شهادات ومذكرات

كيف تتحول الأفكار في ثقافتنا إلى عقائد لا يُمكن المساس بها؟

تعدّ الفكرة حينًا ما، كافرة تُحرّم وتُحارب‏، ثم تُصبح مع الزمن مذهبًا،‏ بل عقيدةً وإصلاحًا تخطو به الحياة خطوةً الي الأمام‏.‏ إنّها سنّة الحياة المطردة المتكرّرة في حياة الفكر الإنساني عامة‏،‏ وفي حياة الفكر الديني بصفة خاصة‏”(1)

كثيرة في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية، ولكنها تحوّلت بفضل التكرار والترديد إلى عقائد لا يُمكن المساس بها، منها ما انكشف زيفه عندما اقتربنا منه، ومنها ما فشلنا في تعرية تاريخيته وتقديم قراءة حضارية له، فعادت الكثير من مسائل الفكر الإسلامي إلى منطقة الظلّ بعيدا عن المراجعة المعرفية.

فحتّى أربعينات القرن العشرين.. كانت ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى من المحرمات التي لا يجوز اقترافها؛ لأنّها من منظور رجال الدين حينها تفتح بابًا للتحريف، وهذا يُفسّر إحجام المسلمين عن ترجمة القرآن الكريم، متهمين ترجمات غيرهم بأنّها محاولات فاشلة للنيل من كتاب الإسلام الذي تكفّل الله بحفظه، وبالغ بعضهم فأوجب على من أراد الدخول في الإسلام أن يتعلّم العربية، وأن يترك لغته.

ففي الوقت الذي بدأ غير المسلمين ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية أوائل القرن الحادي عشر الميلادي – تأخر المسلمون في الدخول إلى هذا الميدان حتى منتصف القرن العشرين، هكذا تحوّلتْ فكرة تحريم الترجمة بكثرة التكرار والشيوع حينذاك إلى عقيدة مقدّسة يجب حمايتها حتى سنة ١٣٥١هـ -١٩٣٢، عندما أعاد الشيخ محمد مصطفى المراغي (١٢٩٨ – ١٣٦٤هـ / ١٨٨١ – ١٩٤٥م) تلك المسلّمة إلى دائرة التفكير مرة أخرى، فأثار جدلا حول القضية بمقالٍ تحدّث فيه عن إمكانية ترجمة القرآن الكريم وجواز الصلاة بغير العربية، مستندا إلى اجتهادات تراثية منها أقوال أصحاب أبي حنيفة.

لم يكتف الشيخ بذلك، بل دعا إلى تشكيل لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وهذا ما أثار حفيظة التيارات الجامدة المناوئة لإصلاحات الرجل، فاتّهموا الشيخ المراغي بأنّه يسعى إلى تحريف القرآن الكريم، ما دفعه إلى الاستقالة من مشيخة الجامع الأزهر، ليخلفه الشيخ الظواهري الذي عقّب على دعوة المراغي بقوله: “إن الله قد أعمي بصيرته حين دعا إلى ترجمة القرآن الكريم… وأن الله قدّر إقالته من المشيخة؛ حتى يحفظ القرآن الكريم من خطأ الترجمة”. غير أن الشيخ المراغي لم يبال باتهامات الجامدين من رجال الدين، وتوسّع في التأصيل لفكرة الترجمة والتأكيد على ضرورتها، فعاد مرة أخرى إلى الموضوع بكتاب بعُنوان “بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم وأحكامها” الذي صدر عن دار الكتاب الجديد في أول يناير ١٩٣٦، وأوضح فيه أنّ القرآن الكريم كلام الله المنزّل على محمد – عليه الصلاة والسلام – باللسان العربي، للتبليغ والإعجاز، فذلك يعني أنّ له جهتين؛ جهة مقصودة وهي المعاني، وأخرى دليل صدق النبيّ، وهي النظم، فالإعجاز لازم من لوازم النظم، وليس من لوازم المعنى، وأن التبليغ والبيان يقتضي ترجمة المعاني، وأنّه لا علاقة بين الترجمة، والتحريف الذي حذّر منه القرآن الكريم؛ لأنّ الترجمة لا تنفي بقاء النصّ القرآني في نظمه العربي، فكيف تفتح عليه الترجمة باب الفساد!

لم تلق دراسة الشيخ حينها قبولا في الأوساط الدينية، وتجاهلتها السلطة السياسية متمثلة في القصر، فيكشف وزير المعارف محمد علي علوبه في مذكراته كيف أنّ قبول فكرة ترجمة القرآن الكريم لم تكن بالأمر الهين، فيروى أنّه بعد اختياره وزيرا للمعارف في وزارة على ماهر٣٠ يناير ١٩٣٦عرض على الملك فؤاد ضرورة ترجمة القرآن الكريم، فرفض الملك، وقال له “إنّ شيخ الأزهر الشيخ مصطفى المراغي سبق وعرض عليه الفكرة، إلا أنّه لم يقبلها؛ اتقاء مجاهرة رجال الأزهر بأمر يرون فيه مخالفة للدين”.

مضت السنوات وأمام تطورات الواقع وبفعل حركة المجتمع خلعت تدريجيا فكرة “تحريم الترجمة” ثوب القداسة، وعاد ما كان يُظنّ أنّه عقيدة إلى حقيقته كفكرة قابلة؛ لأن نختلف حولها، ونناقش مدى حاجتنا إليها، وأفضل السُبل لتطبيقها، فأُقِـــرَّت الترجمة، وقبِل المسلمون بعد عقود فكرة تداول تراجم القرآن الكريم، وقدّم المسلمون خلال خمسين عاما عشرات الترجمات لمعاني القرآن الكريم، وأمست صلاة التراويح في الحرمين الشريفين تُترجم فوريا إلى مختلف لغات العالم.

كذلك كثيرا ما يبدأ الخطاب الديني من نقطة يخلط فيها بين العادة الاجتماعية والشعيرة الدينية، ففكرة ارتداء “البدلة” من الأفكار التي لاقت تأثيما من رجال الدين حينًا من الزمن؛ لأنّها زيّ غير المسلمين الواجب مخالفتهم، وعندما أفتى الشيخ محمد عبده بجواز التزيّ بزيهم (البدلة)، في محاولة منه للملاءمة بين رُوح الإسلام ومطالب المدنية الحديثة – اتّهم الشيخ في دينه، واضطر إلى الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر، ولاحقته الإساءات حتى موته في ١٥ تموز (يوليو) ١٩٠٥.

ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أصبح البنطلون والقميص/ البدلة زيّ أغلب أهل المدينة، لكن ظلّ من مصائب الدهر أن يرتديه زائر إلى القرية المصرية، على حدّ تعبير فريد أبو حديد؛ لأنّه من المنظور الريفي “ملابس قليلة الحيا تُجسم عورة الرجال”، ثمّ تدريجيا تقبّله مجتمع القرية في غير الصلاة، ثم تقبّله في الصلاة لغير الإمام، ثم تقبّله من الإمام باستثناء صلاة الجمعة، وأخيرا تقبّله في مختلف الأحوال، فالعادات والتقاليد الاجتماعية وإنْ كانت جديرة باحترام ما تحمله من خصوصية ثقافية إلا أنّ المُنتِج لها في النهاية المجتمع بدافع من حاجاته القابلة للتغيير.

كذلك ختان الإناث الذي نقله العرب في الجاهلية عن العبرانيين، والذي اليوم جريمة يُعاقب عليها القانون المصري، كان حتى سنة ١٩٩٥م شعيرة دينية يُتقرّب بها إلى الله، كما في فتوى الأزهر على لسان الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق ١٩٩٥م بأنه “اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنّه أمر محمود ولم يُنقل عن أحد من فقهاء المسلمين، فيما طالعنا من كتبهم التي بين أيدينا، القول بمنع الختان للرجال والنساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى إذا تمّ على الوجه الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة.. أم الاختلاف في وصف حكمه بين واجب وسنة ومكرمة فيكاد يكون اختلافا في الاصطلاح الذي يندرج تحته الحكم.

وإذا استبان مما تقدم أن ختان البنات المسئول عنه من فطرة الإسلام وطريقته على الوجه الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصح أن يترك توجيهه وتعليمه إلى قول غيره ولو كان طبيبا، لأن الطب علم والعلم متطور، تتحرك نظرته ونظرياته دائما… وفي الختان عامة نذكر المسلمين بما جاء في فقه الإمام أبي حنيفة لو اجتمع أهل مصر (بلد) على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه”.(2)

من أخطر أسباب الجهل والخرافة التي نعيشها اليوم “تغييب التفكير العلمي عن أقسام الدراسات الإسلامية والعربية” المنوط بها مراجعة وإصلاح الفكر الديني، فالاتجاه العام بداخلها يخاف من الوقوع في الخطأ؛ لأنّه يتصور الخطأ وسيلة للهلاك! بينما الخطأ هو الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، فتنفر أقسام الدراسات الإسلامية من التفكير النقدي الذي يجعل الباحث يُراجع أفكاره، ويختبر مدي صحّتها أولا بأول، شأن العقل البحثي الذي يشكّ في كلّ شيء، ويبدأ غير متأكد من كلّ شيء، فكلّ يقين يقع بين شكين شكّ يعقبه يقين، ويقين يعتريه شكّ، فمثل هذا التفكير هو القادر على الاكتشاف والمراجعة والمضي بنا في طريق الإصلاح.

***

أ. د. عبد الباسط سلامة هيكل

.......................

(1) الشيخ أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى سبتمبر ١٩٦١، ص١٧.

(2) الشيخ جاد الحق على جاد الحق، بيان للناس، ج٢، ص٢٢٢،٢٢١، القاهرة، طبعة جامعة الأزهر، نقل رأي أبي حنيفة عن الاختيار شرح المختار للموصلي ج٢، ص١٢١ في كتاب الكراهية، الفتاوى الإسلامية مجلد٩ ص٣١٢٠.

 

في المثقف اليوم