شهادات ومذكرات

الأمير عبد القادر مُرْشِدٌ رُوحَانِيٌّ يحمل في جيناته صفات المُرَابَطَة

جسد بحق "الأنموذج" المُحَمَّدِي في تشخيصه للإنسان الكامل

قيل عن الأمير عبد القادر أنه حكيم الهي وفيلسوف ربّاني بل مرابطٌ حظي بهالة من القداسة ولما لا وهو ينتمي إلى أهل بيت رسول الله، لقبه البعض بـ: فتى الإسلام وزمزم العرفان، كما نلمس فيه الطيبة المسقية بالمحبّة والإنسانية السمحة والصرامة في اتخاذ المواقف والقرارات لنصرة المظلوم مهما كانت عقيدته أو مذهبه، فالأمير كان يجمع بين نعومة الحرير وصلابة الحديد، فقد تحمل المسؤولية كاملة منذ أن تولى الإمارة وسنه لا يتجاوز الرابعة والعشرين، في مذكراته أرخ الأمير عبد القادر الأحداث وحياة الشعوب وصراع الأديان والحضارات، فهو يستحق وعن جدارة لقب المؤرخ ولقب الخطيب ورجل الدعوة ورجل السلام كما يستحق لقب المنظر الديني والمنظر السياسي والمنظر العسكري ولقب الشاعر والفيلسوف

و مذكرات الأمير عبد القادر هي عبارة عن سيرته الذاتية كنبها في السجن سنة 1849 نشرت لأول مرة، سرد فيها رحلاته وعلاقاته بالشعوب والأمراء والملوك والعلماء والشيوخ المتصوفة، والبلدان التي أقام فيها في كل رحلاته، تحدث فيها عن أخبار الأديان والأنبياء وعن أخبار مكة والمدينة المنورة ثم تحدث في شق آخر عن معاركه التي خاضها دفاعا عن الإسلام وقضايا أخرى وقد حققها دكاترة ثلاث وهم: محمد الصغير بناني، محفوظ سماتي ومحمد الصالح ألجون، صدرت عن شركة دار الأمة الطبعة السابعة 2010، أشرف على هذه المذكرات الفقيه مصطفى بن التهامي صهر الأمير وخليفته وصديقه المقرب وقام بتصديرها الدكتور أبو القاسم سعد الله، في هذه المذكرات نلمس ان الأمير عبد القادر رجل مقاوم، يحمل في جيناته صفات المرابطة وهي صفة تطلق على كل من توفرت فيه خصال معينة مثل الصبر والمواظبة والقوة والشدّة والجدّ والمثابرة والإجتهاد والجهاد والمحافظة والإلتزام والترصد والرُّبُطِ لا يقتصر على بيئة معينة بل كانت هناك رُبُطٌ في المشرق والمغرب العربيين ولا شأن لها بالأصل العربي أو البربري، في هذه الورقة سيكون الحديث عن الأمير عبد القادر الإنسان من خلال ما جاءت به الكتابات وما تحلى به من صفات وخصال، سيكون الحديث عن عبد القادر الإنسان المتسامح، وليس عن رجل الحرب والمقاومات.

ينحدر الأمير عبد القدر الجزائري إلى أسرة أهل البيت فهو سليل الأنبياء عليهم السلام، ولد في شهر رجب من سنة 1222 م بالقيطنة على مشارف وادي الحمام وهي قرية على بعد 28 كلم من مدينة معسكر مقر أسرته والقيطنة اختطها جده مصطفى بن المختار سنة 1206 هجرية ومنها ولد الأمير عبد القادر وعرفت آنذاك إشعاعا دينيا وثقافيا معتبرا بفضل زاويتها القادرية الشهيرة ( زاوية القيطنة) وقد هدمها الجنرال بيجو في سبتمبر 1841م وهي اليوم بلدية تابعة لدائرة بوحنيفية ولاية معسكر، كانت القيطنة محطة الزائرين في حياة الجد مصطفى الغريسي، حسبما جاء في مذكراته فقد شب الأمير عبد القادر شبابا لم يشبه أهل زمانه ومنذ كان في طفولته يافعا يتخلق بالأخلاق الحميدة والأوصاف النبيلة، استجمع خصال الكبار المكلفين من أحوال دينية كـ: المُجَاهَدَة وفي تعلم دعائم الإسلام ( ص 50 من مذكراته)، كما أخذ التفسير والفقه والحديث عن والده وهو أخذ عن والده أيضا وعن شيوخ آخربن منهم عبد القادر المشرقي الذي أخذ عن الشيخ الشريف سيدي محمد المنور التلمساني المعلوم نسبه وقبره ببلاد شرفاء الحبوسة وشيوخ آخرين ذكرت اسماءهم في الصفحة 51 من مذكراته.

فما جاء في هذه الكتابات أن الأمير عبد القادر رجل سلم وسلام وحكمة وقدوة ورجل حوار وتفاوض، فقد كان يجمع بين نعومة الحرير وصلابة الحديد، نعومة الحرير في مسايرة الحقائق غير مفترضة ولا مختلفة وصلابة الحديد وثبات الجبال على حدود العقيدة والأخلاق، مكنه ذلك من اختياره للإمارة ويكون قائدا للأمة يتولى شؤونها السياسية والعسكرية وسنه لا يتجاوز الرابعة والعشرين لتأسيس دولة إسلامية عربية، وهذا لما عرف عنه بالشهامة وقوة الشكيمة والرأي السديد، لقد نظم الأمير عبد القادر دولة وأحسن تنظيمها ورتب الجيش نظاميا، وتولى فك النزاعات لأنه كان جديرا بالثقة ما جعله يتحمل مسؤولية الجهاد وحمل رايته، ولحنكته استطاع الأمير عبد القادر توحيد القبائل المشتتة وتوحيد الجيش الجزائري، كانت تجربة خطيرة لكنها كانت ناجحة، في شهادته يقول الدكتور محمد الطيب العلوي أن من أهم المميزات الخاصة بالأمير عبد القادر انه المقاوم الوحيد منذ الإحتلال حتى عام 1954 الذي ربط الجهاد وبمبدأين ضحى من أجلهما وفي سبيلهما حتى النهاية وهما: وحدة التراب الوطني والسيادة الوطنية الإنسانية في الوقت الذي لم يتجاوز غيره من رجال المقاومة حدود القبيلة والمنطقة.

كان الأمير عبد القادر من بين عظماء الإنسانية رمزا وقدوة منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى اليوم ورغم أنه رجل سلام، إلا أنه في مواقفه نقف مع الرجل الصّارم ونلمس صرامته في معركة المقطع عام 1835 ورفضه الإعتراف بالسيادة الفرنسية، حيث وقف ندا للند أمام الجنرال تريزل، هذا الأخير الذي حاول القضاء عليه ولم يفلح، لأن هذه المعركة أضعفت من قوة الجيش الفرنسي، في حين نجد الجنرال بيجو يعترف بإنسانية الأمير عبد القادر من خلال رسالته التي وجهها إليه، جاء فيها ما يلي: أستطيع أن أعرض عليك السلام...، فإذا كنت تنصت لصوت الإنسانية والحكمة فابعث إليَّ رجالا تثق فيهم ليحملوا إلي مقترحاتكم لكي أحولها إلى ملك الفرنسيين، وعلى إثر هذه الرسالة تم التوقيع على عاهدة تافنة بين الجنرال بيجو والأمير عبد القادر، إلا أن الفرنسيون خرقوها قبل أن يسعى يهود الجزائر بقيادة يهودا بن دوران إلى إفشالها، هذه المعاهدة تعد نصرا سياسيا ومكسبا استراتيجيا لحكومة الأمير عبد القادر.

رؤية الأمير عبد القادر للأخر

 كما عرف عن الأمير عبد القادر أنه رجل التسامح ورجل الموقف والإنسانية، ذلك الإنسان المدافع عن الحق والمظلوم أيًّا كانت عقيدته ومذهبه أو إيديولوجيته، فأينما يكون الحق يكون معه، نقف مع إحدى مواقفه مع الفتنة التي وقعت بين الدروز والمسيحيين في عهد لحكومة التركية، عام 1860 لعب فيها الأمير دورا كبيرا في توفير الحماية لكثير من عائلات المسيحيين وقناصل دول أوروبا في دمشق الذين لجأوا إلى بيته طلبا للحماية، وهذا أمر طبيعي وبديهي لأنه معروف على المسلمين تسامحهم مع اصحاب الديانات الأخرى أهل الكتاب، حيث عاش المسيحيون واليهود آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم تجت نظام الدولة الإسلامية، فقد استطاع الأمير بهذه الصفات والخصال أن يحمل خصومه إلى مقام الإنسانية وضمّهم إلى أخوة أممية فكان خبيرا صوفيا فيلسوف يرى الدنيا ألعوبة لا صبيا هلوعا وكل سلطة في نظره كانت مجرد وهم وسراب، فالأمير يجسد بحق "الأنموذج" المُحَمَّدِي في تشخيصه للإنسان الكامل الذي يعكس في الأفق القرآني صفات الله لدرجة أن البعض وصفه بـ: "المرشد الروحاني"، لأنه حارب الجهل ودفع الأمة إلى طريق النور والهداية.

كانت هذه رؤية الأمير عبد القادر لـ: الآخر وهي غشكالية لا يمكن أن تكون إلا انطلاقا من تدرجه في مراتب التصوف والعرفان وكيف كانت تتطور رؤيته إلى الآخر انطلاقا من تدرجه في المراتب الروحانية والصوفية ومقاماته وأحواله التي استطاع بلوغها، وانطلاقا أيضا من تنقلاته الجغرافية أو المكانية من الأرض الجزائرية والمغاربية مرورا بفرنسا وأوربا ثم الاستقرار في الشام والمشرق العربي بما فيه من عناصر ثقافية وحضارية متميزة، فرؤيته للآخر مابعة من شخصيته المتميزة التي جمعت بين مطالب التصوف والدين ومطالب السياسة والحرب في إطار الخصائص الإنسانية للحوار والتسامح والعيش المشترك والتعايش بين الحضارات والديانات. وقد جعل الأمير عبد القادر من الأسر فضاء للتامل ولتدبر والنظر في احوال البشر كافة فكان الأسر مدخلا للحوار الديني والحضاري والتعرف على الآخر، ثم أخيرا استقراره بالشام وما نتج عنه من نضج فكري

 ورغم أن الأمير عبد القادر يحمل فكرا تنويريا إلا أنه عرف أيضا بالمعلم الصمدي لمواقفه الصوفية، فقد سقي الأمير عبد القادر من عذوبة المشارف الدرقاوية، قال عنه الدكتور فهد سالم خليل الراشد: " لقد جمع الأمير عبد القادر الجزائري كل الصفات التي يتصف بها القائد المرشد، فهو الفارس والمرابط والملازم، وكان عظيما في سلوكه وفي روحه وهو في أوجّ مقاومته لتحرير بلده من العدوّ الأجنبي، لعل هذه الصفات التي فاقت حدود الإنسانية، هي في الحقيقة صفات لا يتصف بها سوى الأنبياء والرسل ولا يبلغ درجتها إلا عظيم، وإذا كان الحديث عن الأمير عبد القادر الإنسان، فالحديث أيضا عن الأمير العاشق للطبيعة، فهو كما يقال ابن بادية أخذ من الطبيعة بكل ما تحويه من شمس وخضرة وبساتين وطيور، فكان قلبه ينبض لها إلى درجة الهيام، حيث نقف مع قصائده التي كان يكتبها، حتى أن الجنرال دوما كان يحب فيه بداوته وعشقه للخيل وحبه للتأمل تحت الخيام، كان حبه للبداوة فطري، هذا ما أكدته جل الكتابات التي أرخت لشخصية الأمير عبد القادر، هذا الحب جعله يتمسك بالأرض التي كانت تمثل له العرض والشرف، فهو قبل كل شيئ رجل دين قبل أن يكون رجل سياسة أو رجل حرب، وذلك نتيجة لتربيته بين ظهراني الزاوية القادرية.

تأثر الأمير عبد القادر برجال الصوفية

ما قيل عن الأمير عبد القادر أنه ليس رجل حرب فقط بل رحّالة ومنظر ومفكر وفيلسوف، جمع بين السيف والقلم فكان الرجل المعجزة، كما كان رجل متصوف بحكم أنه ابن زاوية، فمما رواه في رحلاته أنه التقى بأعيان الصوفية إذ يقول: فتبركنا بهم وتعلقنا بشيخهم السالك المسلك، الجامع والظاهر والباطن، المضمار المحصل، الفتح الرباني وهو يقصد بذلك الشيخ النقشبندي المحقق المدقق للأصول والفروع، اسمه الكامل أحمد بن حسين النقشبندي الكردي، وكان الأمير عبد القادر يداوم على حضور حلقاته لما له من فضائل الجمع من الإشراق ويعرف بالشيخ خالد، ولد بشهرزور، هاجر إلى بغداد ثم إلى الشام وتوفي بدمشق، انتسب إلى الطريقة النقسبندية في دلهي واصبح له عددا كبيرا من المريدين في مختلف انحاء تركيا والبلاد العربية وأدى إلى الدعوة إلى مذهب جديد حيث رماه بعض المتأخرين بالكفر والزندقة ورغم تاثره بالأرجاء الشامية وتبركه بأهل الفضل الأول، يبدوا أن الأمير عبد القادر كان أكثر تاثرا بطيبة، كما كان معجبا ببغداد ومتأثرا بعلمائها وفي بغداد زار الأمير عبد القادر ضريح الشيخ عبد القادر الجيلالي وأخذ بركاته وهو يدخل دمشق بلغه نعي الشيخ النقشبندي فكان أكثر تاثرا لوفاته وبلغه الخبر أن أهل الحرمين صلوا عليه بعدما نعته خصومه بالكفر والزندقة.

لم بكن الأمير عبد القادر الجزائري متأثرا بالنقشبندي فقط بل كان أكثر تاثرا بعالم الكلام الصوفي محي الدين ابن العربي، الذي جسّد وحدة المذاهب والأديان من خلال ما له من أثر على الفكر الإسلامي (سُنّة وشيعة) وعلى الفكر الإنساني بتعدد دياناته (الإسلام والمسيحية واليهودية وحتى الوثنية)، ونقرأ ايضا أن الأمير عبد القادر أنه أخذ جوهرة البيان والمنطق عن بعض علماء وهران كالشيخ محمد بن نقريد والشيخ بن جلول وغيرهم، وأخذ جملة العلوم التي حصلها من علماء فاس كالشيخ عمر الفاسي والمسناوي، والفقيه الزروالي والشيخ إدريس العراقي، ما يمكن استنتاجه أن الأمير عبد القادر الجزائري تاثر فعلا بشيخه ابن العربي، فحمل عنه رداء الصوفية، فكانت له دلالات الرؤية الكمالية التي يحملها للعالم كله، كما ـاثر بالشيخ الدرقاوي الذي كان يمثل العين النابضة بالحياة الصوفية، وقد تم له ذلك على يد الشيخ محمد بن مسعود الفاسي وارث السجادة الشاذلية.

***

علجية عيش

في المثقف اليوم