شهادات ومذكرات

الفقيه الشهيد.. النعمان بن ثابت الشهير بـأبي حنيفة

النعمان بن ثابت الشهير بـأبي حنيفة.(80هـ - 150هـ).(طاب ثراه).

أبو حنيفة كنيته الشخصية أما كنيته البنوية فأبو حماد وهو ابنه الأكبر .ورد جده في مصادرنا باسم (زوطي) وينبغي أن تكون (زوتي) فضخمت التاء إلى طاء حسب العادة المتبعة في لغة العرب في تعريب الأسماء الأعجمية. وهو من أهل كابل عاصمة أفغانستان اليوم. ولد في الكوفة عام(80هـ) ونشأ فيها. واحترف تجارة (الخز)-صنف من أصناف الحرير- في شبابه واستمر عليها بقية حياته. يقول عنه شيخي الطاهر  هادي العلوي(طاب ثراه): (هو من الموالي وكان جده (زوتي) قد جيء به أسيرا بعد فتح كابل فأسلم وعاش في الكوفة وتزوج وولد له ابنه ثابت وكان ذلك أيام التمييز الأموي ضد الموالي. ولا شك أن أبوه ثابت قد عانى من هذا الوضع لكن نبوغ النعمان غطى على هذه المعاناة وانتقل الحال به إلى أن يصبح مصدر قلق للأمويين بعد أن كان والده وجده من مستضعفيهم. ولا سبيل إلى الربط بين أصول أبو حنيفة واتجاهاته التي عرفناها فهو على الأكثر نسيج وسطه الكوفي المشبوب بالصراع والحروب الأهلية وتكوينه الشخصي هو الذي أهله لتقبل تأثير الوسط وإلا فإن آلاف من مجانسيه عاشوا وماتوا دون أن يتركوا أثرا يذكر). (هادي العلوي-شخصيات غير قلقة في الإسلام-ص137).

ويُعد أبو حنيفة من التابعين فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك.

"تتلمذ أبو حنيفة على يد الكثير من فقهاء وعلماء عصره، وقد اتصل بحلقة حمّاد بن أبي سليمان، ما يقرب من ثمان عشرة سنة وبقي ملازماً له حتى وفاة حماد سنة (120هـ).

ومن جملة المشايخ الذين تتلمذ على أيديهم: عامر الشعبي وأبو أسحاق السبيعي وعاصم بن أبي النجود وقيس بن مسلم والسماك بن حرب.

تصدى أبو حنيفة لأمر الإفتاء بعد وفاة أستاذه حماد بن أبي سليمان سنة (120هـ) باعتباره من أبرز تلامذته".(محمد أبو زهرة- أبو حنيفة،حياته وعصره).

آراؤه الفقهية:

كانت الدراسات الفقهية قد ناهزت النضج مع جيل إبراهيم النخعي حين بدأ أبو حنيفة انشغاله بالفقه وتقدم فيه متجاوزا جيله السابق ليصبح واحدا من أعلامه في جميع الأجيال.  ليكون صاحب مدرسة هي التي سميت بالمذهب الحنفي. وتتلمذ له ثلاثة صاروا فيما بعد من كبار فقهاء الإسلام وهم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل العنبري التميمي.

قاد أبو حنيفة حركة نهوض في الفقه الإسلامي بتأسيسه البحث الفقهي على القياس والرأي وكان الفقه الذي بدأ في المدينة (الحجاز) يأخذ بالحديث وهو الاتجاه العام لدى الفقهاء السبعة من التابعين وأبناء الصحابة والذي تبلور في مذهب مالك بن انس.

عرض مالك مذهبه في "الموطأ" وهو من مصادر الحديث فكانت أحكامه تؤخذ مباشرة من الحديث ولم يجتهد في شيء من أحكامه خارج هذا القيد.

أما أبو حنيفة فاعتبر الحديث من مصادر الأحكام وليس المصدر الأوحد فكان لا يأخذ بحديث الآحاد ويفضل عليه الرأي.

ويستند أو حنيفة في استنباط الأحكام المسكوت عنه أي التي لم يرد فيها نص قاطع إلى القياس القائم على اتحاد العلة بين المنصوص عليه والمسكوت عنه. ويدخل في القياس قاعدة الاستحسان وتشمل القياس الخفي أي ماورد فيه نص غير ظاهر يستنبط من الحكم رأسا باتحاد العلة. وقاعدة الاستحسان أعم من القياس وهي توسيع له على حساب النص ويعرف بأنه: "ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس"."فهو الطور الأخير في سلسلة الاجتهاد الذي يبدأ بتطبيق حكم النص الصريح ثم يتحول إلى القياس في المسكوت عنه وينتهي بإحلال الرأي الشخصي للفقيه محل القياس الدائر في حدود النص".(العلوي،ص130).

منع أبو حنيفة القياس في أربعة مواضع أبقاها مقيدة بالنصوص الخاصة بها في القرآن والسنة وهي:

1-الحدود: أي العقوبات.

ومنعه فيها ينسجم مع اتجاهه إلى عدم التوسع فيها وحصرها بالنصوص الصريحة مع السعي للتخفيف منها عمليا باشتراطاته المعروفة عنها.

2- الكفارات: أي الغرامات وهي من ضمن العقوبات التي تقدم عن جناية أو مخالفة غير مقصودة ومنها دية القتل الخطأ.

3- الرخص: أي السهولة واليسر.

يقول الإمام الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لقول الله تعالى: ''يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر'' (سورة البقرة الآية .185). وقال إبراهيم النخعي: ''إذا تخالجك أمران فظُنَ أن أحبهَما إلى الله أيسرهما''، وأجمعت الأمة على أنه لم يقع التكليف الشاق في التشريع وهو يدل على عدم قصد الشارع الحكيم إليه، إذ شرع الترخص وطلب التخفيف وهذا مما عُلم من الدين بالضرورة كرخص القصر والجمع والفطر وتناول المحرمات عند حالة الاضطرار". (الرخص في العبادات،د. عبد الرحمن المخضوب).

4- التقديرات: أي الحقوق المالية. وقد بناها أبو حنيفة على التفاوت حسب الحالات والوقائع فهي مما لا يخضع لقياس موحد. ومنع القياس في هذه الأمور يدخل من جهته في باب الاستحسان لأن التوسع فيها إضرار بالناس.

"إن تبني مبدأ القياس ومده إلى القياس الخفي ثم إلى الاستحسان الذي يراعي الأفضل للناس يسجل نقطة تجاوز مبكر في حياة تكتمل فيه عناصر الاجتهاد لدى فقيه عظيم لتلامس من ثم طور متقدم ينتقل فيه الفقيه من مجتهد إلى مبدع. وثمة ما يجيز لنا ملائمة هذا الطور مع شخص أبو حنيفة لأنه انفرد بأحكام ومبادئ شرعية ضمنت حلول معقولة وعادلة للكثير من المشكلات يرجع الفضل فيها إلى مذهبه في القياس والاستحسان". (العلوي،ص131).

وهناك جملة من الأحكام قررها أبو حنيفة يستحسن المرور عليها ولو باختصار هي:

أولا- أحكام الخمس:

فرض الخمس في القرآن على (غنائم الحرب) وهي أموال المهزوم وأسلابه.

الآية: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.(الأنفال41).

فكانت الغنيمة تدفع لغانمها بعد دفع الخمس للنبي. ويقسم الخمس على خمسة أسهم واحد للنبي وآخر لأقربائه من بني عبد مناف والثلاثة الأخرى واحد لليتامى وواحد للمساكين والأخير لأبناء السبيل أي: (المسافرين المنقطعين عن عن أهلهم).

وبعد وفاة النبي وضع سهمه في أهل الديوان وهو حكم الفقهاء في مجموعهم بإستثناء الفقهاء الشيعة الذين نقلوه إلى الإمام المعصوم. أما سهم ذوي القربى فأبقي على حاله باتفاق المالكية والشافعية والحنابلة والشيعة وأسقطه أبو حنيفة وجعله من نصيب اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.

وقال: "إن فقراء بني هاشم يأخذون نصيبهم منه أسوة بالآخرين ولا يعطى أغنياؤهم منه" (العلوي، ص132).

وهذا أول رأي لفقيه يتحسس ظلم الطبقية واجحاف التفاوت بين الناس ويساوي بين السادة من بني هاشم وما سواهم من عامة المسلمين فطاردته اللعنات.

ثانيا- التكافؤ في الدماء:

نص القرآن على القصاص في قتل العمد ونص على الدية في القتل الخطأ إذا كان القتيل مسلم.

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِی ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِیَ لَهُۥ مِنۡ أَخِیهِ شَیۡءࣱ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَاۤءٌ إِلَیۡهِ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ ذَ ٰ⁠لِكَ تَخۡفِیفࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةࣱۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ [البقرة ١٧٨].

أجمع الشيعة والمالكية والشافعية والحنابلة على التفريق بين الحالات فأوجبوا القصاص في الحر ومنعوه في العبد وفرقوا في الدية فجعلوا دية المرأة نصف دية الرجل. كما أسقطوا القصاص في القتيل غير المسلم ونصوا على عقوبات أخف فإذا قتل حرا عبدا -وإن كان مسلما- لايقتل به وإنما يدفع ديته إلى سيده. وجعلوا دية غير المسلم نصف دية المسلم. فإذا قتل المسلم شخصا غير مسلم لايقتل به وإنما يدفع ديته وإذا قتل غير المسلم مسلما يقتل به.

أما أبو حنيفة فأوجب القصاص للمسلم وغير المسلم فالمسلم إذا قتل غير مسلم يقتل به قصاصا وساوى في الدية بين المسلم وغير المسلم إقرارا لمبدأ التكافؤ في الدم بصرف النظر عن الدين كذلك ساوى بين دية الرجل والمرأة إقرارا بالتكافؤ في الدم بغض النظر عن الجنس. وزاد في قضية (قضاء المرأة) حيث أجمعت المذاهب على عدم جواز  تعيين المرأة قاضيا قياسا على عدم جواز مبايعتها بالخلافة. حيث أجاز أبو حنيفة لها القضاء في جميع الأحكام.

وهذا موقف فذ نادر ليس عند المسلمين فحسب بل في كل الأمم المزامنة له مما يدل على رجاحة عقله وعمق فهمه وسمو إنسانيته.

ثالثا: أحكام الخمر:

اعتبر أبو حنيفة علة تحريم الخمر هي الإسكار فنقل التحريم من شرب الخمر إلى السكر. وبهذا القياس أباح النبيذ لضعف قوة إسكاره.

قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد: "وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام، وقال العراقيون: إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين".

يقول شيخي الطاهر: "توفر أحكام الخمر عند أبو حنيفة حلول عملية معقولة تقوم على إباحة مقننة تعترف بوجود ضرورة أو حاجة إنسانية لشرب الخمر أو تنظر إليه كممارسة أو عادة يصعب كبحها وتتوجه بالمنع والتحريم إلى الإدمان والمجون والعربدة. ويأتي في هذا المنحى تعيينه لحد السكر الموجب للعقوبة بفقدان القدرة على التمييز "(العلوي،شخصيات، ص133).

هنا يكون أبو حنيفة قد وصل إلى قمة الفهم الناضج لفلسفة الحاجة الإنسانية متجاوزا الفهم السطحي للدين لمشكلة معقدة فشل الدين في علاجها إلى الآن.

وقوفه بوجه المستبدين

عاش أو حنيفة (طاب ثراه) في النصف الأول من القرن الثاني وكانت هذه الحقبة حقبة ازدهار للمباحث الفقهية والكلامية التي ارتبطت مباشرة بحركة المعارضة للدولة الأموية وبداية الدولة العباسية انخرط فيها جملة من المتكلمين والفقهاء التي ساءها انهيار تجربة الحكم الراشدية واستشراء التسلط من الأمويين ومن ثم العباسيين ففرز هذا الإستبداد مجموعة من المفكرين الأحرار وقفوا موقف المعارضة من تلبس السلطة بالدين واستخدام التكفير في وجه معارضيهم فقد ذبح الأمويون الجعد بن درهم حين أخذ ينشر تعاليمه بالكوفة فتعلم منه الجهم بن صفوان الترمذي الذي تنسب إليه الجهمية وفي عام (105هـ) استلم الحكم في دمشق هشام بن عبد الملك الذي عين خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة فقبض على ابن درهم وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام قال خالد وهو يخطب خطبة العيد: "أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر".(البداية والنهاية،ابن كثير). فكان أول مفكر يذبح في الإسلام.

وقد شارك العديد من المتكلمين والفقهاء في الوثبات المسلحة بأنفسهم ودعمها آخرون بوسائل أخرى. وظهرت في نفس المساق حركة مقاطعة الدولة فامتنع معظم الفقهاء عن العمل في القضاء والإدارة. وكان أبو حنيفة من البارزين في هذه الساحة. فقد وقف ضد الأمويين قولا وعملا.

"كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة، فأرسل إلى أبي حنيفة وطلب منه التصدي لأمر القضاء، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، وقيل: دعاه للتصدي للإشراف على بيت المال فرفض ذلك، فحبسه فترة، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فهرب إلى مكة، وكان هذا في سنة (130هـ)" (ابن عساكر،تاريخ دمشق).

أي في السنتين الأخيرتين من عمر الدولة الأموية. ومع سقوط الدولة الأموية عاد أبو حنيفة إلى الكوفة.

ثورة زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب ضد هشام بن عبد الملك.

أفتى أبو حنيفة بتأييد ثورة زيد ودعمه بالأموال ووقف إلى جانبه يحرض الناس على الخروج معه ويشد من عزيمتهم إلا أن شيعة الكوفة خذلوه وتفرقوا عنه بعد مناظرة مع كبير الشيعة في الكوفة محمد بن النعمان الأحول. ففي الاحتجاج: (عن علي بن الحكم عن أبان قال: أخبرني الأحول أبو جعفر محمد بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق: أن زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختف قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟

قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه.

قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج وأجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي!

قال: قلت: لا أفعل جعلت فداك!

قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟

قال: فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله تعالى في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج، والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله في الأرض حجة، فالمتخلف عنك والخارج معك سواء.

قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان، فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به!؟.(الاحتجاج،الطبرسي،ج2، ص140-142).

أما موقف الإمام الصادق من عمه زيد فكان: «رحم الله عمّي زيداً إنّه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه فقلتُ له يا عم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك». (بحار الأنوار 46: 74 ح27).

وهذا مختصر لحيثيات الثورة:

ولد زيد بن على في المدينة (سنة80هـ)  كان ذا طبيعة ثورية كريما يأبى الضيم والذل تنقل بين البلاد الشامية والعراقية باحثا عن العلم. اتصل بواصل بن عطاء رأس الاعتزال في حينه وتدارس معه العلوم فتأثر به وبأفكاره التي انعكست على فكر (الشيعة الزيدية) في العقائد وقد كرس واصل بن عطاء عند زيد بن علي فكرة الخروج على الحاكم الظالم ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منظور المعتزلة.

بدأت فكرة الثورة تراود زيد وتمثلت فرصة الثورة عندما "غضب الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك على والي العراق خالد بن عبد الله القسري بسبب وشايات وسعايات في حق خالد، فقام بعزله وكلف مكانه رجلاً من ألد أعداء خالد القسري وهو يوسف بن عمر الثقفي وكان واليًا على اليمن وكان يحب أن يتشبه بالحجاج وكان من قرابته، فكان أول ما فعله يوسف عندما دخل العراق القبض على خالد القسري والتحفظ على كل أمواله ومحاسبته عليها، أثناء المحاسبة ادعى البعض على خالد أنه قد أودع جزء من ماله وديعة عند زيد بن علي، فأرسل للخليفة هشام بذلك فألح على زيد بن علي بالتوجه إلى الكوفة ليتحقق من هذه التهمة، وذهب زيد بن علي للكوفة واستبانت براءته من تلك التهمة، ولكن زيد بن علي ظل مقيمًا بالكوفة لبعض الوقت ولم يعد فور الانتهاء من القضية.

عندما عرف الشيعة بالكوفة والعراق عموما أن زيد بن علي بن الحسين مقيم بالكوفة، قدموا إليه يبايعوه ويقسمون بين يديه بالقتال حتى الموت ويحظوه على الخروج حتى اجتمع عنده ديوان به أسماء أربعين ألف مقاتل، في هذه الفترة كان يوسف بن عمر مشغولاً بمحاسبة خالد وعماله السابقين، فلم تصل له أخبار مبايعة أهل الكوفة لزيد بن علي، حتى طارت الأخبار ووصلت للخليفة هشام بن عبد الملك، فأرسل ليوسف بن عمر يوبخه ويعلمه بحركة زيد بن علي، فأخذ يوسف في البحث عن زيد والتضييف عليه بشتى الوسائل.

عندها قرر زيد بن علي أن يقدم موعد قيام الثورة فاجتمع مع مناصريه واطلعهم على خطته للحركة وتسريع ميعاد الخروج، وحدد زيد بن علي موعدًا للخروج، وذلك يوم الأربعاء 1 صفر (122هـ) "وصلت الأخبار ليوسف بن عمر، فأمر بجمع أهل الكوفة جميعا يوم الثلاثاء آخر محرم أي قبلها بيوم في الجامع الكبير، وأخذ يتوعد من يتخلف بالقتل وأرسل الشرطة لجمع الناس بالجامع، وخرج زيد ومن وافقه على مذهبه وأخذ يرسل بعض فرسانه ينادون في نواحي الكوفة بشعار الثورة: (يا منصور يا منصور)، ولم يجتمع عنده إلا ثلاثمئة وثمانية عشر رجلاً فقط. وعندما التقى الطرفان أقبل يوسف بن عمر بجيشه، ودارت رحى حرب غير متكافئة، وثبت زيد ومن معه في القتال، فلما كان يوم الخميس 2 صفر واصل زيد القتال بضراوة شديدة، وانكشف بصب وابل من السهام عليه ومن معه، فأصابه سهم في جانب دماغه الأيسر، فحمله أصحابه تحت جنح الظلام وطلبوا له الطبيب، ولكنه ما إن نزع السهم من دماغه حتى مات، ودفنه أصحابه في حفرة من الطين ثم أجروا عليها الماء حتى لا يعثر عليه أحد. وكان معهم غلام مدسوس فدلهم على القبر فاستخرجوه وصلبوه في كناسة الكوفة". (الكامل في التاريخ، ابن الأثير، حوادث سنة 122هـ).

ثورة محمد ذو النفس الزكية

خرج محمد أول يوم من رجب سنة (145هـ) فبات بالمذاذ هو وأصحابه ثم أقبل في الليل فحطم السجن وبيت المال، وأمر برباح فحبس في دار ابن هشام، واجتمع معه خلق عظيم، وأتته كتب أهل البلدان وقوادهم.

وأما إبراهيم فقد توجه إلى البصرة، وأقام فيها مستتراً، وأخذ يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته، فلما بلغ المنصور ذلك فكر في التوجه إلى المدينة، ولكنه خشي أن يترك العراق مع ما بلغه من أمر ابراهيم، فبعث عيسى بن موسى، ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم ، وكان محمد النفس الزكية قد استولى على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير.

أحاط عيسى بن موسى بالمدينة في أثناء شهر رمضان، ثم دعا محمداً إلى الطاعة ثلاثة أيام، ثم سار بنفسه في خمسمائة، فوقف بقرب السور فنادى يا أهل المدينة، إن اللّه حرم دماء بعضنا على بعض، فهلموا إلى الأمان، فمن جاء إلينا فهو آمن، ومن دخل داره أو المسجد أو ألقى سلاحه فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا… فما كان من الناس إلا أن شتموه فانصرف ثم عبأ جيشه في اليوم الثالث فلم يلبث أن ظهر على أهل المدينة. واشتد القتال بين الطرفين حتى قتل محمد في منتصف رمضان سنة (145هـ) وحمل رأسه إلى عيسى بن موسى، ودخل المدينة وأمن الناس كلهم. وكانت مدة خروج محمد إلى مقتله شهرين وسبعة عشر يوماً.

وأما إبراهيم فقدم البصرة ودعا الناس إلى بيعة محمد، وذلك قبل أن يبلغه مقتله بالمدينة، فبايعه جماعة منهم، وأجابه جماعة كبيرة من الفقهاء وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف. وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية، فلما رأى اجتماع الناس على إبراهيم تحصن في دار الامارة مع جماعة من رجاله. فقصده إبراهيم وهدده، فطلب سفيان الأمان فأجابه إبراهيم إلى طلبه، ولما استقرت أمور البصرة لإبراهيم أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز وواسط، ولم يزل إبراهيم في البصرة يقيم العمال ويوجه الجيوش حتى أتاه خبر مقتل أخيه قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، فعزم على المسير إلى الكوفة يريد المنصور، وكان جيش إبراهيم أكبر من جيش المنصور الذي يقوده عيسى بن موسى، ولما التقى الجمعان في (باخمرى) ثبت رجال عيسى بن موسى فكان النصر لهم، وقتل إبراهيم يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة سنة (145هـ).(ابن الاثير: الكامل ج4 ص،270).

لقد ساهم أبو حنيفة في ثورة زيد بن علي ضد الأمويين بماله وفتواه  وها هو يرى آل البيت يتعرضون للاضطهاد مرة ثانية على يد بني العباس فلا يجد بداً من أن يساهم ويعادي بني العباس وعلى رأسهم المنصور.

واتخذ وسائل شتى لمساندة الثورة:

أولاً: جاهر أبو حنيفة بوجوب نصرة إبراهيم أخي النفس الزكية حتى قال: إن المساهمة في هذه الثورة تكفر عن الذنوب. وقد اتصل به بعض قواد المنصور ودخل على أبي حنيفة الحسن بن قحطبة وهو قائد مهم من قواد المنصور ومن آل قحطبة أقرب الناس إلى المنصور  فقال لأبي حنيفة: "عملي لا يخفى عليك، فهل لي من توبة؟ " فقال أبو حنيفة "إذا علم اللّه تعالى أنك نادم على ما فعلت. ولو خيرت بين قتل مسلم وقتلك لاخترت قتلك على قتله، وتجعل على اللّه عهداً ألا تعود، فإن وفيت فهي توبتك" قال الحسن: "إني فعلت ذلك، وعاهدت اللّه تعالى ألا أعود إلى قتل مسلم" فكان ذلك إلى أن ظهر إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن، فقال له أبو حنيفة: "جاء أوان توبتك إن وفيت بما عاهدت فأنت تائب، وإلا أخذت بالأولى والأخرة، فجد في توبتك وتأهب واستعد للقتل". فدخل على المنصور وقال: "لا أسير إلى هذا الوجه فإن كان للّه طاعة من سلطانك فيما فعلت فلي منه أوفر الحظ، وإن كان معصيته فحسبي" فغضب المنصور منه واستفهم عن حاله. فقال أخوه حميد بن قحطبة: "إنا نكره عقله منذ سنة وكأنه خلط عليه" فسأل المنصور بعض ثقاته: على من يدخل من الفقهاء؟ فقالوا: إنه يتردد على أبي حنيفة". (ابو زهرة: تاريخ المذاهب، ج2، ص156)

ثانياً: اعتبر أبو حنيفة الجهاد مع إبراهيم عبادة، وذلك لقربه من الناس وقضاياهم العامة. فكان لا يعجبه ما فعله المنصور بعبد اللّه وابنه محمد، وكان لا يسكت عن قول الحق. فهذا إبراهيم بن سويد الحنقي يقول: سألت أبا حنيفة، وكان لي مكرماً أيام إبراهيم: أيهما أحب إليك بعد حجة الإسلام: الخروج إلى هذا أو الحج؟ فقال: غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة". (مقاتل الطالبيين،ص378- 379).

وجاءت امرأة إلى أبي حنيفة أيام إبراهيم فقالت: إن ابني يريد هذا الرجل، إبراهيم وأنا أمنعه، فقال: لا تمنعيه.(مقاتل الطالبيين، ص379).

وقد روى أبو إسحاق الفزاري قال: "جاءني نعي أخي من العراق، وقد خرج مع إبراهيم بن عبد اللّه الطالبي، فقدمت الكوفة فأخبروني أنه قتل، وإنه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة، فأتيت سفيان أنبئه مصيبتي بأخي، وأخبرت أنه استفتاك، قال: نعم، قد جاءني فاستفتاني فقلت: ماذا أفتيته؟ قال: قلت لا آمرك ولا أنهاك. قال: فأتيت أبا حنيفة فقلت له: بلغني أن أخي أتاك فاستفتاك. قال: قد أتاني واستفتاني، قال: قلت فبماذا أفتيته؟ قال: أفتيته بالخروج، قال: فأقبلت عليه فقلت: لا جزاك اللّه خيراً. قال: هذا رأيي.(تاريخ بغداد ج13- ص385).

ثالثاً: بلغ الأمر بأبي حنيفة إلى حد اعتبار أن القتال إلى جانب النفس الزكية ضد المنصور خير من قتال الكفرة بدليل أنه فضل القتال ضد الخليفة العباسي على القتال ضد البيزنطيين والمرابطة على الثغور. (تاريخ بغداد، ج13،ص385).

قال محمد الفزاري: قتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة، فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة فقال لي: من أين أقبلت، وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المصيصة، وأردت أخاً لي قتل مع إبراهيم. فقال: لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك عن المكان الذي جئت منه. قلت: فما منعك أنت من ذاك؟

قال: لولا ودائع كانت عندي وأشياء للناس ما استثنيت في ذلك. (تاريخ بغداد، ج13، ص385). وهكذا كان أبو حنيفة يعتبر الوقوف مع النفس الزكية ضد المنصور معادلاً في الثواب للوقوف مع رسول اللّه ضد المشركين.

وبلغ من أبو حنيفة بالتحريض على الثورة ضد المنصور حداً جعل أصحابه يقولون له: "ما أنت بمنته أو توضع الحبال في أعناقنا" (الشكعة: الائمة الاربعة، ص122).

يقول محمد أبو زهرة في كتابه أبو حنيفة ص51.

(ولم يلبث أن ورد كتاب المنصور على عيسى بن موسى يأمره بأن يحمل أبا حنيفة إلى بغداد.

وعندما دخل أبو حنيفة على المنصور  دعاه ليتولى القضاء فامتنع، فطلب منه أن يَرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس، حتى ضُرب مئة وعشرة أسواط، ولم يُكتف بضربه بل سقي السم ليعجل في موته؟ توفى أبو حنيفة في شهر رجب وقيل في شعبان وقيل لإحدى عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى سنة (150هـ)، وكانت وفاته في بغداد، ودفن في مقبرة الخيزران، وقد أوصى أبو حنيفة أن يُدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غصب، وألا يدفن في أرض قد اتُّهم الأميرُ بأنه غصبها).

وكان هذا آخر احتجاج ضد المنصور الذي قال وقد بلغته الوصية: "من يعذرني  فيك حياً وميتاً».

أشهد أنك عشت كريما وقضيت شهيدا فسلام عليك في الخالدين.

***

سليم جواد الفهد

 

 

في المثقف اليوم