شهادات ومذكرات

هذا أبي

نظلم آباءَنا مرّتيْن؛ مرّة حين لا نقدّر نفاسةَ نصائحهم لنا إلّا بعد أن نَـكبُر ونُنجِب، ومرّة حين يرحلون ونتوانى في رثائهم إلى حين. والحقّ أنّ الأعذار إنْ غابت في المَظْلَمة الأُولى، فلن نعدمها في الثانية؛ لأنّ صدمة رحيل الأحبّة قد تعقل لسان القلم وتلجمه، وكثرة مآثرهم قد تزدحم في الذهن وتصطخب حتى لا تجد لها مَنفذا، وشدّة القرب على عكس ما يعتقد البعض قد تصبح حاجزا أمام البوح وحجابا عن التعبير، وساعتها يصبح الصمت خير معبِّر عمّا في الأحداق من عَبَرات وما في الصدور من زفَرات، ومع هذا يبقى "رثاءُ الأبِ ديْنٌ أيُّ ديْن" على قول أمير الشعراء شوقي، وتبقى مقولة: "أن تأتي متأخّرا خيرا من أن لا تأتي أبدا" صالحة للاستشهاد.

رحل أبي –وليس في الناس كأبي- ظُهر السادس من مايو عام 2014 إثر أزمة قلبية حادّة، فاضت على أثرها روحُه إلى بارئها في دقائق معدودات، وعلى قدر ما كانت هذه النهاية المباغِتة صدمةً مروّعة وضربةً للظهر قاصمة، إلّا أنني واثق من أنه كان مرتاحا لذلك، لأنه عايش جدّي رحمة الله عليه طريح الفراش لسنوات جرّاء جلطة دماغية جعلتْه في حاجة على مدار الساعة إلى مَن يطعمه ويسقيه ويحمّمه ويمرّضه، وعلى أثرها تَمنّى الوالد أن يموت واقفا كشجرة السنديان ولا يهزمه المرض بهذه الصورة المفجِعة، ويظلّ على العهد جبلا أشمّ يأنف أن يكون محطّ شفقة، ويكره أن يكون كَلًّا على غيره حتى لو كان هذا الغير أعزّ أبنائه وأحنّ بناته.

قاسى رحمة الله عليه من طفولةٍ  بائسة، وأكثر ما قاساه كان حرمانه من تعليمٍ شغف به وطمح إلى استكماله حتى أقصاه، فبعد سنوات قلائل نال فيها إعجاب مدرّسيه وتنبّأوا له بمستقبل باهر وقتما كان التعليم قليلا والباب على مصراعيه مفتوحا للأذكياء أمثاله، إذْ بجدّي رحمة الله عليه يضنّ به على مدرسة لا تنتج قمحا ولا تدرّ حليبا على حدّ تفكيره، ويجود به للعمل في فلاحة الأرض واكتساب القرش والقرشين باعتباره أكبر أولاده ولا بدّ له من دفع النصيب الأوفر في مجابهة سنين داجية ملؤها الفقر والجهل والمرض. وعبثًا حاول المدرّسون إثناءَه عن ذلك تارةً بالترغيب عبر الإغراء بتوفير ما يلزمه من أدوات مدرسية وملبس، وتارةً بالترهيب عبر مَحاضر رسمية يدفع بموجبها غرامة مالية، ولكنه ركب رأسه ومضى في طريقه غير آبه، يتلقّى المَحضر بصدر رحب وعصَب بارد فينقدهم غرامةً تساوي أجرة نصف يوم ويستعين بالنصف الثاني على إعالة أسرة ضخمة على عادة القوم آنئذ.

وضمن مسلسل القسوة ذاتها، لم تكتف الخدمةُ العسكرية الإجبارية بثلاث سنوات اقتطعتْها من بواكير شبابه وقذفَت به في أتون حرب أهلية يمنية اندلعت في ستينات القرن الماضي لثمان سنوات وكانت للجيش المصري كفيتنام للجيش الأمريكي، بل استدعتْه في نكبة 67 ثمّ أعادت الكَرّة قبيْل 73 ضمن خطة التمويه التي أعدّها الداهية أنور السادات ورفاقه، ولا ريب أن هذه الخدمة العسكريّة شبه الممتدّة كان لها بالغ الأثر في بناء شخصيته الجَلْدة الأَبِيّة المُشِعّة بالأمان والزاخرة بالعطاء. زِد على ذلك رصيدا إضافيا من خبرة الحياة اكتسبها إبّان اغترابه في العراق والعمل به أيام سمْن دجلة وعسل الفرات.

ولا أخفيكم سرّا، أنّ سؤالًا عن تكلفة بيت بنيتُه أو ثمن أرض اشتريتُها أو حتى مصاريف زواجي، لن تجد له جوابا سوى في ذاكرته المرتَّبة كذاكرة حاسوب، وفي أوراق له محفوظة يخطّ بها كلّ شاردة وواردة؛ إذ كان خير من أُسلّم إليه مفاتيحي وأُودعه سرّي، ليس لأنه الأب  فقط والابن ملْك أبيه وغرْس يديه، ولكن لحكمته وحنكته وخبرته، وكيف لا؟ وهو الذي يصدّره الناس في مجالسهم ويقصدونه في حوائجهم ويحلّون بين يديه مشاكلهم، فيُوَكِّلونه في زواج ويُشهدونه على اتفاق ويَشتري لهم ويبيع ويَستشيرونه فيشير، ولا زالت الحقيبة الرمادية الضخمة تحت سريره شاهدة على فيض من الودائع المحفوظة لديه؛ وثائق زواج، قوائم منقولات، عقود بيع وشراء، إيصالات أمانة، إضافة إلى أموال بالعملات المحلية، وأخرى بالدولار لمغتربين دأبوا على تحويل ما يدّخرونه إليه، ومنه إلى زوجاتهم الأمّيات اللائي لا يعرفْن الفرق بين الدولار والسولار، بل إنّ بعض السيّدات كانت تُودعه ذهبها لحفظه بعيدا عن يد زوج منفلِت تخشى أن تمتدّ يده لبيعه عند أوّل نازلة!

كم من مواقف باهرة تدلّل على بذله أقصى الجهد ليعبر بي إلى نجاحات أدين له بها ما حييت، منها ما لم أطّلع عليه بحكم طبيعته الوَقورة الكَتومة، ومنها ما اطّلعت عليه عبر أقرباء اعتبروه مثلا يُحتذى وراحوا يروون عنه على سبيل المدح والفخر معا؛ كذاك اليوم الذي غرّد فيه قلبُه إثر تفوّقي في الثانوية العامة، وراح يزفّ الخبر بعيون رطبة لامعة إلى أحد الأطباء من أقرانه، ولمّا أشفق هذا الطبيب على حالتنا المادية غير الميسورة ونصحه بإدخالي كلية الصيدلة والابتعاد عن طريق الطب، بحجّة أن طريقه طويل ومكلِّف، إذْ به يطوي أسفا شديدا بين جوانحه ويردّ بصرامته المعروفة: سأُدخله الطب ولو اقتضى ذلك بيع ما ألبسه من جلباب! وقد وفّى في ذلك وكفّى وهو العصامي المُعتدّ بذاته الذي شمّر عن الساق والذراع، وشقّ الأرض بالفأس والمحراث، وكلّ مُناه أن يرى بَنِيه زرعًا يانعًا يَكبر ويُزهر ويُثمر أمام ناظريه.

ربّما لم يوجّه إليّ يوما نصيحةً مباشرة أو وصيّةً مجرَّدة، على طريقة: افعل ولا تفعل، وحذار وإيّاك، ولكنه كالعظماء والوجهاء لم يألُ جهدا في إزجاء الوصية تلو الوصية والنصيحة وراء النصيحة ولكن بطريق القدوة العمليّة؛ فعلّمني أن الرجولة مسئولية، والاحترام أكثر ما يزين الرجال، وصلة الرحم كالماء والهواء، والطموح لا يحدّه حدّ، وعزّة النفْس أغلى ما يكنزه المرء، واللفّ والدوران حيلة العاجز المِهذار، والإمّعات والمتملِّقين هم أخسّ أصناف العبيد.

 كلّما أمسكْت بأوراق نقدية لأحصيها، تذكّرْتُني صبيًّا يوم وضع رزمة من الجنيهات بين أناملي، وعلّمني كيف أعدّها بيسر وسرعة تنافس عدّادة النقود في البنوك. وكلّما نقرْت بأصابعي على آلة حاسبة تذكّرْتُه يوم يبيع الأرز فيمليني الموازين وسعر الطنّ، وقبل أن أظفر بالنتيجة بعد جهد يكون قد تحصّل عليها في ذهنه دون ورقة وقلم. وكلّما حانت منّي التفاتة إلى الهدايا التي في حوزتي، لم أجد أثمن من تفسير الجلاليْن الذي جلبه إليّ على كتفه من بغداد.

 وما من مناسبة عائلية كبرى مرّت بي إلّا ودمعَت عيناي لغياب هامته العالية وقامته المَهيبة وصوته المجلجِل وحضوره الأخّاذ، وتمنّيت لو أمهله القدر ليزوّج أولادي ويرى أحفادي وتقرّ بهم عينُه، ولأضع بين يديه كتبي التي أهديتُه واحدا منها، ولأسافر معه إلى بلاد العالَم شرقا وغربا، ولكن إرادة الله غالبة وكفاه سبحانه فضلا أن أكرمه بحجّ بيته الحرام وملازمة المسجد ومزاولة الكثير من أعمال البرّ في سنواته الأخيرة.

والحقّ أنّ الأسى أحيانا يعضّني بأشرس أنيابه وينشب مخالبه في أعمق أحشائي؛ لأنّي قضيتُ شطرا كبيرا من عمري مغتربا عنه ففاتني خدمته حين في السنّ طَعَن، ولم أحمْل نعشه حين إلى القبر ظَعَن ، بل ولم أتمكّن من زيارة قبره إلى الآن رغم مضيّ السنين الطوال! وعذري وعزائي بأنّ هذه الغربة المؤلمة وتوابعها المريرة لم تكن باختياري، وهو على ذلك من الشاهدين بل والناصحين، والحمد لله أن جعل في الدعاء والصدقة متنفَّسا نجبر بهما ما انكسر ونعوّض بهما ما فات، ولعلّ الله جلّ في علاه يحشرنا سويّا في جنة النّعيم على الأرائك متكئين وإلى وجهه الكريم سبحانه ناظرين هانئين.

والعجيب –وكل خلْق اللهُ عجيب- أن الموت قد يفتح لنا أفقا جديدا فيمن نحبهم ويُرينا ما كنّا عنه غافلين حال حياتهم، ومن ذلك أني لم أنتبه إلى جمالية اسمه (لطفي) سوى بعد رحيله، فهو اسم عربي أصيل مشتقّ من اللُّطف، ويحمل معنى الرأفة والرقّة والدقّة، ولكن لتفرّده وتميّزه وثاقب نظرته رحمه الله، لم يكن لطفه ورأفته من النوع الليّن الرخو الذي يصنع رجالا من خزف ينكسرون عند أوّل عثرة، بل من النوع الجادّ الصارم الذي يصنع رجالا من ذهب يصمدون أمام الحرّ والقرّ ويجتازون الوِهاد والأطواد، وذلك على طريقة: "ومَن يَكُ حازمًا.. فليقْسُ أحيانًا على مَن يَرحمِ".

رحمك الله يا أبي، وأذاقك في الجنة من النعيم بقدر ما في الدنيا تعبت وشقيت، وإنّا وإيّاك على الموعد في الفردوس الأعلى إن شاء رب العالمين الرحيم الودود ذو الكرم والجُود.

***

د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

 

في المثقف اليوم