شهادات ومذكرات

الشاعر النابغة الذي يبيعُ السَّجائر

لم يعرفِ النعيم في حياته. فمنذ ولادتهِ لازمهُ العُسرُ ملازمةَ الروح للجسد، ولم يغادرْهُ إلاّ بعد أنّ تأكد أنهُ يغادر جسداً مطفأً، فقد ولد في سنة 1875م، ونشأ وترعرع في بيتٍ متواضع من بيوت بغداد السلام، وتعلّم فيها على الكتاتيب ردحاً من الزمن، ثم أُلحِقَ بمدرسةٍ عسكرية، وظلَّ فيها ثلاث سنوات ليس غير، مفضلاً عليها ملازمة شيخهِ (في العلم والفقه) محمود شكري الآلوسي (1856- 1924م) الذي رعاهُ تلميذاً أثنتي عشرة سنةً أجازه بعدها ليصبحَ معلماً في إحدى المدارس الابتدائية، وبشّرَ بشاعريتهِ، وأطلقَ عليه لقب (الرصافي) نسبةً إلى منطقة الرصافة البغداديّة التي كان يعيش فيها، وتفريقاً لجانب الكرخ الذي كان يعيشُ فيه شاعرٌ آخر لُقب بـ(الكرخي)، واسمهُ عبود.

إنهُ الشاعرُ المطبوع معروف عبد الغني الرُّصافي الذي تقلّد وظائفَ عديدة، حتى وصل إلى نائب في البرلمان العثماني (المبعوثَان) عندما كان العراق خاضعاً للحكم العثماني، ثم فاز أيضاً بحصوله على مقعد في البرلمان العراقي بعد الاستقلال أيام الحكم الملكي الذي تأسَّسَ سنة 1920م.

***

درّسَ الرصافيّ اللغة العربيّة في المدارس العراقية، وفي دار المعلمين، كما درّس اللغةَ العربية في القدس، والّف كتباً عديدة منها:

(الأدب الرفيع في ميزان الشعر وقوافيه) و(رسائل التعليقات) و(الآلةُ والأداة) و(تاريخ الأدب العربي) وغيرها.

وحين أُحيل على التقاعد غادر بغداد إلى مدينة (الفلّوجة) لكنهُ لم يطل المكوث فيها، فعاد إلى بغداد، وبقي فيها حتى انتقالهِ إلى الرفيق الأعلى سنة 1945م، وكان قبلها يعيش حالةً من الفقر والبؤس اضطرته إلى بيع السجائر، كما يبيعها الآن الأطفال الذين يحملون صناديقهم، أو يجلسون خلفها في الأزقةِ والشوارع، مع أنه كان شيخاً، وشاعراً نابغاً.

ثمة أمر لأبدّّ من إيضاحه هنا، فالسجائر التي كان يبيعها الرصافيُّ هي(سجائر غازي) وكان صاحبُ الشركة أو مالكها لا يزودهُ إلاّ بالقليل منها، وهذا القليل الذي يبيعه الرصافي لا يكفي لسد رمقه، فما كان منهُ إلا أن طلب زيادة الحصة من صاحب الشركة (أو مالكها)، وهنا تنبه مالك الشركة إلى حاجة الرصافي، فطلب منهُ بيتين على سبيل المزاح يقّرضُ فيهما السجائر، فقال مرتجلاً:

دخِّن سـجارةَ غازيْ

فـي وقفةٍ، واجتيـازِ

**

وجازِ نُصحِي بشُـكرٍ

إنْ كنتَ ممنْ يُجازي

***

فما كان من مالكِ الشركة إلاّ توزيع تلك الأبيات على لافتات عديدة، وإغراق بغداد بها، وحين أُ سقطَ فى يدي الرصافي الغيور، لم يجد بُداً من تركِ تلك المهنة، ومقاطعة مالكها، وانزاوئهِ في بيت أجّرَهُ له صديق، وظلّ يدفع له راتباً شهرياً حتى توفاه الله تعالى، لكنَّ تلكَ الأبيات لم تمتْ، وشكّلت سُبّةً في حياةِ الرصافي الإبداعيّة.4209 معروف الرصافي

كان يكرهُ الأنجليز كرهاً شديداً، فضايقوهُ، وحجبوا عنهُ الوظائف، فضايقهم بشعره، فقرعوه، فردّ لهم الصاع صاعين كما في قولهِ (على غير توالٍ في إيراد الأبيات):

أنا بالحكومـةِ والسياسةِ أعـرفُ

أأُلامُ فـي تفنيـدِهــا، وأعنَّـفُ

*

سأقولُ فيها ما أقـولُ ولم أخـفْ

من أنْ يقولوا: شاعـرٌ متطرِّفُ

*

هذي حكومتُنا، وكل شُــموخِها

كَذِبٌ وكلُّ صــنيعِـهـا متكلَّفُ

*

عَلَـمٌ ودسـتورٌ ومجلسُ أُمَّــةٍ

كلٌّ عن المعنى الصحيحِ محـرَّفُ

*

للإنگليزِ مطــامـعٌ ببلادكــمْ

لا تنـتَـهي إلاّ بأنْ تتـبلشَـفوا

**

وكان يسخر من سياستهم فى العراق، ولعلّ قصيدته (الحرية في سياسة المستعمرين) خير دليل على تلك السخرية اللاذعة التي وجهها إليهم، ومنها:

ياقـومُ لا تتكلـمـوا

إنّ الكـلامَ محــرّمُ

*

ناموا ولا تسـتيقظوا

مـا فـازَ إلاّ النـوّمُ

*

ودعوا السياسةَ جانباً

فالخيـرُ إلاّ تفهـموا

*

إنْ قيلُ: إنَّ بلادكـمْ

ياقومُ سـوفَ تُقسَّمُ

*

فتحمدوا وتشـكروا

وترنحـوا وترنّمـوا

**

وقف الرصافيُّ (فى شعره) مع الفقراء، ودافع عنهم دفاعاً مستميتاً، ووقف إلى جانب المظلومين، وطالب بنصرتهم، كما دعا إلى رعاية الطفولة، لاسيما المشردّة منها، أو التي أُصيبتْ باليتْمِ، إلى جانب وقفتهِ المشهورة مع المرأة، إذ طالب بحقوقها في تلك الأحوال التي لم يكن فيها التعليم قد أخذ شأوهُ، فدعا إلى تعليمها، وإعطائها حقها في العيش كريمةً عزيزةً مثقفة، لأنها تشكلُ النصف الأجمل من المجتمع، ورأى فيها عنواناً لتقدم الأمم، ولعلَّ قصيدته (التربية والأمهات) من أشهر قصائدهِ في مناصرة المرأة، والدعوة إلى رفع مستواها العلميّ:

وقالوا: إنَّ معنى العلمِ شيءٌ

تضيقُ به صـدورُ الغـانياتِ

*

وقالوا: الجاهلاتُ أعفُّ نفساً

عن الفحـشا من المتعلماتِ

*

أليسَ العلمُ في الإسلام فرضاً

على أبنائهِ، وعلى البنـات؟ِ

*

ألم ترَ في الحسانِ الغيد قبلاً

أوانـسَ كاتباتٍ شـاعراتِ؟

**

رحم اللهُ الرصافيَّ الذي قارعَ الاستعمارَ،و الظلمَ، وناصر المرأة، وطالبَ بحقوقِها من غير أن يحظى برعاية زوجه، فقد تركتهُ الخاتون، وبقيت في الاستانة دون أن يعرف عنها شيئاً .

***

د. عبد الرضا عليّ

في المثقف اليوم