مديراً لتحرير مجلة (أفاق عربية) حتى سنة 1980م، ثم ترك العراق إلى لندن فشغل منصب المدير العام لشركة (باميكاب) وأصدر عنها مجلة "فنون عربية" حتى سنة 1982م، الذي تفرغ فيها للكتابة فى الصحف، والمجلات، ليصدر بعد ذلك دوريّة " الديمقراطي".4160 بلند الحيدري

كان بلند ثائراً مناضلاً من أجل حريّة شعبهِ، لكنّهُ أضحى "كما يقول" طعماً للنار:

وأنا كنتُ من الثوارْ

وعرفتُ النومَ على الأسمنتِ الباردِ كالقرنِ العشرين.

وعرفتُ السجانينَ الثوّار، وعرفتُ المسجونين الثوار.

وعرفتُ بأنّ الثورةْ

قد تقلع ظفري، قد تولجُ شرطيّاً في صدري.

ورأيتُ أناملهم في عيني

تقول: أنت الملعون فكن طعماً للنارْ

صرنا طعماً للنارْ .

حين التقيته في باريس للمرة الأخيرة في يناير 1995م (في الذكرى الثلاثين لرحيل السياب) سألني عن اليمن، وعن الأصدقاء المقيمين فيها، وعن المبدع عبد العزيز المقالح، وروى لي أنَّ السفارة العراقية في صنعاء حاولت اغتياله سنة 1991م، بعد أن ألقى مجموعة من قصائده التي عّرض فيها بالنظام الدموي في العراق، لكنّ بعض الأصدقاء ساعدوهُ في الوصول إلى المطار خُلسةً قبل انتهاء الدعوة التي كانت اليمن قد وجهتها لهُ لإحياءِ بعض الأماسي الشعريّة فيها وزيارة آثارها القديمة، ووصف رعب الساعات الأخيرة التي حاول فيها أزلام السفارة النيل من حياته، وفي غمرة حديثه ذاك نهض من كرسيه ودخل غرفته في الفندق (الذي شاركتُه الإقامة فيه) ليجلب لي هديّة، كانت عبارة عن مودّة حميمة تجلت في (كاسيت) فيلم وثائقي عنهُ أنتجته فضائية دبي، أُضيف إليه التكريم الذي أقامهُ لهُ السفير السعودي غازي القصيبي ومجموعة من الأصدقاء لمناسبة توقيعه على أحد دواوينه الشعرية الجديدة، وقد أعرتُ هذا الفيلم للنادي الأدبي في صنعاء يوم قدّم عنهُ ندوةً، أو مايشبه الندوة تحدث فيها الدكتور الشاعر رشيد ياسين عن الحيدري مبدعاً.

ومع أن هذا الفيلم قد تضمن فعاليات أقيمتْ من أجله مبدعاً في أكثر من منفى فإنّ الحيدريَّ كان يكتم غصة، فتكريمه يجب أن يكون في وطنه العراق في بيته الذي حلم بالعودة إليه دون جدوى:

لا....ما انتهيتُ

فوراء كلّ ليالي هذي الأرض

لي حبُّ وبيتُ

ويظلُّ لي حبٌّ وبيتُ

وقد يعود بيَ الزّمانْ

غير أنّ الزمان كان ضنّيناً بتحقيق حلم بُلند، فقد أُصيب بجُلطة قلبيّة اُجريتْ على إثرها لهُ عمليّة القلب المفتوح فأماتتهُ يوم الاثنين 5/8/1996م، ووري جثمانه الثرى يوم الخميس 8/8/1996م، في شمال العاصمة البريطانية لندن محفوفاً بحداد ثلة من أعضاء الجالية العراقية، والعربية، بعيداً عن الوطن الذي غنتهُ قيثارةُ الحيدري، وظلت تحلم وراء الأبواب المغلقة بالثورة:

لكنّ وراء الأبواب المسدودةْ

مازال لنا وعد بالثورةْ.

مازال لنا من يحلم بالثورة.

من يدري: قد لا يشربُ قهوته ..مرّةْ.

في آخر رسالة تلقيتُها منهُ وردتْ جملة أومأت برحيله، فبعد أنْ صوّب لي خطأً تاريخياً وقعتُ فيه حين ذكرتُ في كتابي"نازك الناقدة" أنّ ديوان بُلند الحيدريّ خفقة الطين قد صدر سنة 1951م، وكنت أعني به (أغاني المدينة الميتة) لأن ّ الأول صدر سنة 1946 قال: "أحلمُ بلقاء قريب بكم إنْ مدّت الأيامُ بعمري، ولا أعتقد أنّها ستمدّ به طويلاً" .

رحم الله أبا عمر، فقد ظلّ يقاومُ بشعره الطغاة، والمرض، والوحدة دون أنْ ينسيه الشعر ذكر الموت، وزيارته المفاجئة حتى في قصائدهِ الوجدانية المفعمة بالرومانسية العذبة:

شتويةٌ أُخرى وهذا أنا

انسجُ أحلامي وأخشاها

أخافُ أن تسخر عيناها

من صلعةٍ حمقاء في رأسي

من شيبةٍ بيضاء في نفسي

أخافُ أنْ تركلَ رجلاها

حبّي

فأمسي أنا

هناك..جنب المدفأةْ

أُلعوبةً تلهو بها إمرأةْ

شتويةٌ أخرى وهذا أنا

وحدي

لا حب..لا أحلام..لا

لا امرأةْ

عندي

وفي غدٍ أموتُ من بردي

هنا بجنبِ المدفأةْ .

علماً أن بدر شاكر السيّاب كان قد صنّف بُلند ضمن شعراء الواقعيّة المجيدين في إجاباته لخضرِ الولي في (آراء في الشعر والقصة) فقال فيه: "..بلند الحيدريّ هذا الشاعر الممتاز الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منّا المفهوم السطحي للواقعيّة أن نعتبرها واقعّية"

وهي إشارة ظلّ المرحوم بلند يعتز بها، ويفتخر دليلاً على وفاء السيّاب لشاعريّة صديقٍ افترق عنه فكريّاً.

أخيراً، فأنَّ بلند نال جائزة اتحاد الكتاب اللبنانيين سنة 1973م، كما تُرجِمَ له ديوانان إلى الانجليزية، فضلاً عن ترجمة العديد من قصائده إلى لغات عالميّة عديدة.

لبلند الحيدري مؤلفات عديدة، فهو شاعر، وناقد، وفنان تشكيلي أيضاً،وإنْ كانت الصفة الأخيرة قد جاءته من نقده التشكيلي، ورؤيته للألوان وعلاقاتها التكوينية، وفيما يأتي آثاره الإبداعية:

1)  خفقة الطين (1946م) وهو ديوانهُ الأول.

2)  أغاني المدينة الميّتة (1951).

3)  أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى 1957م.

4)  جئتم مع الفجر 1961م.

5)  خطوات فى الغربة 1965م،

6)  رحلة الحروف الصفر 1968.

7)  أغاني الحارس المتعب 1971م.

8)  حوار عبر الأبعاد الثلاثة، 1972.

9)  إلى بيروت مع تحياتي 1989م.

10) أبواب إلى البيت الضيق 1990 .

11) المجموعة الكاملة عن دار العودة، 1974م.

12) دروب في المنفى (دراسات)1996.

13) إشارات على الطريق ونقاط ضوء، مقالات 1980م.

14) زمن لكل الأزمنة (مقالات) نقدية قصيرة، 1981.

15) مدخل إلى الشعر العراقي الحديث، مقالات 1987 .

16) قصائد لمَّا تجمع في ديوان.

***

أ. د. عبد الرضا عليّ 

 

في المثقف اليوم