شهادات ومذكرات

شراء مكتبة في جدة 1989

بقلم: هيلاري مانتيل

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما اندلعت أخبار مشكلة سلمان رشدي، أول ما توارد إلى خاطري اليوم الذي حاولنا به شراء مكتبة في مدينة جدة. وجدة مدينة سعودية كوزموبوليتانية وشديدة الرخاء. ولو قارنتها بالعاصمة الرياض، ترى أنها متحررة ومتلونة، كذلك ثرية جدا. ومراكز التسوق فيها ذات هواء مكيف وقارس البرودة،  وتشبه معابد من الرخام والزجاج. يخيم علبها لون أخضر وتتخللها نافورات ذات خرير. وهي محاكاة لتصور المسلم عن الجنة. ولكن تغيب عنها الحوريات، يمكنك شراء فرو ثعلب، إن أردت، أو بورتريه للملك فهد، أو كعكة محلاة أمريكية أو كنبة عملاقة مدمجة بجهاز موسيقا مع مكبر للصوت إن كنت مغرما بهذا الذوق، غير أنك لن تجد مكتبة في أي ركن من هذه الأركان. وكلامي يدور عن عام 1983. وعلى الأرجح إن السبب هو عدم وجود طلب عليها.

حينما سافرت أول مرة إلى جدة توقعت أنني في مدينة محرمة: مدينة دون مكتبة. ففي مراكز التسوق رفوف للصحف، والمجلات، بعدة لغات، وفي بعض الحالات عدد محدود من روايات غرامية حيث تلتهب العواطف بين الطبيب والممرضة. وهناك مخازن تدعى متاجر الكتب لكنها تبيع القرطاسية. ولا شك يوجد فيها الكتاب، القرآن الكريم. والرفوف التي تحمله تكون معزولة وبعيدة عن متناول الأيدي. وعليها المجلدات الضخمة ذات التجليد الصلب والبسيط التي تتشابه في ذهني مع موسوعات الأطفال. وكانت مثل هذه الموسوعات متوفرة في بيوت الطبقات الطموحة لدينا. بالنسبة للرقابة يومذاك فقد كانت متنمرة، غير أن الضحية هي الصور وليس النص المكتوب. أما الصحف الأمريكية والأوروبية فقد كانت تغطي بعض الفقرات منها خطوط سود مرسومة بأقلام شنيار غليظة*. والمستهدف بالبتر والحذف هو الصور وليس أعمدة الأخبار. والمقصود بالصور صدر جوان كولينز العاري، وساقي زولا بود الممشوقتين. وهذا على سبيل المثال فقط. الثقافة في السعودية هي ثقافة فيديوهات. فلربات البيوت أمهات. والأم تعيش في الخيمة لكن البنت تنفق أيامها في شقتها المدينية وتشاهد المسلسلات المصرية على شاشة التلفزيون. أما طلاب الجامعات فلا يشترون الكتب، ويقول لهم أساتذتهم الأوربيون: من المفيد للجامعة شراء ما يكفي من الكتب الأكاديمية، وإتاحتها للجميع في مكتبة عامة. وصديقتي المسلمة القريبة من قلبي وهي امرأة لديها خبرة سياحية واجتماعية تحمل إجازة بالأدب الإنكليزي. وقد حصلت عليها من الباكستان. وذكرت لي في أحد الأيام إنها منذ يوم زواجها لم تقرأ سوى كتاب واحد. خلال أعوامي الأربع في المملكة تحسنت مصادر الكتاب. وأصبح من الوارد شراء مختارات محدودة من الكتب ذات الغلاف العادي. كان المسافرون يحملون معهم قائمة  بعناوين لإحضارها -  ولكن توجب عليهم الحصول على هذه المشتريات من رجال الجمارك السعوديين. بعض الحكومات تضع قائمة بالمؤلفات الممنوعة،  ولكن لو كان لدى السعوديين قائمة فالحظ لم يحالفني بالاطلاع عليها: وتعلم من الشائعات فقط ما يستفز السلطات، وحظك يتوقف على نوع ضابط الجمارك الذي يفتش حقائبك، هل هو متشدد أم لطيف المعشر. وكنا نعتقد أن ضباط الجمارك لا يقرأون بالإنكليزية، وإن أمكنهم لن يهدروا وقتهم بالقراءة. ويحكمون على الكتاب من غلافه. ونسختي من "المملكة"، العمل الخالد لروبرت لايسي مرت بسلام بعد تغليفها بغلاف مزيف من الورق المجلل بالغبار. وكان من كتاب عن "لويس وأنطوانيت" لفينسينت كرونين. وربما لم يكن هذا التصرف حكيما، فالسعودية العربية دون صلات ملحوظة مع النظام القديم: ولكن كنت متيقنة أن الجمارك لن تلاحظ العلاقة. وسريعا ما اتضح أن الجمارك بدأت تهتم بالكلمات. مثلا كلمة "لحم خنزير" على سبيل المثال. فقد كان للرقابة مكتب خاص بالأطعمة. وكان واجب بعض الضباط تفتيش حاويات الأطعمة المستوردة، والتأكد من أنها تخلو من مزيج المرق المجفف. وقراءة المكونات المسجلة على العبوة. وشطب تلك الكلمة الفظيعة أينما وجدت. ولاحقا انتبهت أن الكلمات ذات أهمية قصوى، وهي ليس كما خيل لي أول الأمر غير ذات شأن في هذا المجتمع. أنت لا تستطيع إلغاء وجود لحم خنزير في العالم، ولكن لو أنك نبيه يمكنك عدم نطق الكلمة. ولو أن أقلام التلوين لديك تعمل وكثيرة يمكنك إخفاء الاسم وبالتالي وبالتدريج إلغاء المادة نفسها، لتترك بمكانها مفهوما باهتا دون اسم يتلاشى من أذهان الكفار، فهو في اانهاية لحمة ستفقد وجودها شيئا فشيئا لأن الكلام عنها من المحرمات.

يقال: في مدينة قم المقدسة يحتفظ الإيرانيون بقرآن يبلغ حجم صفحاته مترين مربعين، وكل رقاقة جلدية تحمل نقوشات يدوية. ولكن السعوديين يستهزئون بمثل هذه الاستعراضات، ويعتقدون أنها خيلاء، ولكن الشيعة يفضلون الزخارف. ويعقدون مباريات لقراءة القرآن، بحضور جمهور واسع، وتقديم جوائز مالية ضخمة. ثم أدركت أن الكتاب الموجود على الرف في متاجر القرطاسية ذو علاقة بسيطة، إن وجدت، مع القرآن الكريم. فهو كتاب من أجل الحياة ولغته مقدسة. وسطوره مشحونة بالأهمية والمهابة، ويمكنها أن تشفي المرضى. وكل كلمة مقاتل صغير في حرب تدور على مدار الساعة.

نشرت جريدة عكاظ اليومية في آذار عام 1986 عمودا كئيبا يتنبأ بسلطة الكلام. قال الكاتب:"حرب الكلام أكثر ضررا من الحرب العالمية الثانية. فالكلام يجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة. والكلمات - المدونة في الصحف والمجلات والكتب والتي تبثها الإذاعة ومحطات التلفزيون - هي أدوات تعمل على قتل الروح البشرية". والمؤامرة العالمية ضد المسلمين، وهو مدار كلام طهران في الوقت الراهن، ليس فانتازيا كبار السن المصابين بالبارانويا: في المملكة هذه الفانتازيا تبدو حقيقة تتناقلها كل الأمة. والشباب العربي الطامح، كما تقول الصحف، يسافرون إلى أوروبا للدراسة، وقد حركت إمكانياتهم حسد مضيفيهم، ولذلك عملت أوروبا على تدميرهم، بإدمان المخدرات والعلاقات الجنسية مع العاهرات. وفي متاجر ماركس وسبنسر في لندن، ينتشر عملاء متدربون جهزتهم الصهيونية، بانتظار القفز على الزوار العرب، واتهامهم بالسرقة، وإيداعهم في السجون وتعويم عارهم في كل أرجاء العالم من خلال وكالة رويترز ويونايتد بريس.

وفي تشرين الثاني 1986 نقلت المجلة السعودية إعلانا عن "المدير العام للبحوث والأحكام والهداية الدينية" يحذر من نوع معين من بلاط الأراضي الذي تم استيراده إلى المملكة. فهذا النوع يهدف "عمدا لاستفزاز عواطف المسلمين". فهو يخفي في طرازه الغامض - شيئا لا تلاحظه العين العادية، ولكن هذا ممكن بالملاحظة القريبة - وهذا الشيء هو كلمة "الله" و"محمد". وهذا ما ادعت به السلطات. إن عين المؤمن ثاقبة جدا. ولو أن البلاط يستفز دين الإسلام، ماذا يمكن أن تقول عن رواية مثلا؟.

ورد فعل السلطات السعودية على "آيات شيطانية" كان متدنيا، وآية الله، الذي ينظر إلى الإسلام السعودي بشيء من التهكم ويعتقد أنه "إسلام أمريكي"، قد خفف من غلوائهم. وليس من الصعب أن تتخيل عمق الغضب والقلق. أول رد فعل شعبي في الغرب على إباحة دم الكاتب، كان، على ما أعتقد، هو الدهشة المختلطة بمشاعر قريبة من عدم التصديق. فالموضوع كان "عن رواية فقط". لا يمكننا أن نفهم أنه بمقدور شعب أن يثور ضد حكاية.

فالروائيون يتبنون خدعا متعددة لإخفاء نواياهم. ولو تابعوا إنسانا حقيقيا وأضافوه إلى شخصيات الرواية يمكنهم، بكل يسر، تغطية مساره بما يكفي لتحاشي أي مسؤولية تضعهم في قفص الاتهام. وإذا اعتقد النقاد أن العمل "مباشر" و"ودعائي" يمكنهم الاحتجاج بقولهم أنهم يستعملون الاستعارة والخدع الكتابية والمجاز.

وبوسعهم مثل سلمان رشدي، أن يصورا شخصيات حالمة. الكتاب لا يتحدثون عن غربتهم، ولكن يفضلون الكلام عن الشخصيات المستقلة، وعن الدور الهامشي للكاتب في الحبكة، والذي تحمله العملية الإبداعية بتيارها الجارف. وهذا جزء من الإبهام الصوفي، والكتاب يستمتعون به. وفي الغرب لا يوجد ضير في انفصال الكاتب عن تفاصيل النص بهذه الطريقة.

وطبعا في أمكنة أخرى - منها الكتلة الشرقية أو جنوب إفريقيا - تعتبر الرواية وسيطا ناقلا للأفكار على نحو فعلي. والرواي مجبر على أن يكون حاضرا مع أفكاره ومواقف شخصياته، ولا يمكن منحه أية خصوصية.  وتعمد الرقابة لتخريب خطوط الدفاع في أي رواية ومحاسبتها على المضمون المستتر. وعلى هذا الأساس تعاقب وتدين الكاتب. في مكان آخر قد لا تتدخل الرقابة وتفكك الأسلوب. وربما لا تعلم بوجود أصول للأسلوب. وشعار الفن للفن لا يعنيها على الإطلاق. وقد تكون آيات شيطانية عملا فنيا عظيما، وقد تكون النقوش على بلاط الأرض متقنة، ولكن كلاهما سياسة. ومبدأ التميز والنوايا الحسنة، وهو مبدأ اعتدنا على اللجوء إليه للدفاع عن العمل الفني المتهم، لن يفيد رواية رشدي، والمقصود هنا البلدان التي لا تقر بهذه الأساليب. في طهران لا يوجد غير الإحساس بالتآمر. وهي فكرة بديهية.. أن هناك مؤامرة دولية ضد الإسلام، ورشدي أحد "المرتزقة" المتورطين بها.

وإن كان لا يمكن التعبير عن أسلوبه فنيا، لا بد من استخدام لغة سياسية، ومن المستحيل أن تشعر بالارتياح لكلام السياسيين.

حينما أعربت الحكومة البريطانية عن تفهمها لاستفزاز المسلمين بهذه الرواية، فهي تقر بوجود اعتداء على بعض الثوابت. وهذا ليس قريبا من فهم طبيعة الاعتداء. وقد ذكرت رئيسة الوزراء أنه يجب على الأديان العظيمة أن تكون قوية بما يكفي لتتحمل الانتقادات، وكان بيانها خطيرا لأنه عريض ومتسع. بخلاف المسيحية الحديثة لا يتقبل الإسلام التسامح. ونظريا هو يؤمن بالعقيدتين المسيحية واليهودية، فهما من 'أهل الكتاب'، ولكن على الأقل لا تسمح المملكة بأي عبادة غير العبادات الإسلامية. وتعكس بذلك تعصبها ضد العالم الخارجي. ويجد المؤمنون في جدة صعوبة في تصور إخوانهم المتدينين وهم يؤمون المساجد بحرية في بريطانيا. ويبدون شكا واضحا بذلك، وإن كنت في بريطانيا يبدو الإسلام عقيدة تنظر لنفسها وتجرد أدوات ذاتية للحماية. وإن كنت في الشرق يبدو أنه شيء حيوي وعلني ونشيط.

ويمكن أن تقول نفس الشيء، قبل فترة غير بعيدة، عن المسيحية. إن لم نكن مستعدين للتفكير بتاريخنا، والدخول فيه قليلا، لا يمكننا أن نعلم ماذا يعني الكاتب المسلم حينما يناقش "المحنة الروحية والتعذيب". فالجاهل والعلماني لا يفهم الوحي الإلهي. والأصوليون حين يتطرقون للفكرة الحديثة والعملية والتي تدعو إلى أن تعيش وتسمح لغيرك أن يعيش، على أنها مقولة ميتة ولا يمكن قبولها.

في أول بضعة أيام بعد إصدار إيران فتوى القتل، أصبح الدعم الذي حاز عليه سلمان رشدي مؤثرا وبالأغلبية المطلقة. ولكننا معتادون على عدم استقرار النخبة ومناوراتهم، وحينما نقابل عدوا صلبا، ولا يبدو أن لديه أية إمكانية للتفاهم، سرعان ما نشكك بقضيتنا وقيمنا: وربما التهذيب مجرد أنقاض غربية. فالعودة إلى الوراء وتتبع التفاصيل أمر لا يسر .

لا يسر أحدا أن يسمع أن عضوا شابا في البرلمان قال مؤخرا إن "اثنين أو ثلاثة" من أصدقائه، أخبروه أن الرواية هي "من الدرجة الثانية". وأعلن أن رشدي كسب منها مبلغا طائلا، وعليه أن يتحمل نفقات حراسه الشخصيين: نحن لا نتوقع من المشرعين أن يقرأوا، ولكننا نتوقع منهم أن يميزوا بين المصاعب الخاصة نتيجة مشكلة شخصية، وبين مشكلة ذات علاقة بالرأي العام.

ومثلما أن ردة هؤلاء الذين يشككون بأصالة رشدي شيء غير سار، الدعوة لسحب الكتاب من السوق عمل غير مقبول. نحن ربما نفهم أن كتاب قصص الأطفال والقصص الاجتماعية الخفيفة والمسلية لن يعمدوا لتزكية الآيات الشيطانية. وبالتأكيظ حرية التعبير عن قناعاتهم مضمونة.

نعود إلى جدة، المرأة التي قرأت كتابا واحدا منذ يوم زواجها ذكرت في أحد الأيام ببلاغة تحسد عليها إن التعزية الوحيدة لمن يعيش في مجتمع عقائدي مؤمن، وفي مجتمع إسلامي متماسك - هو الإحساس بالأمان لدى المؤمنين، وعدم التعرض للقصف المستمر الذي تقوم به منظومة القيم الغريبة.

لكن المسلمين في بريطانيا يعيشون تحت هذا القصف. وعليهم أن يقبلوا به ويتعايشوا معه بأفضل صورة ممكنة. إنما لا يزال لعقيدتهم إمكانيات تسهل التعزية والسلوان، والقليل من النتائج الطيبة ستنبع من هذا الوضع المؤسف، لو أن الناطقين باسم المجتمع الإسلامي، بالإضافة للمسلمين المستنيرين والمثقفين، والذين ولا شك أقلقتهم واستفزتهم الفتوى الإيرانية، سيعملون على توضيح طرق السلوان لكل بريطاني مصاب بداء الشك والتعصب.

***

...................

* المقصود صور النساء في الإعلانات التجارية. وكانت صحف مصر الحكومية  منذ عام 2000 وحتى سقوط نظام مبارك تفعل نفس الشيء. وكانت توزع في حلب ودمشق بصور تحمل مستطيلات ومربعات سوداء تحجب أجزاء من جسم المرأة في الإعلان التجاري. وانتشرت في حلب قبل الأحداث الحالية إعلانات تروج لأناقة المسلمات، ولأناقة المحجبات، وتزامن ذلك مع اعتراض النساء بثياب أوروبية أو المرأة التي تقود سيارة. "هامش مترجم".

هيلاري مانتيل   Hilary Mantel

كاتبة بريطانية. حازت مرتين على البوكر عن روايتيها "قصر الذئب" و"أحضروا الجماعة". حصلت أيضا على جائزة والتر سكوت للرواية التاريخية عن آخر رواية لها وهي "المرآة والضوء". عاشت لفترة وجيزة في جنوب إفريقيا والسعودية وكتبت عن تلك التجربة مجموعة روايات ناقدة تلوم بها عدم قدرة المواطن الغربي على الاندماج بحضارة الآخرين، واختبائه وراء جدار العنصرية أو التكبر. تعتبر مانتيل من الأصوات اليسارية في شمال أوروبا. وهذا المقال منشور في كتابها الأخير "مقالات مانتيل". توفيت عن 70 عاما عام 2022 جراء أزمة قلبية مفاجئة.

في المثقف اليوم