شهادات ومذكرات

وداعا بهاء طاهر.. فارس الرواية العربية

في هدوء يرحل فارس الرواية العربيّة بهاء طاهر (13 يناير 1935 – 27 أكتوبر 2022) ، عن عمر يناهز السبعة والثمانين عاما، فقد كان روائيا رائدا ومجددا وثائرا .. مات بهاء طاهر  تاركا سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه، وهو ينتمى إلى جيل الستينيات، أيقونة مصرية تلمع فى سماء الأدب العربي، يُزيد الزمن من حكايتها تألُقًا، يكره القهر، قهر الإنسان بالفقر، وقهره بالخوف، وأهم من ذلك قهره بالجهل.. أن يعيش الإنسان ويموت دون أن يعرف أن فى الدنيا علمًا فاته.

ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى عالماً ومفكراً بالغ الصدق والنبل والنقاء، مثل بهاء طاهر؟! أي الكلمات لديها القدرة؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة الأدب قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أعرفهم من أساتذة الأدب بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

وقد قال عنه الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد عن بهاء طاهر: "عرفت بهاء قبل مجيئي من الأسكندرية إلى القاهرة من خلال إذاعة "البرنامج الثاني"، التي كان يخرج فيها، مسرحيات إذاعية، ويقدم برنامجا يذاع كل ثلاثاء، يقرأ عبره ما يتلقاه من كتابات الأدباء". ويضيف: " أرسلت له مقالا مترجما فقام بإذاعته، ومن خلال متابعتي له عرفت بعض الأدباء مثل محمد المنسي قنديل، وبعد فترة من الوقت أصبحت أشارك ببعض القصص، التي يتم تسجيلها للإذاعة نفسها، وكان هو، مع مجموعة من الكتاب الكبار مثل ممدوح حمدي وشوقي فهيم، يستقبلونني بحفاوة. وكنت أتقاضى عن القصة الواحدة 10 جنيهات، وكانت مبلغا كبيرا أنذاك، وكان ذلك فرصة لمزيد من التقارب بيننا ومزيد من اللقاءات".

كما قال عنه أخي الدكتور بهاء مزيد :" مات صاحب (قالت ضحى) و(شرق النخيل) و(الحبّ في المنفى) و(واحة الغروب) و(خالتي صفيّة والدّير). بيني وبينه وبين رواياته عشرة عمر. كتبت عن (خالتي صفيّة والدير) فحصلت على جائزة سعاد الصباح في النقد الأدبي 1994 وكتبت عن (الحبّ في المنفى) فحصلت على جائزة الشارقة في الإبداع العربي فرع النقد الأدبي 2001. عشت مع رواياته وقصصه القصيرة سنوات وسنوات أسمعه يقول "أنا الملك جئت" و"بالأمس حلمت بك" و"أكثر حقيقة من النّاس الحقيقيين". هذا الصعيدي الهاديء الطيّب المبدع التقيته مرّة واحدة في مقهى في وسط البلد. يومها أهداني رواياته، وقال لي "من زمان كان نفسي أشوفك". وأنا منذ سنوات كان "نفسي أشوفه"، لكنّ الشواغل والملهيات وتصاريف القدر حالت بيني وبينه، حتّى قرأت خبر وفاته اليوم.

وقد ولد بهاء طاهر في محافظة الجيزة في 13 يناير سنة 1935، عمل مترجمًا في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي 1956 و1957، وعمل مخرجًا للدراما ومذيعًا في إذاعة البرنامج الثاني الذي كان من مؤسسيه حتى عام 1975 حيث منع من الكتابة. بعد منعه من الكتابة ترك مصر وسافر في أفريقيا وآسيا حيث عمل مترجما. وعاش في جنيف بين عامي 1981 و1995 حيث عمل مترجما في الأمم المتحدة عاد بعدها إلى مصر حيث يعيش إلى الآن.

وقد تزامن شبابه وصباه مع قيام ثورة 23 يوليو(تموز) عام 1952، وكان طاهر من المؤيدين للثورة والمؤمنين بها. ورغم رفضه الدعاية لها، وانتقاده استبداد السلطة، وتأثره الشديد بنكسة 1967، ظل على احترامه للرئيس جمال عبد الناصر، في كل مرحلة من مراحل حياته. واستطاع عبر عمله في إذاعة "البرنامج الثاني"، أن يلعب دورا مهما على الصعيد الثقافي، فقدم الكثير من الكتابات الجادة والكتاب الجدد. واستمر رغم تغير الأنظمة على موقفه الرافض لقمع الحريات، مما عرضه للتنكيل خلال عهد الرئيس السادات، فاضطر الى الابتعاد عن مصر والتنقل بين أفريقيا وآسيا، حتى استقر به المقام في سويسرا، التي عمل في عاصمتها جينيف، مترجما لدى المقر الأوربي للأمم المتحدة، في الفترة من 1981 حتى 1995، وعاد بعدها أخرى إلى مصر.

وقد مرت حياة بهاء طاهر بعدة محطات ، فكانت المحطة الأولى: حصل على ليسانس الآداب فى التاريخ. ؟ المحطة الثانية: حصل على دبلومة الدراسات العليا فى الإعلام، والتاريخ الحديث فى نفس العام، عمل مخرجا للدراما، ومذيعًا فى البرنامج الثقافي.

المحطة الثالثة: سافر إلى جنيڤ ليعمل مترجمًا فى الأمم المتحدة. المحطة الرابعة: أصدر مجموعة قصصية بعنوان "بالأمس حلمت بك". المحطة الخامسة: أصدر روايتى شرق النخيل، وقالت ضحى المحطة السادسة :رواية خالتى صفية والدير. المحطة السابعة :حصل على جائزة أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عن رواية الحب فى المنفى. المحطة الثامنة: حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب. المحطة التاسعة فى مديح الرواية. المحطة العاشرة ترجمة رواية «واحة الغروب» للغة الصينية فى رسالة الماجستير لطالب صينى دون علمه.

وقد كان بهاء طاهر قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

ولم يكن بهاء طاهر ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأدباء، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم الأدباء، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

كما جمع بهاء طاهر في رواياته بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح الأدبي صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً .

وقد حاز بهاء طاهر جوائز عديدة خلال مسيرته الطويلة، ومنها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب، وجائزة غوزيبى أكيربى الإيطالية عن روايته "خالتى صفية والدير"، وجائزة "آلزياتور" الإيطالية عن روايته "الحب فى المنفى"، إضافة إلى الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عن روايته الأخيرة "واحة الغروب". ورغم كل هذه الجوائز كان طاهر يرى إن النجاح الحقيقي يكمن في رواج اعمال الكاتب لدى القراء، ولا يحققه له سوى حرص هؤلاء على قراءة اعماله. الجوائز لا تصنع قيمة لكاتب لم تصنعها له أعماله. وربما كانت الجائزة الكبرى التي فاز بها بهاء طاهر هي المحبة التي ترسخت له في القلوب. نشر الكاتب الإماراتي ورئيس اتحاد الكتاب الإماراتيين سلطان العميمي في فيسبوك: "رحيلك مر يا أستاذ بهاء طاهر، صدى روحك الدافئة مازال في الذاكرة" .

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأديب حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة لبهاء طاهر الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للأديب المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الأديب العظيم بهاء طاهر ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم