شهادات ومذكرات

رؤوساء في مملكة الشعر (1): ليوبولد سنغور (السنغال)

يصعب قبول الفكرة التي تقول ان الشهرة هي التي دفعت الرؤساء نحو الكتابة، بأجناسها المتعددة (الرواية، الشعر، السيرة) وغيرها من أجناس الأدب، هناك بعض أمثلة لرؤساء دول طرقوا أبواب الكتابة، اختاروا الشعر منها، السؤال : ما الإغراء الذي تحققه الكتابة لعالم المشاهير؟ وما الغاية التي  يحققها هؤلاء في كتابات تبدو في أفضل حالاتها، لا ترتقي فنياً الى المستوى الشعري العالمي، أو تصنف ضمن تجاربه المهمة؟ هل وجد أولئك في الشعر بوابة سهلة في خوض مغامرة الشعر للعبور نحو المجد؟ أم أن الأمر يتصل بمسلمات ومنطلقات دالّة على هويات خاصة.

ان شخصيات مثل هوشي منه، وماو تسي تونغ، وسنغور على درجة من الاهمية في التاريخ الانساني الوطني، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا في الفكر والممارسة، لكنهم أثاروا فينا فاعلية الجدل، واقتحام القناعات المزروعة فينا، وجدوا سبيلهم للتعبير عن عالم أكثر انسانية، في مواجهة جحيم الحياة، من خلال الشعر، كانوا شعراء أصلاً فارادوا ان يكتبوا تاريخهم شعراً.

محاولة تتبع من هذا النوع، تدعو لتفحص العالم الشعري لدى هؤلاء وما يحمله من اشكال للوعي وتداعيات لديه، ويمكن العودة الى تفحص تمهيدي لحوار محتمل بين الشعر وعالم السياسة بوصفهما ممثلين لثقافتين مختلفتين، ومن الانصاف القول ان هؤلاء (الرؤساء) لم يرد في خاطرهم ان شعر المقاومة ضد المحتل الاجنبي سيقودهم الى سدة الرئاسة في بلدانهم، انما الشعر كان قادراً على امتصاص رحيق الكارثة ومقاومتها في حينها، كان الذيوع والانتشار يعود للشعر ذاته، يحمل حرارة الانفعال في الأحداث المفصلية في تاريخ الشعوب، وهكذا كانت الفرصة مواتية للشعراء، أن يقولوا ما لا تستطيع قوله البندقية، واكتشف الشعراء أن فنهم يكاد يحمل خصوصية الهرب من سطوة الرقابة والبوليس لتصل قصائدهم إلى آذان الجمهور وأفئدتهم. كانوا نماذج مكتنزة بالمعرفة والرؤى.

أهم هذه الشخصيات الثلاث وأكثرها حضوراً متميزاً التي نتناولها في الدراسة هي شخصية الشاعر (الرئيس) سنغور إذ تحمل قصيدته معاني عديدة تقدم للإنسان معرفة لا تضارعها معرفة، لا يستطيع أن يوفرها علم آخر لأنها وحدها تحلق فوق الواقع، انها انشودة الأسرة والوطن والصداقة والحب واللامرئيات، وسنغور من خلال أشعاره وكفاحه السياسي أراد أن يفعل الكثير ليحرر شعبه ويرد اليه وعيه بماضيه وعظمته وان يلهب في الوقت نفسه مشاعر التقدير والتعاطف والاعجاب عند اولئك الذين لا يعرفون أفريقيا، أو الذين لا يعرفون عنها سوى أفكار واهمة.

حياة الشاعر سنغور (1906-2001) حافلة بالأحداث والمفاجآت، فالطفل المتسكع المتمرد على ظروف الرفاه والبذخ أصبح أول رئيس للسنغال عام 1960ثم أعلن تخليه عن الحكم طواعية عام 1980، ولد سنغور في وسط عائلة ميسورة، أبوه كان تاجراً، الا انه تعاطف مع فقراء السنغال، مما عرضه لعقاب أبيه، تلقى تعليمه في المدارس الكنسية الفرنسية بالسنغال، ثم انتقل عام 1928 الى العاصمة الفرنسية ونال شهادة الليسانس من جامعة السوربون برسالة عن (الجنس عند بودلير)، صدر له عام 1948 ديوان شعري (ظلال سوداء)، قصائد عن الحرب والأسر، كما صدر له كتاب (الشعر المالاغاشي) الذي كتب سارتر مقدمته، في عام 1958صدر له ديوان (الأثيوبيات)، وديوان المسائيات عام 1961،ومنح درجة الدكتوراه الشرقية من جامعة السوربون.

فضلاً عن ذلك كان سنغور واحداً من كبار زعماء افريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين، اتسمت الحياة السياسية في عهده بالاستقرار، وتبني التعددية الحزبية في العمل السياسي في الاتجاه نحو اليسار والليبرالية.

القصيدة عند سنغور تضم حشداً من الصور اللامعة، تتراءى أحياناً هادئة وتتلاحق مثل نهر يتموج ماؤه في ضوء القمر، صور متزاحمة ولمّاحة دائماً، مهمتها أن تؤدي الى معنى خفي عميق، الطبيعة كلها، وخاصة الطبيعة الأفريقية مدعوة في القصيدة لخدمة الرمز.

ليست القصيدة السنغورية نسيجاً من الصور فحسب، بل ان أبرز ما فيها إيقاعها، وفي دراسة له عن سان جان بيرس، يعترف بأنه انسان سمعي، تثيره القصيدة في ايقاعها الشعري وموسيقاها، الصورة برأيه بدون ايقاع تفقد قيمتها الشعرية، وهو كأفريقي، يتمتع بحساسية مفرطة للايقاع وتنوعاته الدقيقة، ايقاع القلب والدم والشهيق والزفير والليل والنهار والموت والميلاد.

الكلمة أساس الايقاع في شعر سنغور، انها ليست جوفاء بل من ماء ودم، أشعاره تحفل بكلمات تشير الى مظاهر الطبيعة التي طالما عاش الافريقي في صراع معها منذ فجر التاريخ. في اشعاره تتردد كلمات بعينها (الماء)، المتدفق الذي يجلب معه الحياة، ثم (الريح) التي تثير العواصف وتشيع الخوف، و(الليل) الساحر الذي يبعث على السكينة، وكلمات اخرى: الدم، الأيدي، العيون، الصوت، والأصوات في شعره تتعدد وتتنوع، منها ما هو مدوّي، ومنها ما يهمس ويتمتم، وأصوات النائحين، والمحاربين، وغيرها لتكشف جميعاً عن سر الوجود.

تتمتع لغة سنغور بوفرة محصوله اللغوي وثرائه وبساطته، وكلماته جديرة حقاً بالاختيار والانتقاء، واذا كان الايقاع عند سنغور عنصراً جوهرياً في بناء قصيدته، فانه لا يضحي بموسيقية الشعر في سبيل الايقاع، فاذا كان الزنجي يُرقص حياته فمن المؤكد انه يغنيها أيضاً.

سنغور يتمتع بحساسيةفائقة للموسيقى التي لا تنفصل بحال عن مظاهر النشاط الاجتماعي الأفريقي كافة، منذ أقدم العصور، ليست الموسيقى نشاطاً جمالياً بسيطاً، بل هي قادرة على محاكاة الطبيعة، حافلة بالأصوات والضوضاء، وهذا هو الجديد الذي أضافته الموسيقى الأفريقية الى تراث الموسيقى العالمية.

الشاعر مدين بلا شك الى سني طفولته التي أمضاها في الغابة والحقول مخالطاً الفلاحين، مصغياً لأناشيدهم وتراتيلهم وأساطيرهم التي تتحدث عن عالم مدهش غير منظور، عالم أسرار الروح الافريقية التي عبّر عنها أصدق تعبير في أشعاره، يشدّه وثاق سحري اليه:

أيها الموتى يا من أبيتم أن تموتوا وعرفتم تحدي الموت/

حتى في السي، في السين، في عروقي الرقيقة، ودمي الذي لا يفنى/

له قصيدة مشهورة بعنوان (صلاة للاقنعة) يقول فيها:

يا اقنعة يا اقنعة!

احييك في صمت/ لست انت الآخر، جد ذو رأس أسد/

أنت حارس هذا المكان من كل ضحكة. امرأة وابتسامة فاترة/ الافريقي يعيش في شركة أليفة مع الموتى، ويصغي لصوتهم الحي.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم