شهادات ومذكرات

ما قبل النشر (3): العراقيون بين رؤية المرجع الحكيم والدعوة

منذ عام ١٩٨٤ كنتُ ألتقي القائد الكبير صالح محمد الأديب رحمه الله لقاءً أسبوعياً، واستمر ذلك حتى عام ١٩٩٥ حيث تدهور وضعه الصحي في مرضه الذي توفي فيه. كان يتحدث في تلك اللقاءات عن تاريخ الدعوة وأجواء السياسة والمجتمع، إضافة الى مواضيع أخرى مختلفة عن شؤون العمل وقضاياه المختلفة.

في أحد تلك اللقاءات حدثني عن الظروف الصعبة التي كان يعيشها التحرك الإسلامي في مواجهة الحركة الشيوعية النشطة والقوية. واستشهد بحادثة وقعت مع المرجع الكبير السيد محسن الحكيم رحمه الله في تلك الفترة، حيث خطط الشيوعيون للاعتداء عليه أثناء زيارته لمرقد الإمام الحسين عليه السلام. لكن الدعاة تنبهوا للمخطط فأحاطوا بالسيد الحكيم وحموه من اعتداء الشيوعيين، وقد ارتقى السيد مرتضى القزويني المنبر ينادي في الناس ويدعوهم الى حماية مرجعهم.

يقول المرحوم صالح الأديب، أنه بعد تلك الحادثة جلس مع المرجع السيد الحكيم، يحدّثه عن نشاط حزب الدعوة وتوجهاته، فعرض عليه المرجع نصيحته بضرورة تقدير الظروف جيداً ومعرفة المجتمع على حقيقته. وكان مما قاله:

- إنني أعرف الناس جيداً، إنهم يتفاعلون معكم لأنهم يرونكم مستقيمين متدينين، لكنهم في ساعة الحسم والمواجهة ينفرطون عنكم وتبقون وحيدين.

وذكر المرجع الحكيم بأنه عاش التجربة معهم في الحرب العالمية الأولى وفي ثورة العشرين ورأى أن الاندفاع لا يطول وأن الحماس يفتر بسرعة.

حاول صالح الأديب أن يشرح للسيد الحكيم تغيّر الظروف السياسية والاجتماعية عن السابق، وأن المجتمع العراقي في تلك الفترة يختلف عن وضعه الحالي، وأن الوعي قد تنامى وتبدلت أوضاع البلد السياسية، لكن السيد محسن الحكيم لم يقتنع بكلامه.

كنتُ استمع الى المرحوم الأديب باهتمام وهو يروي تلك الواقعة وحواره مع مرجع الشيعة الأعلى، وفي داخلي تتشكل علامات استفهام عن تقييم السيد الحكيم للمجتمع العراقي، وأتساءل بصمت: كيف لرجل مثله عاش تجربة الجهاد البطولي ضد الاحتلال الأجنبي للعراق في الحرب العالمية الأولى وشارك مع كتائب المجاهدين في خطوط القتال، يخرج بهذه النظرة المتشائمة عن الشعب العراقي؟

كان الحماس الثوري يشتعل بصدري مستغرباً من موقف المرجع الشيعي الذي ذاع صيته في الآفاق وبلغ القمة العليا في زمانه، ومن نظرته للتحرك السياسي والجماهيري. كانت نظرة القداسة تجول بداخلي باحثة عن التبرير، لكنها ترتد خائبة ومعها خيوط من الإدانة للمرجع الكبير بأنه لم يعش تطورات المجتمع السياسية. وكان لابد أن أكتم مشاعري وأحرق خيوط الإدانة بسرعة فائقة، فهذا مرجع الشيعة، والنقد هنا ينقطع لسانه.

سنين طويلة مرت على ذلك التاريخ، حتى أوصلتني الى قناعة معاكسة لما كنت عليه في تلك الفترة. لقد كان المرجع الحكيم صاحب نظرة عميقة لطبيعة المجتمع العراقي، لم يكن رجلاً انفعالياً يضع عقله تحت عاطفته، إنما يزن الأمور بواقعية التجربة والفهم الميداني.

كنا معزولين عن المجتمع من حيث التقييم. كنا نقرأه من خلال النشرة الحزبية، وننظر اليه من خلال المفهوم الحزبي، ونعيش العُجب بالذات بأكثر من قدراتها الحقيقية.

وكان الذي يحجب النظرة الواقعية، الحماس المتفجر، والإخلاص الخارق للعمل والتضحية. كان الدعاة اسطورة ملحمية على البطولة والتحدي والصمود في مواجهة أعتى نظام قمعي شهده التاريخ. شباب ورجال نادر البطولة والتضحية سار على طريقٍ شقته تقديرات نظرية، ومفاهيم بعيدة عن الواقع فكانت الخسائر جسيمة لا تعوّض.

***

سليم الحسني

في المثقف اليوم