شهادات ومذكرات

جوليان باجيني.. العيش في ظل الفلسفة

(ليس صحيحا أنّ كل ما تحتاجه هو الحب؛ فالحب مثل الحياة قيّم، ولكنه هشّ ولا يخضع لأيّ ضمانات، وهو شعور محفوف بالمخاطر وخيبات الأمل على الرغم من أنّه مصدر ابتهاج وسرور كبيران).. جوليان باجيني من كتابه "ما جدوى كل ذلك"

في الرابعة والخمسين، وخلفه " 25 " كتابا، قال انه لن يهنأ قبل أن تتجاوز عدد كتبه سني حياته، يخلط الفلسفة بتجارب الحياة، كتب عن اللغة والتاريخ والكتب، والفتاوى الطبية، وفلسفة الطعام التي يرى انها تحكمنا: " لا يوجد شيء أساسي أكثر من الحاجة إلى تناول الطعام والشراب". في كتابه الاخير " دليل الحياة " الذي كتبه بالاشتراك مع عالمة النفس " انطونيا ماكارو" وصدر اثناء جائحة كورونا يخبرنا ان الانسان منذ بداية الزمن وهو يطرح أسئلة حول كيفية العيش في ظل الفجيعة والحظ والإرادة الحرة. وبرغم كل هذه الكتب لا يزال يتمنى أن يصبح كاتبا. مارس الكثير من الاعمال، لكنه يستمتع بعمل مسؤول طهاة في مطعم.. يقول انه وقع في حب الفلسفة وهو في الثانية عشر من عمره، عندما وجد في مكتبة المدرسة كتابا عن الفيلسوف الالماني إيمانويل كانط، لم يفهم منه شيئا، لكن ذلك الكتاب المعقد حفزه للبحث عن كتب اخرى، بعد ثلاث سنوات سيعثر على الدليل، انه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد، وفجاة يقع في حب الفيلسوف الوجودي ليصاحبه في رحلته الفلسفية:" لم يكن كيركغارد بمثابة واحة في تلك الصحراء، بل عاصفة رعدية تثير العواصف في قلبها ".

يقول جوليان باجيني الذي وضع كتابا بعنوان مثير " حجج فاسدة تجعلنا نبدو اغبياء " – ترجمه الى العربية عماد صبحي - انه لم يقرأ كيركغارد كنصوص فلسفية، وانما كان يتخذ منه صديقا يشاركه الحديث عندما يختلي مع نفسه، ذات يوم سيطرح سؤالاً على كيركغارد المتخيل: من نحن وهل يمكن للانسان الاستمرار بالقول ان له شخصية؟، ونجده بعد سنوات يجيب في كتابه " هل تحكم على الكتاب من عنوانه – ترجمته الى العربية هبه الشايب - قائلا:" يمنحنا العقل البشري نماذج أو امكانيات لنكون اي شيء في أي وقت. كان في الثانية عشر من عمره حين سمع بوفاة جان بول سارتر، لم يكن قد قرأ شيئا لصاحب "الوجودية فلسفة انسانية " فاشار عليه أحد زملائه في المدرسة أن يقرأ رواية سارتر " الغثيان " سحرته شخصية " روكنتان " وتمنى ان يعيش مثله متمردا على الحياة، قال لوالده انه يريد أن يجرب الحياة من خلال العمل، عمل في عدة مهن بسيطة.. كتب قصص قصيرة كان يرسلها الى الصحف وينتظر نشرها من دون طائل، غطى جدران غرفته بصور فلاسفة الوجودية كيركغارد، هايدغر، سارتر، نيتشه، ومعهم فيلسوفه المحبوب ديفيد هيوم. كتب مؤخرا انه تمنى لو عاش فترة اغلاق كورونا مع الفيلسوف الأسكتلندي العظيم ديفيد هيوم، وكان يحلم ان يتناول الطعام من يديه، فقد عرف عن هيوم عشقه للطبخ، وقد جرب باجيني اثناء الغلق صنع وصفات غذائية كان يقوم بها ديفيد هيوم. قال ان بوذا كان اول فيلسوف وجودي:" لقد آمن بوذا أننا لا نمتلك جوهرا ثابتا لا يتغير، ونحن بالأحرى مجموعة خبراتنا "، ركزت الفلسفة البوذية على ضرورة كشف القناع المزيف عن الحياة. في مكتبه يضع امامه عبارة كونفوشيوس: " لا تفعل للآخرين، ما لا تريد ان تفعله لنفسك "، كتبت عنه الغارديان بانه فيلسوف يستحيل التوقف عن قراءته. يعترف بانه يكتب في كل شيء ابتدءا من البطة التي ربحت اليانصيب، وليس انتهاءً بمناقشة موضوعة الالحاد. بلغت مبيعات كتبه ارقاما قياسية، وسخر من النقاد الذين ظنوا أنه تحمس للفلسفة ليعيل نفسه.

يرفض جوليان باجيني ما يقوله البعض من أن الفلسفة تدور حول الافكار، فهو يرى ان مهمة الفلسفة أن تتناول الحجج والأدلة:" لا جدوى من أن يكون لديك ما يبدو فكرة فلسفية عظيمة، كالقول مثلا انه ليس لدينا إرادة حرة، وذلك إذ لم تتمكن من الإتيان بحجج أو ادلة تدعم هذا القول ".

" هل تحكم على الكتاب من عنوانه "، جملة استعارها من رسالة ارسلها مارسيل بروست الى صديقه الكونت جورج دى لورس، يتهمه البعض بان كتبه لا يمكن ان تصبح مراجع فلسفية، ويرد:" القصد من وراء كتبي هو اشعال جذوة التفكير لكل من يريد التفكير لنفسه ". يجد ان افضل طريقة للدفاع عن الافكار هي مهاجمتها، لأن قوة الفلسفة في نظرة لا تأتي إلا من طريق تخليصها من التبجيل:" من اراد ان يحمي الفلسفة، عليه ان يكتب باسلوب مختلف تماما عن فلاسفة عصر التنوير ".

ولد جوليان باجيني في التاسع عشر من حزيران عام 1968 في مدينة فولكستون التي تقع شرق انكلترا واشتهرت بانها مدينة تضم ميناء كبيرا، جاء والده من ايطاليا في نهاية الخمسينيات ليعمل نادلا في احد الفنادق، هناك سيلتقي بفتاة يرتبط معها بعلاقة حب ليتزوجها بعد سنوات، كان والده يحدثه عن جمال النظرة الاولى عندما شاهد والدته، وما تعنيه تلك النظرة بالنسبة له، قال أن احاديث والده الممتعة جعلته يتمعن النظر الى الاشياء من حوله.. في السادسة من عمره أدرك أنه لن يتمكن من كسب صحبة أقرانه في المدرسة الذين كانوا يسخرون من هذا الصبي الذي يسأل كثيرا، وينتظر اجابات حاسمة على اسئلته،، أصغر أبناء الاسرة الذي حاولت أمه أن تربيه بصرامة دينية، لكن الاب وجد أن اطفاله يجب أن يعيشوا حياتهم من دون خوف وتعاليم تقيد نموهم الطبيعي، اكمل دراسته الاوليه في مدرسة هارفي. عام 1990 يحصل على الشهادة من جامعة ريدنغ، ينتقل بعدها الى لندن لاكمال دراسته ليقدم عام 1996 اطروحته للدكتوراه بعنوان " فلسفة الهوية الشخصية "، والتي ستنشر بعد خمسة عشر عاما بعنوان " ماذا يعني أن تكون أنت ؟ ". عام 1997 يشارك في تاسيس المجلة الفلسفية مع مجموعة من اساتذة الفلسفة وعلم النفس وسيكون شعارها " استعادة الفلسفة "، يصدر عام 2002 اول كتبه بعنوان " الفلسفة.. موضوعات مفتاحية " عرف النجاح سريعا من خلاله، الامر الذي دفع الناشر لأن يطلب منه كتابا جديدا، لكنه في هذا العام سيلحق كتابه الاول بثلاثة كتب " الفلسفة وراء العناوين " و " أدوات الفيلسوف " و" الفلسفة البريطانية الجديدة "، وفي هذه الكتب يؤكد باجيني ان الفلسفة تتساءل عن كل شيء ولا تدعي صحة أي شيء.. وسيعود في هذه الكتب الى ملهمه بوذا، مؤكدا أن الفلسفة البوذية تتماشى بشكل ملحوظ مع الابحاث المعاصرة حول الذات:" لقد آمن بوذا اننا لا نمتلك جوهرا ثابتا لا يتغير، ونحن بالأحرى مجموعة خبراتنا الجسدية، وافكارنا ومشاعرنا ". يعترف باجيني ان رؤية الذات يعد تحديا للانسان، فهو يفترض انه ليس هناك احساس حقيقي بالذات:" لأن الكثير من الاشياء التي نعتبرها حقيقة هي عبارة عن انشاءات "، فكل شيء مكون من الاجزاء الصغيرة التي تؤكد حقيقة قوته:" الانترنيت ليس شيئا واحدا بل هو شبكة، والشجرة هي مجموعة من ملايين الذارت ".. ويستشهد بالشاعر الامريكي والت وايتمان الذي كتب " أنا واسع جدا واحتوي الجموع ".

ينشغل باجيني بسؤال الفلسفة الأزلي:" من نحن، وعلى أي شيء يعتمد وجودنا المستمر عبر الزمن ؟ "، وهو يؤكد ان ما يفرق بين الانسان والانواع الاخرى من الكائنات، أن لدينا شعور بذواتنا طوال الوقت وهو ما يجعلنا مختلفين، ان لدينا " ذوات لها سير ذاتية " ويمكن لهذ الذوات أن تخلق تفاصيل غنية وقصصا تنشأ من تجربتنا. يقول باجيني:" كلما اصبحنا اكبر عمرا، قلت قدرتنا على تعريف انفسنا بشكل صحيح وثقة، دون ذواتنا السابقة " ويضيف:" ربما لا نكون الشخص الذي كنا عليه قبل ثلاثين عاما مضت، لكننا نغذي الشعور بالذات من خلال حياتنا وبطريقة ما "، ان بحثنا عن هويتنا الصحيحة، ليس هو الهدف، لان الاعجوبة الحقيقية كما يؤكد باجيني هي اننا نحتفظ بالذاتية ونصوصها لفترة طويلة، فنحن مهيئون باستمرار لابداع " احساس سردي عن الذات "، ولهذا يفترض باجيني أن الافراد يشكلون هوية من خلال دمج خبرتهم في الحياة في قصة تطورية تتضمن الذات، مما يعطي احساسا بالحياة ووجود هدف لها – يمكن مراجعة كتاب توم باتلر" إضاءات فلسفية " ترجمه الى العربية متيم الضايع –، يجادل بأنه لا توجد فلسفة تستطيع الهروب من خصوصيات مكانها. حتى الفلسفة العالمية يجب أن تأتي من مكان ما. يصر على ان السؤال ليس من أين أنت، ولكن إلى أين أنت ذاهب؟.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم