شهادات ومذكرات

إدغار موران في مديح ماركس ونقده

لا تزال كتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران والذي احتفل بعيد ميلاده " الواحد بعد المئة " قبل ما يقارب الشهرين، تثير شهية دور النشر العربية، فقبل اشهر اصدرت دار " صفحة سبعة " كتابه "دروس قرن من الحياة"، واعلنت قبل ايام عن قرب صدور كتابه " مع ماركس وضد ماركس " - ترجمة محمد نعيم -، وننتظر ان يترجم كتابه الاخير الذي صدر في اذار الماضي بعنوان " دعونا نستيقظ"  والذي يتناول فيه حرب أوكرانيا والانتخابات الفرنسية وملامح التاريخ البشري حيث يرى إدغار موران أن الأزمة التي تمر بها بلاده فرنسا ومعها اوربا، ازمة شاملة، أكبر من إشكالية الهجرة، ومن انهيار أو تفكك أحزاب اليسار، والبيروقراطية التي اصابت الراسمالية بالورم ، بل هو يراها أزمة فكر، ولهذا يطلق صرخته " لنستيقظ "، فنحن نيام واول شروط اليقظة التي يتحدث عنها موران هي المؤسسات التربوية، وتقوية النقد والنقد الذاتي. وتشذيب مخالب البيروقراطية، ومواجهة العيوب الفادحة للحضارة الراهنة: " لما علق بها من مساوئ قطعت أواصر التضامن العائلي، وغوّلت الرأسمالية، وهيمنة  التكنلوجيا على التواصل والحياة اليومية ".إلا ان هموم العالم وازماته لم تمنع إدغار موران من مواصلة عشق الحياة، وربما لن نصدق نحن الذين نعاني من شيوخة مبكرة ان الرجل الذي تجاوز عمره القرن ظهر قبل اشهر قليلة وهو يرقص مع زوجته المغربية " صباح ابو السلام " على إيقاعات الموسيقى المراكشية في لقاء على شاشة احدى الفضائيات المغربية.

في حوار اجري معه قبل اكثر من عام قال موران انه  في سنواته الاخيرة يفكر كثيرا في الموت، فهو: " يترصدني.. لكن ذلك ليس سببا للتوقف عن التفكير ومشاركة الأفكار ".. وعندما سئل عن امنيته قال ان يفضل قضاء فصل الصيف بدلا من عبور نهر النسيان:" من سمات الإنسان أن يأمل دائما في الأفضل ويتجنب الأسوأ ". كان يقول لمقربيه انه لن يموت قبل ان يصبح في التسعين من عمره، لكنه اكتشف فجأه ان جرس المئة عام يذكره بقرب نهايته.ظلت "أمنيته النهائية"، تتلخص في كيفية احداث ثورة في أساليب الفلسفة  من أجل التفكير بشكل أفضل في العالم، وبالتالي محاولة الإجابة على السؤال "ما هو الإنسان.؟. يقول انه منذ مراهقته لم يتوقف مطلقا عن طرح اسئلة إيمانويل كانط: ما الذي أستطيع أن أعرفه؟ ؟.. ما الذي يجب عليَّ أن أفعله؟.. ما الذي يمكنني أن آمله؟ ليصل في النهاية الى السؤال الأهم: ماذا يعني ان تكون انسانا؟ ، عندما عثر على كتب كانط في مكتبة الجامعة أيقن أن صاحب " نقد العقل العملي " سيأخذ بيده الى طريقة تفكير جديدة..سحرته طريقة كانط في مناقشة اصعب المسائل الفلسفية، بيد انه ظل يسخر من حياة الفيلسوف الالماني  الرتيبة، وتعجب كيف ان مفكرا باهميته لم يغادر مسقط رأسه، ويمضي معظم حياته في نفس المنزل، ويرفض أن يقوم بأي تعديلٍ على روتين يومه، موران الذي تزوج من زوجته الرابعة صباح ابو اسلام وهو في التسعين من عمره يسخر من فيلسوفه العظيم كانط الذي لم يعرف طعم الزواج.  4258 ادغار

إدغار موران الذي كتب في الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والفنون لا يزال يحمل مشاعر دافئة تجاه كارل ماركس، يصرح دائما انه كان ماركسيا، قبل ان يعتنق الماركسية، فهو لم يتوقف يوما من التفكير والحوار مع ماركس الحقيقي، وليس ماركس الذي تريد له الاحزاب الشيوعية ان يعيش تحت انقاض الماركسية:" ظللت وفياً لماركس، الذي ربط بين الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والسياسة "... وهو يرى ان  تجربة الأنظمة الشمولية، التي لم يتوقعها ماركس والتي فُرضت باسمه، ادت إلى تفاقم الانهيار الذي اصاب الانظمة الشيوعية.. ويضيف موران ان الراسمالية بسبب النظام الشمولي الشيوعي بدت للناس نموذج لدولة الرفاهية:" قال الناس لأنفسهم، على عكس ما شرحه ماركس، أن الرأسمالية لم تهيمن بالكامل على التطور الاجتماعي. تلاشت فكرة الثورة. جعل خيبة الأمل من الممكن رؤية الثغرات الكبيرة في فكر ماركس حول الدولة والسلطة... ثم، ابتداءً من التسعينيات، أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى الداخل وعولمة الرأسمالية حتى في الصين وفيتنام إلى تفاقم أزمة الماركسية ".

ويرى ادغار موران ان التسعينيات شهدت نهضة للتحليل الماركسي اعادت الثقة بافكار كارل ماركس ، فقد اصبحت الناس تدرك أن الليبرالية الجديدة، التي وفرت أساسا نظريا للعولمة، قد اعطت العنان للراسمالية وتسببت في زيادة معدلات الفقر وهيمنة عدم المساواة:" أصبحت الرأسمالية عدوا للبشرية مرة أخرى. كان تأثير العولمة هو تدهور دولة الرفاهية، و أدت المنافسة العالمية إلى نقل الصناعات إلى الخارج، في حين أن النقابات العمالية التي أُضعفت بشدة لم تكن قادرة على المواجهة والرد ".

يرى موران إن عمل مفكر عظيم ومعقد مثل ماركس قد تدهور بين تلاميذه. فكل واحد منهم التقط قطعة من عمل الفيلسوف الكبير وحاول ان يصنعها حسب مفهومه:" هذا ما حدث للماركسية بشكل عام. احتفظ البعض بعقيدة ماركس الاقتصادية. ركز الآخرون بدلاً من ذلك على التنبؤ بمجتمع لا طبقي مولود من الثورة، إلخ." ورغم كل اخفاقات الماركسية يظل ماركس في نظر موران نجم في كوكبة غنية من الفكر، جنبا إلى جنب مع هيراقليطس  وباسكال، وروسو، هيغل وكانط.

عندما بلغ الـ " 99 " عاما قرر إدغار موران ان ينشر كتابا بعنوان " فلنغير الطريق " اراده رسالة لتنبيه البشرية من كوارث تحيط بها، بعدما شاهد وباء كورونا يغير علاقة الانسان بالموت بسبب الواقع الصحي الرهيب الذي يمنع إقامة الطقوس اللازمة لتوديع الموتى وتعزية الأحياء.. قال انه في هذا العمر لا يفضل لقب الفيلسوف او عالم الاجتماع، وانا يفضل ان يطلق عليه اسم " طفل القرن العشرين ". وحين يُسأل: ما ذا بقى من هذا الطفل..يجيب وهو ينظر الى صورة ماركس التي وجدت لها مكانا بين الكتب:" "فضول عظيم جدا ".4259 ادغار مع ماركس

في كتابه " دروس قرن من الحياة "  يؤرخ موران لرحلة يأمل لها ان تتجاوز كلود ليفي ستراوس الذي عاش مئة وعام، وظل مثله يكتب حتى الأشهر الاخيرة من حياته، ويعشق الخوض في تاريخ الحضارات، والنظر الى حياة البشرية باعتبارها مجموعة  قيم ومواقف ومعارف وصراع من اجل الافضل، وكان مثل ستراوس يصر على ان " ثمة ما نتساءل عنه حول الانسان ". يؤمن موران ان العيش ليس البقاء على قيد الحياة، فهذه لعبة ذاتية كما يسميها، وانما العيش هو ان تكون ضمن مجتمع، وتتضامن مع الآخرين.. وتستمتع بالإمكانيات التي توفرها الحياة. ما الذي تستمتع به اليوم؟ أن:"  الازدراء واللامبالاة وغطرسة الطبقة والعرق والتسلسل الهرمي هي آفات الحضارة التي تمنع من يعاني من الإذلال من الاعتراف بكامل صفته الإنسانية"..يعيب على المثقفين انهم يغيبون كثيرا عن " لعبة الحقيقة والخطأ والتي هي لعبة العالم "

إدغار ناحوم موران المولود في الثامن من تموز عام 1921، لا يزال يحافظ على عاداته اليومية،  في منزله الكائن جنوب فرنسا بمدينة مونبيليه، يستيقظ  كل صباح  يبدأ يومه بقراءة بريده الإلكتروني، ثم يتناول كتابا من المكتبة يستغرق فيه مع حرص شديد على حضور الندوات والمؤتمرات.. يبجث في اجندة مواعيده عن رحلة جديدة يقوم بها،، وحين يتصل به مراسل "   لوموند " لاجراء حوار معه عبر الانترنيت، يقول للمراسل ضاحكا:" ما ذا تبحث عند رجل يعيش مرحلة ما قبل الوفاة ".

عمل قليلاً في السياسة وطويلاً في مراقبة أحوال البشر، وفي التاسعة عشر من عمره قال لنفسه: "سأكرس حياتي لأتعلم كيف اعبر عن نفسي ". كان مغرما بالروائي الفرنسي اونريه دي بلزاك، يتذكر الكتب التي كانت عمته تحتفظ بها في دولاب عتيق، هناك عثر على روايات بلزاك وتولستوي ودستويفيسكي، يقول أن الروايات كشفت له عن اشياء داخل النفس لا نعرف كيف نعبر عنها، وسيقرر في الحادية والعشرين من عمره عندما انضم الى المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، أن يختار اسم موران احد ابطال الكوميديا الانسانية لبلزاك ليلحقه باسمه فيصبح ادغار موران بدلا من ادغار ناحوم، ومثل فيلسوفه المفضل ماركس قرر في الخامسة عشر أن يؤلف كتابا عن بلزاك، طرح الفكرة على والده التاجر الذي قال له :  " في عالمنا اليوم لن يدفع احد فرنكا واحدا ليقرأ هلوسات مراهق ".

كتب اول كتبه عن الموت " الانسان والموت " الذي لاحقه وهو جنين في بطن امه التي كانت تعاني من مشاكل في القلب، نصحها الاطباء بعدم الحمل، فقررت ان تتناول ادوية تسقط الجنين، غير ان ذلك لم يحدث: " يبدو انني كنت متشبثا بالحياة قبل ان اشاهدها "، وسيخرج الطفل الى الدنيا شبه ميت تَّطلب الأمر دقائق لاعادة الحياة له، يخبره والده أن الصدفة لعبت دوراً في وجوده، فقد أراد الطبيب أن يستخرج شهادة وفاة للجنين، لكن طبيبا آخر تدخل لإعادة انعاشه..لكن الموت ظل عنيدا يلاحقه من مكان إلى آخر وسيخطف منه امه وهو في العاشرة من عمره:" هذه الخسارة المطلقة اجبرتني على العيش دون مطلق ". عاش وحيدا بعدما حرمه مرض أمه من ان يكون له أخ أو أخت، سيواجه الموت مرة اخرى عندما كان في الثانية والعشرين من عمره اثناء المقاومة الفرنسية:" تبدأ قصتي بالموت، إذ يطاردني شبحه منذ وقت مبكر جدا. لقد ادركت ان ثمة صلة بين الحياة والموت لا تنفصم عراها "..يكتب في " الانسان والموت " إن:" كل انسان يضم موته بين جنبيه، اشبه بالهارب من حكم الإعدام الذي يختفي عن الانظار ويشغل نفسه بعمله ويلعب الورق، ويغني مع انه واثق كل الثقة انه سيتم القبض عليه اليوم او غدا، او كانه ( هام ) إو ( كلاف ) في مسرحية بيكيت الشهيرة ( نهاية اللعبة ) عبارة بعينها لا معنى لها، ويكرر حركات بعينها لا هدف من ورائها داخل الحجرة الزنزانية الواقعة على مشارف الموت والهلاك، هذه الحجرة إو هذه الحياة:هالك من يخرج منها، وهالك من يبقى بداخلها، ولكن بعد قليل " ، إلا ان الموت لم يجعل من عالمه عدمي مغلق، فلطالما اعتبر موران الموت اقل الاحداث سوءاً:" يتم الاعتراف بالموت، وانكاره في ذات الوقت، انكاره بوصفه فناءً، والاعتراف به بوصفه حادثا واقعاً ".

يؤمن ان الحب والتضامن والصداقة هي التي تمنح للحياة معنى، تعلم من مونتاني الذي يسميه أبوه في الفكر كيف يحرس انسانيته، قرأ كتاب مونتاني  " المقالات " عندما كان شاباً، وجد فيه دعوة للانشغال بالمستقبل، وان لا يدير الانسان ظهره للعالم الارضي، لكي يحلم بالفردوس. مقالات مونتاني  ساعدته على بلورة افكاره حول احترام الآخر، والامتناع عن تدمير ما حولنا، وفيما بعد ستظل جملة فلوبير ترافقه:" اقرأ مونتاني.. سيهدئك ".

تعود ابن " المئة عام وعام "  ان يعيش بهويات متعددة فهو فرنسي بالولادة ويوناني من جهة الاب، وامه من اصول ايطالية.. انضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي في العشرين من عمره ، بتاثير من قراءة كتب هيغل وماركس، لكنه كان يؤمن بماركسية متفتحة، الأمر الذي سبب خلافا بينه وبين الحزب الشيوعي ليجد نفسه خارج الحزب: " أمسيت حراً ". في تلك الايام من عام 1951 سيلتقي إدغار موران باندريه بريتون الذي كان يقود الحركة السيريالية، وستسحره شخصة السيريالي الغامضة، وقد رأى موران ان برتون وحركته قد حررا الكتابة من كل أنواع القمع التي تحيط بها أو تضغط عليها. يرى وهو اليهودي الديانة، ان ارض الميعاد فكرة فارغة من كل معنى، وقد اتخذ مواقف منددة بالحركة الصهيونية  .

في شبابه راودته احلام النجومية، وكان يرى في قوامه الرشيق امكانية ان يجعله ساحرا لنساء الشاشة البيضاء، لكن السينما تخذله وتعطيه ظهرها فيقرر ان يدخلها من باب الكتابة، حيث اصدر العديد من الكتب اشهرها " نجوم السينما " و " السينما أم الانسان المتخيل ". سيذهب الى المانيا للقاء هايدغر الذي كان يشد انتباه فلاسفة فرنسا ومفكريها، وسيكتشف بعد حوار طويل مع الفيلسوف الالماني ان البشرية تعيش عصرا كونيا، قال ان هايدغر تنبأ بالعولمة قبل الجميع:" منذ تلك اللحظة اصبحت مستعدا فكريا لمواجهة ما هو غير منظور، والتصدي للتقلبات". سيكون موران على راس  مجموعة من مثقّفي فرنسا الذين وقعوا عريضة لنصرة المقاومة الجزائريّة، يجد نفسه دائم البحث عن الحقيقة :" تساءلت "ما الذي يحدث؟ لماذا كل هذا؟ أين هي الحقيقة ؟. لقد بحثت هنا وهناك، ثم اندلعت الحرب. انخرطت في المقاومة واعتقدت أنني سأجد الإجابة عن أسئلتي في الشيوعية. لكن بعد قمع الثورات الهنغارية والتشيكية، لم أعد أثق فيها. جعلتني حركات فكري وعملي الثقافي أنفتح على تعقيد العالم. لقد قادتني دائماً إلى شغف المعرفة. في العمق، كنت طالباً على الدوام وبقيت كذلك. إنه طريقي ".

هل تخلى موران عن كارل ماركس، يبدو ان العلاقة بين الفيلسوف الالماني الذي لا يزال يشغل العالم، وبين المفكر الفرنسي لا تزال تمر بحالات من المودة والمراجعة ، فماركس بالنسبة لموران  هو المفكر المتنقل  بين التخصصات  والذي كان بارعا في العلوم، ومتبحرا في الفلسفة، ومتمكنا من العلوم الاقتصادية وعلوم التاريخ وعلوم الأجناس. وكان في نفس الوقت سياسيا. ماركس الذي يرى موران انه تعرض لسوء التقدير، كان سوء الفهم والتقدير هذا ايضا من نصيب موران، لكنه واثق من قدرته على التجديد: لا انسى ضرورة مراجعة فكري، وذلك تبعا للمفاجأة التي يثيرها الحدث غير المرتقب او حتى بصورة دورية، كمن يقوم بفحص محرك سيارته كل عشرة آلاف كيلو متر" – دروس من قرن الحياة ترجمة خليد كدري –

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم