شهادات ومذكرات

محمد شحرور.. المفسر المجدد - الحداثي

لا شك أن المفكر السوري "محمد شحرور" شكل ظاهرة مثيرة للجدل على مر العقود الماضية، فلطالما فاجأ الجمهور عامته وخاصته بتفاسير وتأويلات لآيات القرآن تختلف بشكل كبير، وربما تناقض تلك السائدة والمتعارف عليها كتفسيره لآيات المواريث على سبيل المثال، ورغم ما عُرف عن شحرور من مواقف يراها البعض ثورية كموقفه من حرية المرأة، والحجاب، ونظرية التطور، والقضاء والقدر، إلا أنه غالبا ما يصنف في نظر البعض كمفكر مجدد من داخل المؤسسة الفقهية، وليس حداثيا من خارجها.

بل ربما هناك من يراه "سلفي – يساري"، إن صح التعبير، أي لم يقطع مع السلفية حتى وإن وُجدت من بين غلاة هذه الأخيرة من يكفره، فهو يستند إلى ذات منطلقات المدرسة السلفية الباحثة عن تفسير كل شئ داخل النص المقدس الصالح لكل زمان ومكان، ورافضة بالقطع لمسألة تاريخيته .

والسؤال الآن: كيف تنبأ محمد شحرور إلى تفاسير لم تخطر على بال أحد غيره تقريبا لآيات القرآن؟، وهل نحن حداثي أم مجدد؟، وكيف يمكن فهم موقفه من التأويل في ظل مواقفه المتقدمة في كثير من القضايا الاجتماعية؟

وللإجابة على تلك الأسئلة نقول عندما نتعامل مع "شحرور" المفسر، نجد أنه قد خرج بتفسيرات مغايرة دفعته للدعوة إلى تجاوز تفاسير النص القرآني والاشتغال من داخله بخروجه لتفاسير جديدة تناسب العصر، حيث نجح "شحرور" من خلالها إلى تحريك المياه الراكدة، وأثار النقاش حول معاني آيات كانت تبدو واضحة وغير قابلة للتأويل، لكنه رغم ذلك لا يصنف عادة كما قلت في نظر البعض من بين المفكرين الحداثيين، بل يُنظر له المجتمع الفكري العربي كمجدد من داخل مؤسسة تقليدية .

وبعيدا عن نقاش "محمد شحرور" تقليدي أم مجدد، فإن ما لا يمكن عليه تجاهله هو أن شحرور الذي فارقنا في نهاية 2019 خلف إرثا أدبيا هاما فتح عبره قوة في جدار الجمود الفكري الديني، وأثار من خلاله تساؤلات كثيرة حول ما ظن كثير من الناس أنه فوق التساؤل، وهذا الأمر وحده كفيل بوضعه في مصاف كبار المفكرين العرب .

لقد جدد رحيل المفكر السوري محمد شحرور نهاية العام الماضي، الجدل الذي لم يفارقه، منذ أن بدأ يتناول علوم التفسير والفقه والحديث بجرأة وتأويل، قسمت المتلقين العرب حوله ما بين مريدين يرونه مفكراً مستنيراً وناقمين ينظرون إليه "زنديقاً متعالماً" أو مهندساً في أحسن الأحوال، امتهن تحريف الكلم عن مواضيعه.

إلا أن صبره واستمراره على الرغم من قوة الهجوم ضده، أكسبته شريحة وسطاً بين الفريقين، تختلف معه وتتفق، وتدرس مشروعه الفكري، بمعزل عن الأحكام المسبقة إن كانت بقبول رؤاه جملة بذريعة التجديد أو رفضها بمنطق الضفة الأخرى بحجة "تحريضها على الكفر والفسوق بعد الايمان، ونبذ دين الفقهاء"، وهو غير دين الله عند شحرور الذي جاء به التنزيل الحكيم، قبل أن يحرفه المفسرون.

وقد ولد "محمد شحرور بن ديب" في دمشق عام ١٩٣٨ من عائلة متوسطة حيث كان والده صباغا، أتم تعليمه الثانوي في دمشق وحاز الثانوية العامة ١٩٥٨ وسافر بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي ليتابع دراسته في الهندسة المدنية، وتخرج بدرجة دبلوم ١٩٦٤ من جامعة موسكو آنذاك ثم عاد لدمشق ليعين فيها معيدًا في كلية الهندسة المدنية فى جامعة دمشق حتى عام ١٩٦٨. أوفد إلى جامعة دبلن بأيرلندا عام ١٩٦٨ للحصول على شهادتى الماجستير عام ١٩٦٩، والدكتوراه عام ١٩٧٢ في الهندسة المدنية- اختصاص ميكانيك تربة وأساسات، عين مدرسًا فى كلية الهندسة المدنية- جامعة دمشق عام ١٩٧٢ لمادة ميكانيك التربة، ثم أستاذا مساعدًا، افتتح مكتبًا هندسيًا استشاريًا لممارسة المهنة كاستشاري منذ عام ١٩٧٣، وما زال يمارس الدراسات والاستشارات الهندسية في مكتبه الخاص فى حقل ميكانيك التربة والأساسات والهندسة إلى أن رحل، وقدم وشارك فى استشارات فنية لكثير من المنشآت المهمة فى سوريا، له عدة كتب في مجال اختصاصه تؤخذ كمراجع مهمة لميكانيك التربة والأساسات. بدأ فى دراسة التنزيل الحكيم وهو في أيرلندا بعد حرب ١٩٦٧، وذلك فى عام ١٩٧٠، وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، واستمر بالدراسة حتى عام ١٩٩٠.

وشحرور له مشروع متكامل هدفه إصلاح الفكر والخطاب الإسلامي. بدأ اهتمامه فى البحث بعد هزيمة العرب عام ١٩٦٧ في حربهم ضد إسرائيل. قام بنشر أوّل كتاب له بعنوان الكتاب والقرآن- قراءة معاصرة عام ١٩٩٠. صدرت له بعد ذلك ٩ كتب أخرى آخرها فى عام ٢٠١٦. أدت منهجيته واستنتاجاته ومواقفه إلى كثير من النقد خصوصا من قِبَل التيار التراثي فى العالمين العربي والإسلامي.

وقد كان لمعيشة شحرور في أوروبا أثرٌ كبير على فلسفته الفقهية والفكرية، حيث تأثر بالمناهج النقدية والفلسفية الغربية، مُشِيرًا إلى أنه كان يدخل في نقاشٍ وجدالٍ طويل مع أنصار الماركسية – على سبيل المثال – وغالبًا ما كان يخرج مُثخنًا بالجراح في حلقة النقاش الديني معهم، مُرجِعًا ذلك إلى أن ثقافتنا الدينية لا تعطينا المرتكزات التي تُمكِّننا من الإجابة عن العديد من الأمور. ومثل كثيرين من مُمارِسي النقد الحديث للتراث، والدَّاعين لمناهج جديدة للتعامل مع كلٍ من الكتاب والسنة، لا يهتم شحرور ببيان ما اطَّلع عليه من ذلك التراث، ولا بالكشف عن مدى معرفته بما ينقدُه أو يرفضُه أو حتى يتقبَّله.

ويحرص شحرور على عدم إعلان انتمائه إلى أية مدرسة قديمة أو حديثة، اللهم إلا إشارات إلى “تيار القراءة المعاصرة للقرآن الكريم،” وآراء متناثرة وضئيلة جدًا لأبي علي الفارسي. ولذلك يغلب عليه الإنشاء المقتبَس من الماركسية ومن الفلسفات الغربية للعلوم الطبيعية، وخاصة التطور الدارويني.

ويتبدَّى للمُتابِع والمُراقِب لتطور خريطة التعامل الحديث مع القرآن الكريم في بلادنا، أن شحرور ينتمي إلى تيار “القراءة الحداثية” الذي يُعَد الأستاذ أمين الخولي أحد أبرز دُعاته، والذي بدأ بالدرس الأدبي الاجتماعي، ثم تطوَّر إلى تطبيق النظريات الأدبية (البنيوية والألسنية وتحليل الخطاب والنص)، لكن شحرور يتميز عن هذا التيار بمقولتين:

الأولي: مقولة اللاترادف اللغوي (أي أن اللفظ الواحد في اللغة ليس له نظير: (والتي فهمها شحرور بطريقة آلت به إلى تحريك سائر المصطلحات القرآنية والشرعية عن دلالاتها المستقرة، بهدف استحداث معانٍ أخرى لها، على نحو فصل فكر شحرور عن كلٍ من القدماء والمعاصرين، وصنع له قاموسًا خاصًا يعسر تعميمه، وجعله حالة منفردة منغلقة عن التواصل مع مفهومات الآخرين لكلمات القرآن.

والثانية: مقولة المنهج الرياضي والشكلي للتفسير والتشريع: والتي استعاض بها عن القواعد التفسيرية والفقهية في فهم حدود الله تعالى وأحكامه، وقواعد الحلال والحرام ومناهج الفتوى والقضاء؛ ليخرُج بنتائج غريبة على العقل المسلم القديم والحديث، وإنْ حاول وصلها بما يُسمِّيه بـ "قيم العصر والحداثة".

وفي المحصِّلة، أسفرت محاولات شحرور عن عددٍ من المؤلفات ضمن سلسلةٍ عنوَنها "دراسات إسلامية معاصرة"، هي: "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" (1990)؛ “الدولة والمجتمع” (1994)؛ "الإسلام والإيمان: منظومة القيم” (1996)؛ "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: فقه المرأة.. الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – اللباس” (2000)؛ “تجفيف منابع الإرهاب” (2008)؛ "القصص القرآني: مدخل إلى القصة وقصة آدم" (2010)؛ "القصص القرآني: من نوح إلى يوسف" (2012)؛ “السنة الرسولية والسنة النبوية: رؤية جديدة" (2012)؛ "الدين والسلطة: قراءة معاصرة للحاكمية" (2014)؛ "أم الكتاب وتفصيلها: قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية.. تهافت الفقهاء والمعصومين" (2015)؛ "دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم: المنهج والمصطلحات" (2016)؛ و"الإسلام والإنسان: من نتائج القراءة المعاصرة" (2016).

هذا، ولقد نقَّح شحرور بعضاً من مؤلفاته تلك، وأعاد طرحها مرة أخرى، لتحمل العناوين التالية: “الكتاب والقرآن: رؤية جديدة” (2011)؛ “فقه المرأة: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي” (2015)؛ “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: أسس تشريع الأحوال الشخصية.. الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – الزواج – ملك اليمين – الطلاق – اللباس” (2018)؛ و”الدولة والمجتمع: هلاك القرى وازدهار المدن” (2018). علماً بأنه قد أشار في مقدمة كتابه “تجفيف منابع الإرهاب” الصادر في عام 2008 إلى أن الأربعة كتب السابقة عليه، والمذكورة أعلاه، مخالِفة في بعض موضوعاتها لذلك الكتاب، وأنه قد تم تصويبها فيه، انطلاقاً من كون منهجه المُستخدَم يكشف مواطن الخلل في ذاته، بدون محاباة وبدون عواطف

إجمالًا، يمكن القول إن من أبرز ما يقوم عليه تيار “القراءة المعاصرة” من مُسلَّماتٍ ومنطلقاتٍ أساسية، وينطلي على فكر شحرور ذاته، هو فكرة “التقدم أو التطور الزمني الخطي”، والتي تستوجب بالتالي القول بـ (1) عدم صلاحية المناهج المعهودة والموروثة للتعامل مع القرآن الكريم أو التعبير عن الإسلام؛ و(2) إعمال المناهج الحديثة (الأدبية والتأويلية والطبيعية) في فهم الدين وعلومه، بدلًا من تلك التي عفا عليها الزمن (!)؛ وكذا (3) ضرورة التوفيق بين تعاليم الدين ومخرجات العصر المادية والمعنوية في كافة مناحي الأنشطة الإنسانية. ولكون المقولات السابقة عُدَّت مُسلَّمات بالنسبة لأنصار هذا التيار، لم يقُم شحرور ولا غيره بمراجعة متفحِّصة لمناهج التراث؛ للبرهان على عدم أهليتها للتفعيل الإيجابي في العصر الحديث، كما لم يظهر أي اهتمام باختبار المنهجيات الحديثة للحكم على أهليتها وكفاءتها هي الأخرى، كما لم يُعنَي هذا التيار بتقديم رؤية نقدية تأصيلية للقيم الغربية وفلسفتها التي سمَّوها بـ “قيم العصر”.

وفي خاتمة هذا المقال أقول تحية طيبة لشحرور الذي كان يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفسر المحدد – الحداثي، والذي نجح بجدارة في التعامل مع العالم المحيط بها ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام ؛ حيث يحاول الكثيرون فيه أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- محمد شحرور. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). (بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى، 2016)، ص 26.

2- محمد شحرور. تجفيف منابع الإرهاب. (بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة – الأهالي، الطبعة الأولى، 2008)، ص 15.

3- محمد شحرور. الإسلام والإيمان: منظومة القيم. (دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1996)، ص ص 378 – 379.

4- محمد شحرور. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. (بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة – الأهالي، 1990)، ص 472.

5- أ. مدحت ماهر الليثي: قراءة في فكر محمد شحرورومعالجته للقرآن الكريم، مقال منشور ضمن خطوة للتوثيق والدراسات، في 26 يونيو، 2022.

6- حسام الحداد: محمد شحرور.. القراءة المعاصرة للنص الديني، مقال منشور ضمن جريدة البوابة نيوز المصرية، في يوم الإثنين 23/ديسمبر/2019 - 08:52 م

7- قناة الغد: محمد شحرور.. التأويلات والتجديد الديني | يتفكرون - الحلقة السابعة - الموسم الرابع، يوتيوب.

في المثقف اليوم