شهادات ومذكرات

سيرة ليست للسرد (6)

وضع السماعة جانباً وتحدث إلى الرجل الآخر، الذي طلب مني الجلوس على الكرسي القريب، ثم بدأت الأسئلة. فرويت لهم ما حدث وسبب هروبي ومجيئي إليهم.

ـ وما اسمك الحقيقي؟. 

ـ زياد عبد الملك عبد الرحمن.

ـ هذا اسمك في قرص الدلالة، ولكن اسمك في الهوية مدون زياد عبد الملك الناصر. ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟

ـ الهوية صادرة عن معهد التكنولوجيا الذي تخرجت منه وهي جهة مدنية، وأنا أحتفظ بها دائماً في ملابسي المدنية التي أرتديها أثناء ذهابي في الإجازات الدورية.

ـ واسمك في القرص غير هذا.

ـ القرص. قرص دلالة في خدمتي العسكرية.

ـ نحن نعرف جيداً أن خريجي المعاهد والكليات يصبحون ضباطاً حين يساقون إلى الخدمة العسكرية في العراق، وأنت تقول الآن أنك جندي عادي. أليس هذا غريباً ؟

ـ رتبتي مثبتة في قرص الدلالة.

ـ أترك قرص الدلالة وأجب على سؤالي.

ـ السبب عيني اليمنى.

ـ ما بها؟

ـ قصر نظر حاد.

ـ لنترك هذا الآن .. أتستطيع أن تخبرنا كم من السنوات عملت في جهاز الاستخبارات العسكرية؟

وقع سؤاله كالصاعقة، وشعرت بأن الدم يصعد نحو راسي، وبدأ صدري يضيق وأنفاسي تتقطع ومرارة وجفاف يملآن فمي.

ـ ماذا ! لا علاقة لي بمثل هذا العمل.أنا جندي هربت من الجيش واحتميت بكم خوفاً من الموت.

ـ ليست تلك هي الحقيقة، اسمك مبعث للشك وكذلك اختلافه، وكيف تسنى لك أن تكون وسط هؤلاء النسوة والرجال المهجرين؟ وكيف فلت من إجراءات وحدتك العسكرية؟ أيضا ملابسك المدنية.

ـ لقد حدثتكم عن هذا..وإذا كنتم تظنون سوءا في الأمر، فهل من المعقول لرجل المخابرات أن يأتيكم طواعية؟

ـ المهام تتنوع والواجبات أيضا... وهل تريدنا أن نعقل تلك الرواية التي لا يصدقها إلا الأغبياء؟ حدثنا بصراحة لتكون بمأمن عندنا.

ـ والله لقد رويت لكم الحقيقة ولم ألفق أي حرف فيها.

ـ حسناً.. كم من المعارك شاركت فيها؟

ـ كثيرة..

ـ وكم قتلت من جنودنا.

انعقد لساني فلم أجد جواباً. وبدأ جبيني يتفصد عرقاً ولكني تداركت الأمر، وأخرجت كلمات فزعة كنت ألوكها تحت أسناني.

ـ الله يحكم يوم الحساب.

فقال المترجم وهو يتضاحك بخبث

ـ وهل ننتظر إلى ذلك اليوم؟

أخذ العسكري الآخر يتحسس لحيته ويفركها، وهو يطلق سيل كلمات بالفارسية ويوجه نظرات حادة نحوي وكأنه يتوعدني.

تمنيت لحظتها لو رجعت بي الساعات إلى الوراء، لأكون أكثر يقيناً وتروياً في اتخاذ قرار الهروب. فقد تبين لي عند هذه اللحظات أني من النوع الذي لا قدرة له على إكمال الشوط حتى نهايته، وأنّ خياري لم يكن مضموناً.

كان المترجم خلال ذلك يدون في دفتر أمامه بعض الملاحظات، وفي الوقت ذاته يحدث الآخر. وبعد فترة وجيزة نظر نحوي ووجه لي حديثه.

ـ يبدو أنك لا تريد أن تخبرنا بما تعرف، وتراوغ في كلامك.

ـ لا لم أراوغ أو أكذب، أقسم بالله على هذا.

ـ إذن نطلب منك شيئا آخر، مسألة ليست بالعسيرة، ونعتقد أنك لن تخذلنا.

ـ لم لا، إن استطعت ذلك.

استدار إلى الخلف وأصبح وراء المنضدة، ثم أخرج من الجرار غلافاً كبيراً وفتحه فارشاً دفتيه فوق المنضدة، وطلب مني الاقتراب لمحاذاته وأخذ قلماً ناولني إياه قائلاً، مشيراً بإصبعه نحو موقع بارز من الخارطة.

ـ هذه هي فتحة سرتنك بين الجبلين. قلت إنّ وحدتك تقع خلف الفتحة.. حدد لنا على هذه الخارطة أماكن وأعداد القطعات العسكرية ما وراء الجبلين، أعتقد أن المهمة يسيرة عليك، أليس كذلك ؟

شعرت برعدة تكتسح جسدي، وراحت أصابعي ترتعش فسقط القلم منها.

ـ لا معرفة لي بمثل هذا الأمر، فأنا جندي بسيط لا أملك خبرة بذلك.

ـ إذن أنت تمتنع عن التعاون، ما عليك غير تحمل النتائج، ها قد كشفت عن مهمتك، لا نريد إضاعة وقتنا معك. أسم كريه وهويتان مختلفتان وملابس مدنية ورواية هروب غريبة متهاوية لا تعقل في مثل أوضاعكم وأوضاعنا وفي جبهة قتال. وفوق كل ذلك تمتنع عن أن تدلنا على مواقع القطعات العسكرية رغم ادعائك طلب الحماية لدينا.

ـ والله الكريم ما تكلمت إلا الصدق ولا معرفة لي بالقطعات العسكرية هناك.  

شعرت بعد ذلك بالقلق يكتسحني، ورهبة تسيطر عليَّ، تلمست ذلك في السكون الثقيل الذي خيم على الملجأ، وتلك العينين الحادتين وهما تثقبان صدغي مثل إطلاقات بندقية، وتحفران في دماغي مثل مثقب.

بصوت كنت أشعر به يلوك الضغينة وكأنه صادر عن بوق، صرخ بي العسكري الملتحي بقوة وهدير وبرطانة فارسية ما كنت أفقه منها حرفاً، ولكنه كان يكرر خلالها إسمي كاملاً، وكان وجهه محتقناً. كنت أدرك أن جمله التي يقذفها بوجهي تعني بغضاً وتهديداً ووعيداً وليس شيئا آخر. ركزت بصري نحوه وشعرت ببلاهة وتحجر يغطياني بالكامل، وما عدت بحاجة لقول كلمة أخرى حتى لو وجه لي سؤالا. قررت أن أصمت على الأقل الآن.

نودي على الحرس في الخارج، فجاء وسحبني من يدي وعاد بي مرة أخرى حيث الملجأ الأول. لم أجد هناك أحداً، كان الملجأ فارغاً. جال نظري بجدرانه الطينية الصماء. أردت أن أحادث أحداً، أن أشكو له حالي، أن أصرخ أو أبكي ولكني ما فعلت غير الصمت. لم تشغلني أصوات القذائف المتساقطة ودويها الذي يهز الأرض. لم أعد أفكر بالحديث وما جرى في التحقيق. ذهب تفكيري بعيداً جداً حيث الشارع المفضي إلى بيتنا. أسمع ضجيج الناس وأصوات الأطفال وهم يتراكضون خلف بعضهم دون دراية بما يجري في جبهات القتال. أخي الصغير مروان يلاحقني بنظراته من بعيد ثم يصرخ ويأتيني مهرولاً. جاء زياد .. جاء زياد، ثم يقفز متشبثاً برقبتي ويروح يقبلني بفمه الصغير الطري ورائحة الطفولة المخلوطة بالتراب تملأ ثيابه، بعدها ينسل من بين يديَّ راكضاً نحو البيت ليخبرهم بقدومي. شجرة الخروع التي أبغضها وأعدها شجرة شؤم، مازالت تقف صامدة وسط باحة الدار، أي جلد تحمله تلك الشجرة العجفاء لتصمد كل هذا الزمن، اصفرت أوراقها وتيبست أغصانها ولكنها بقيت واقفة تحمل ثمارها الشوكية الكريهة. صورة جدي المعلقة في الإيوان البراني تحدقني بعيون رضية، وتعاتبني على فعلتي، فقد ود أن يراني طياراً وما وجدت بعده من فضاء يضمني لأحلق فيه. تقاربني أمي ببشاشتها وزغرودة خافتة تصدرها حنجرتها المتيبسة. تروح تمسد فوق رأسي بأصابعها المتغضنة وتتشمم رقبتي، واسمي لا يسقط من بين شفتيها. تلهج به وبالدعاء وهي تتملى وجهي وكأنها لم تلتقيني منذ دهور. أسمع صوتها المرتعش يردد: إنها العناية الربانية يا ولدي.. إنها تحرسك وتعيدك لي، سور سليمان بن داوود، سور سليمان أبن داوود.

 دجاجاتي كبرن ورحن يسرحن جوار الشجرة، يقتربن مني كأنهن يرحبن بي. أفتت طرف الرغيف وأرميه فيتشاجرن عليه بقربي. وكانت أمي مستمرة في حديثها..حظك من ذهب، والمصطفى حظك من ذهب.. عندي  لك مفاجأة .. لقد أكملت كل شيء، ما عليك غير أن توافق، هداك الله إلى الطريق يابني، حين يأتي أبوك سنتحدث في ذلك كثيراً، إنها ابنة عمتك نجاة، بنت ولا كل البنات. شاطرة وقوية ومؤدبة، تعرفها جيداً. حسنا قلت وأطرقت رأسي.

شردت بأفكاري وكان رأسي يتضخم ويتضخم وأشعر أن الدم سينط ّ من عروق صدغي. كنت أترنح مع أفكاري وتأملاتي. أتوقف هناك وأعود مرة أخرى إلى هنا. لم أشعر بمقدار ما فات من الزمن وأنا جالس في الملجأ وحيداً تنتابني مشاعر سجين عليه أن يقضي فترة سجنه دون تذمر أو شكوى.

 فجأة سمعت صوتاً يناديني. أخرجت رأسي فوجدت المترجم يقف أمام الباب بقامته النحيلة، ويمد يده لمساعدتي بالخروج من الملجأ. مشيت خلفه دون أن أفهم شيئاً مما يريدونه مني، ولكني شعرت بثقل يعتمر صدري وعقلي وخوف مما ينتظرني، بعد ما جرى في ذلك التحقيق المقيت. حينذاك كانت الشمس بصفرتها الباهتة تختفي وتظهر بين غمامات بيض تسير مسرعة فوق المرتفعات. وفي البعيد بدا سفحا الجبلين مظلمين. طالعت ما حولي حيث أكوام من حجر تتراص فوق بعضها لتغطي أسطح الملاجئ المتناثرة في الساحة الواسعة الممتدة على طول وجوار الساتر الترابي، وارتفعت عن سطح الأرض فتحات أبواب الملاجئ وكأنها شواهد قبور. كان هناك ثمة جنود يتجولون قرب ملاجئهم وعند الربايا المنتشرة فوق الساتر. توقف المترجم عند باب الملجأ حيث حقق معي أول مرة، ونادى بصوت واضح ومسموع خرج إثره ثلاثة عسكريين. أحاطوا بي وقام أحدهم بسحبي من ساعدي بقوة ودفعني أمامه، عند تلك اللحظة خرج الضابط الملتحي وراح يوجه كلامه إلى هؤلاء الثلاثة وفي ذات الوقت كان ينظر نحوي. اقتادوني ثلاثتهم نحو سيارة تيوتا خاكية اللون ملطخة بالطين أخفيت بعناية وراء ساتر ترابي وأكياس مليئة بالتراب. أجلسوني في الحوض الخلفي بين رجلين منهم، وتقدم المترجم مناولاً السائق بعض أوراق، بعده انطلقت السيارة تلهب الأرض بأقصى سرعتها.

لم أسأل عما يحدث وكأن الأمر لا يعنيني. ورحت في صمت دون أن أنبس بكلمة ومثلي فعل الآخرون طيلة الطريق. 

تلك كانت بداية رحلتي مع عذاب الأسر والتي لا أرغب الحديث بتفاصيل ما حدث لي خلالها.

***

فرات المحسن

.......................

* الجاش أو الجحوش: هم مرتزقة صدام حسين وعملائه من الأكراد.

في المثقف اليوم