شهادات ومذكرات

مصارع المبدعين.. من عادل كامل إلى ذاك الفتى المجهول

يُظهر لنا التاريخ الادبي الإبداعي أنه يوجد هناك أناس يبرزون في موضوع ما وتسجل اسماؤهم بحروف من ذهب وماس، وفي المقابل يوجد هناك أناس/ مبدعون يبذلون ويقدّمون محاولات جديدة وجادة، غير أنهم لهذا السبب أو ذاك، يمضون في فترة ما من العمر في طريق المجهول، متحسرين على ما فاتهم وما بات ذكرى دافئة، لكن غير متحققة على أرض الواقع، من هؤلاء الكاتب العربي المصري عادل كامل وذاك الفتى المجهول من أصدقائي/ أحتفظ باسمه تحسبًا وتقية.

أما الكاتب عادل كامل (1916- 2005)، فهو كاتب مصري عربي.. روائي كتب القصة القصية والمسرحية أيضًا، ويُذكر له أنه تقدّم عام 1943 إلى مسابقة مجمع اللغة العربية بروايته "ملك من شعاع"، فيما تقدم نجيب محفوظ بروايته "كفاح طيبة"، وجاءت النتيجة في حينها ليفوز عادل كامل بالجائزة الأولى في تلك المسابقة، في حين فاز نجيب محفوظ بالجائزة الثانية!!، وقد اعتزل عادل كامل فيما بعد، في اعقاب رفض مجمع اللغة العربية ذاته روايته "مليم الأكبر"، بالضبط كما فعل مع رواية "السراب" لنجيب محفوظ. عادل كامل توقف فترة مديدة من الزمن لمعاودة الكتابة والنشر، وقد نشرت له دار الهلال عام 1993 روايتي "الحل والربط" و"مناوشة على الحدود" في كتاب واحد حمل اسم "الحل والربط"، غير أن هذا الكتاب الروائي لم يُحقّق لصاحبه ما صبا إليه، فعاد إلى نوامه السابق، فيما واصل نجيب محفوظ رحلته مع الابداع الروائي، فراح يُصدر الرواية تلو الروية مما أهّله للتربع على عرش الرواية العربية وأوصله بالتالي إلى أرفع الجوائز، وأثمن الاوسمة. لقد أصدر عادل كامل، بصورة متقطعة، عددًا من المؤلفات هي: مسرحية ويك عنتر ويك تحتمس.. قصص قصيرة ضباب ورماد، غير أن هذه الاعمال الأدبية لم تُحقّق له ما سعى إليه وهدف، فعاش على ما بدا صمته القاتل حتى أخريات أيامه. أما زميله في الكتابة نجيب محفوظ، فقد قال عنه إنه "في طليعة كتاب جيلنا بغير جدال".

يطرح هنا السؤال: ما الذي يجعل كاتبًا يتفوّق على ذاته وكبريائه وربّما حاجته المعيشة اليومية كما هو الامر مع ذلك الفتى المجهول؟.. من نظرة متفحّصة يتبيّن لنا أن الكبرياء، وربما عدم الشغف، هما ما قضى على تواصل الابداعات الروائية لعادل كامل، وهو ما تسبّب في صعود نجم زميله نجيب محفوظ، وفي المقابل في هبوط نجمه. فما هو السبب في هبوط وانخفاض نجم صديقي ذاك الفتى المجهول؟.. للإجابة على هذا السؤال سأعود إلى أبداعات هذا المذكور، بل إلى حياته التي ارتكزت عليها تلك الابداعات، فقد ابتدأ المقصود حياة صعبة قاسية مع والدين أم رومانسية الهوى وأب واقعي المشرب، وأتصور أن الخلاف دبّ بين هذين المتنافضين، هوى ومشربًا، وأنهما التقيا في حافلة، فنزلت الأم ممسكة بيد ابنها فيما لحق بها الاب في اللحظة الأخيرة ليمسك بيد ابنه الأخرى، وليشدّ كلٌ منهما من ناحيته فيما تتأهب الحافلة للانطلاق. تلك اللحظة الصاعقة تركت آثارًا على الابن الممزق المكلوم، وكان أن غرست في أعماقه بذرة الابداع وربّما أحيتها، فمثل هذه البذرة موجودة وقائمة في كل واحد من إخواننا بني البشر، كما يُجمع العديد من الدراسات، ويمضي الوقت ليجد ذلك الفتى، ذاته واقفا على منصة الابداع المسرحي، مشاركًا في تمثيل العديد من المسرحيات، ومتألقًا بصوته الجهوري الأجش.. وتشاء الظروف أن يرتبط ذاك الفتى الذي اضحى شابًا بصبية اختارها قلبه، فينصرف عن التمثيل المسرحي، ليتعلّم مهنة تدرّ عليه دخلًا محترًما وليسجل بالتالي النجاح المادي تلو النجاح، هكذا يبات لديه كل ما يهفو إليه كثرٌ آخرون.. الأرض.. البيت والحديقة الغناء. ويمضي ذاك الفتى في دروب الحياة وشعابها ساهيًا عن حلمه ومؤجلًا إياه عشرًا من السنوات تليها عشر.. إلى أن يرفع رأسه وهو في السبعينيات من العمر. في هذه السن وبعد كل تلك النجاحات المادية، تستفيق روحه لتجد ذاتها وقد حقّقت كلَّ ما أرادته وتمنّته، باستثناء حلمها الأول والاهم، وهو التمثيل المسرحي. عندها يعود متخبطًا مرتبكًا ليصل ماضيًا انقطع بحاضر تواصل غير عابئ به وبأحلامه الصغيرة، فيطرق كل ما يأتي في طريقه من أبوابـ ابتداءً بأبواب العديد من المسارح، ودور الإنتاج السينمائي، إنتهاء بأبواب الانتاجات التلفزية، وهكذا يفلح مرة ويتخيب أمله مرات، إلى أن يطرق المرض اللعين بابه، فيسألني إذا متّ هل ستكتب عني. فأصمت وأبتلع ما عزمت على طرحه والرد به من كلام، مفكرًا فيما يمكنني أن أفعله ردًا على سؤاله ذاك. وها أنذا أفكر في الكتابة عنه تخوفًا وتقية، متذكرًا تجربة كبيرة في حياتنا العربية هي تجربة عادل كامل الخائبة في مقابل تجربة نجيب محفوظ الفالحة.

السؤال الذي يفرض ذاته في مثل هكذا وضع، ما السبب في خبو نجم وتألق آخر في سماء الابداع عامة؟.. لماذا يواصل البعض المُضي في طريقه الشائك العصي، فيما يتوقف البعض الآخر رغم حضور الموهبة والجاهزية؟.. ثم هل تعلو الموهبة وترتفع فوق كل المصاعب والمعوّقات كما تقول لنا معظم السير وجُلّ الكتابات حول عظماء الابداع ونجومهم؟ وهل يُفترض بالمبدع الحقيقي أن يندفع على جسر التعب غير عابئ بأي معوّق حتى يصل إلى الراحة الكبرى؟.. أجيبوا انتم ولا تنسوا أن الشغف المجنون يصنع المعجزات.. بالضبط كما يفعل المحبون عندما يصلون إلى مصارعهم.. أو حافتها.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم