شهادات ومذكرات

قصّة الشهيد الجزائري (محمد سعيداني)

تغمر المرء مشاعر الرهبة والخشوع، والهيبة والوقار؛ وهو يستحضر مآثر شهداء الوطن الأبطال الأبرار؛ ويحن حنيناً عارماً إلى ذلك الجيل الذهبي الذي دحر الاستدمار الفرنسي من وطننا المُفدّى، والحقيقة أن استحضار بطولات أولئك الشهداء الأبطال هو منبع مهم؛ نستمد منه العبر والدروس التي تفيد في حل المشاكل التي تتعرض لها الأمة، حيث إن هناك العديد من القيّم المعنوية التي تُستمد من سيرتهم؛ لمن يعرف قيمة المعاني، ويُدرك أبعادها العميقة؛ فالرجوع إلى محطات تاريخية تجلت فيها أسمى معاني التضحية والفداء والبطولة، يجعلنا نقف على مدى عبقرية أولئك الأبطال العظماء والبسطاء في الآن ذاته، ونقع على مدى قدرة أبناء الجزائر على التحدي، ومواجهة المعضلات والتعامل معها، والخروج في النهاية بالانتصار، ويتبوأ الشهيد الفدائي البطل (مُحمد سعيداني) مكانة مرموقة ومتميّزة جداً في الكفاح الثوري بمنطقة الميلية التابعة إلى ولاية جيجل، ويستحق لقب: (نمر الميلية)، أو (أسد الميلية)، حيث إنه صورة طبق الأصل من ملحمة الثورة الجزائرية العظيمة، وقد كان الشهيد الفدائي البطل (مُحمد سعيداني)، كثيراً ما يتردد على مكتب حاكم الميلية المُجرم الفرنسي (جيرمان فور)؛ وذلك من أجل الحصول على رخصة للسفر إلى تونس لمعالجة ساقه المريضة، والتي طال مرضه بها، وازدادت آلامه منذ فترة، وهذا ما سهَّل مُهمة النهوض بتنفيذ حُكم الإعدام في المجرم (جيرمان فور)؛ الذي اشتهر بجرائمه الفظيعة في منطقة الميلية وضواحيها، فقد تمّ تعيينه عقب مقتل المتصرف الأول (الحاكم) المدعو (رينو)؛ الذي قُتل في الطريق القريب من منطقة (تاسقيف)، الرابط بين منطقة الميلية ومدينة قسنطينة، وذلك خلال هجوم 20أوت1955م بالمنطقة، حيث يذكر المجاهد عمّار قليل في الجزء الثاني من كتابه: «ملحمة الجزائر الجديدة» أن سلطات الاستعمار الفرنسي عيّنت مكانه الحاكم (جيرمان فور)؛ الذي قاد عملية انتقام واسعة من الأهالي، وارتكب عدداً كبيراً من الجرائم البشعة؛ لذلك قرر النظام تصفية هذا الطاغية المُجرم، وبالفعل فقد تمت عدة محاولات لتنفيذ حُكم الإعدام فيه، بيد أنها لم يُكتب لها النجاح بسبب وجود نقص، أو خلل في التنظيم والتخطيط، وبعد فشل محاولات كثيرة انبرى له البطل الفدائي (محمد سعيداني)، حيث يقول المجاهد عمّار قليل عن هذا الأمر في الصفحة 184 من الجزء الثاني من كتاب: «ملحمة الجزائر الجديدة»:«... وأخيراً وقع اختيار النظام على الشهيد (سعيداني محمد)، لتنفيذ هذه المهمة، وقد اشتهر الشهيد سعيداني محمد بشجاعته الفائقة، ورباطة جأشه الصلبة في تنفيذ العمليات الفدائية الخطيرة؛ حيث تطوّع في وقت سابق لقتل النقيب (روسو)، الذي اشتهر بفساده وجرائمه ووحشيته بمنطقة العنصر في جيجل، وبالفعل قام الشهيد سعيداني محمد بدخول مكتب النقيب (روسو)، وإطلاق النار على الجالس وراء المكتب الذي لم يكن سوى كاتب النقيب، واستطاع الشهيد سعيداني الانسحاب سليماً».

والحق أن من يقرأ سيرة الشهيد البطل (محمد سعيداني)؛ الذي ينحدر من أسرة جزائرية وطنية، يُدرك بأنه قد وجد في وسط منطقة أولاد عيدون، التي ولد ونشأ بها مُحيطاً صالحاً لتنمية عواطفه الوطنية، وتكوين شخصيته القوية، وقد اتصف بحسن السيرة والأخلاق، وهو بسيط الحال، ومتواضع في علاقاته مع الآخرين، وأسرته معروفة بالجهة بتمسكها بعاداتها وتقاليدها العربية الإسلامية، وبتضحياتها ونضالها وعطائها الغزير من أجل القضية الوطنية، ولقد سمحت الظروف القاسية التي عاشها الشهيد البطل (محمد سعيداني)، باكتشاف العديد من الحقائق، ومعايشة جرائم فظيعة تعرض له أبناء قريته، فعايش ويلات الاستدمار الفرنسي في منطقة ذات طبيعة جبلية صعبة، واكتسب خبرة وحنكة في مدينة الميلية، بعد احتكاكه بعدد غير قليل من المناضلين والمجاهدين والفدائيين والمسبلين، ومن أهم الصفات التي كان يتحلى بها الشهيد البطل (محمد سعيداني)؛ الصبر في الشدائد، والتواضع والتسامح المعقول، والشجاعة والإقدام، لذلك لا نتعجب عندما نلفيه ينفذ عملية إعدام المجرم الفرنسي الحاكم (جيرمان فور) في وضح النهار، حيث جاء في وصف المجاهد (عمّار قليل) لهذه العملية البطولية: «... لم يكن الوصول إلى مكتب الحاكم في الدائرة يتم بسهولة، لأنه كان لابد للذاهب إلى هذا المكتب أن يتعرض إلى عمليات تفتيش دقيقة، وقد ساعد الشهيد محمد سعيداني في توصيل المسدس الذي نُفذت به العملية إلى مكتب الحاكم، كاتب ضبط في دار العدالة يدعى مولود بوجمعة، لأنه لم يكن محل شبهة من طرف جنود الحراسة الفرنسيين، وهذا ما سهّل له إدخال المسدس الذي أوصله إلى الشرطي بلقاسم بوشامة الذي وضعه في أحد جدران مكتب الحاكم، وعندما أصبح المسدس داخل مكتب الحاكم تحدد يوم:15جانفي1957م لتنفيذ العملية، وقبل أن يتوجه الشهيد سعيداني محمد لتنفيذ العملية، التقى بإسماعيل زعيمش؛ مسؤول التنظيم داخل الميلية، وأخبره بنيته قتل الحاكم، وذكر له بأنه متأكد من استشهاده بعد العملية؛ نظراً للحراسة الشديدة خارج المكتب، ومبنى الحاكم من جهة، ونظراً للجرح الذي يُعاني منه في ساقه، والذي يُعيقه عن سرعة الحركة من جهة أخرى، فطلب منه أن يهتم ببناته بعد استشهاده، وبالفعل توجّه الشهيد سعيداني في ذلك اليوم (15-01-1957م) إلى مكتب الحاكم؛ حيث صرعه بعدة رصاصات من المسدس داخل مكتبه، وعندما حاول الشهيد الانسحاب من المكان؛ تعرض لطلقات نارية من جنود الحراسة الخارجية، فسقط على إثرها شهيداً، وقد تمّ القبض على كاتب ضبط المحكمة مولود بوجمعة، والشرطي بلقاسم بوشامة، حيث استشهدا تحت التعذيب». (عمّار قليل: ملحمة الجزائر الجديدة، ج:02، ص:184-185).

وقد ذكر لي أحد أقاربه في منطقة (أولاد عيدون) أن سلطات الاحتلال الفرنسي، قامت بالتنكيل بجثته بعد استشهاده بطرائق بشعة، وقد تمكّن من الوصول إلى مكتب الحاكم المجرم (جيرمان فور) على الساعة 11 والنصف، وقد استخدم سلاح: colt 11mm 43 .

وقد أشار المجاهد (عمر شيدخ العيدوني)، في كتاب: «مملكة الفلاقة» إلى أن تنفيذ حكم الإعدام في المجرم (جيرمان فور)، جاء بعد اشتداد الثورة في المنطقة بشكل كبير، وكان في سياق الإضراب الشامل الذي عُرف بإضراب الثمانية أيام، حيث يقول: « قررت الثورة شن إضراب شامل عرف بإضراب الثمانية أيام، وفي حقيقة الأمر لقد تقرر هذا الإضراب في مؤتمر الصومام على مستوى وطني، وبالنسبة إلى منطقة أولاد عيدون خرجت كل الشخصيات الجزائرية المُسلمة الساكنة بوسط المدينة، واجتمعت في العتقة مركز قيادة المجاهدين، وعلى رأسهم مسعود بوعلي، ومن بين هؤلاء: بوجمعة قريد، وكان يشغل منصب مستشار عام لوالي قسنطينة، وكان صديقا لروني مايير رئيس الوزراء الفرنسي، وهو من مواليد قسنطينة، وكان ينتمي سياسيا إلى المُستقلين، ومن بين الشخصيات أيضا القاضي مصطفى بن يزار، وكان يعمل بأولاد عيدون، وأحمد قارة محام، وعبد الرحمان حمودة أستاذ ثانوي، وسليمان مسقالجي تاجر ينتمي إلى حركة البيان، وقريد محمد الصالح وكان تاجرا كبيرا يصدر السلع إلى فرنسا وغيرهم كثير...، وقد كلفتهم الثورة في هذا الاجتماع بضرورة القيام بإضراب عام، وحمل الناس على ذلك، فنفذوا الأمر، وبالتزامهم نجح الإضراب بنسبة 100%والذين كانوا مسؤولين على هذا النجاح من القسم الرابع وهم بن حملاوي مسؤول,ونوابه سي رابح غيوة، وسي أحمد بوشريط ،وسي أحسن زعيمش وغيرهم...، وعلى إثر هذا الإضراب قام الاستعمار بتخريب كل المحلات التجارية المضربة عن آخرها، ومخافة القتل أو الأسر أو... حملهم على العمل بالقوة فغادر أغلب السكان المدينة، واستقروا بجبال بني فرقان ومشاط، وأولاد عربي، والعتقة، وأولاد الصالح.

في هذه الأيام المشحونة تمكنت الثورة من ضرب العدو من خلال عملية نوعية جريئة تمثلت في قتل الحاكم"جيرمان فور" برتبة عقيد، وهو العقيد الثالث الذي يسقط في المنطقة، إذ تمكن البطل سعيداني محمد من التسلل إلى مكتبه، وقتله، وعند محاولة خروجه اشتبك مع أفراد من الجيش الفرنسي فسقط شهيدا، وكرد عاجل على مقتل الحاكم (جيرمان فور) قامت السلطة الاستعمارية بإعدام حوالي 20سجينا من بينهم: حسين قوطاس وبلقاسم بوشامة، ولبصير...وغيرهم.

بعد مدة تمكنت المخابرات الفرنسية من كشف رؤوس الإضراب في أولاد عيدون وقامت باعتقالهم، وعند لقائهم بنقيب المخابرات هددهم ورمى العلم الفرنسي أرضا في محاولة استفزازية يجد من خلالها مبررا لقتلهم إن هم أساؤوا التصرف مع العلم، ولكن بوجمعة قريد أخذه ووضعه في منديله ودسه في جيبه متظاهرا باحترامه، وهكذا نجوا من القتل المحتم، واكتفى النقيب بنفيهم إلى أماكن أخرى بعيدة (الجرف، وسطيف...)، ومنهم من لم يتمكن من الرجوع إلى أولاد عيدون، وبعض الذين تم نفيهم، مازال على قيد الحياة، وهم: عبد الرحمان حمودة، وسليمان مسقالجي، ومحفوظ بلارة ».

***

د. محمد سيف الإسلام بوفلاقة 

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

في المثقف اليوم